لا أصل للخلافة في الإسلام ! (8)
من تراب الطريق (950)
لا أصل للخلافة في الإسلام ! (8)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 6/10/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
ومؤدى إقرار الأستاذ السنهوري بأن ما بعد عصر الخلفاء الراشدين كانت الخلافة ناقصة ، طرأ عليها التوريث ، وافتقدت البيعة الحقيقية في اختيار الخليفة ، وافتقدت الشورى في ممارسة الحكم ، فإن لنا أن نخلص إلى أن رشد الخلافة في عهد الراشدين قائم على أشخاص غير متاح تكرارهم ، فهم تلقوا الإسلام من نبعه الأصيل ، وصاحبوا النبي عليه الصلاة والسلام , وأخذوا عنه ، واستمعوا إليه ، واقتدوا به ، فتحققت لهم من الصفات والإمكانيات ما لا يمكن أن نعتمد على اكتماله في كل شخص على مر الأزمنة والعصور ، وقد تحقق لهم هذا الأداء السديد الراقي ، لأن نظام الخلافة كان يقيدهم ويلزمهم ، وإنما لأنهم الذين التزموا وقيدوا أنفسهم بمقتضى قيمهم ومثلهم العليا وما فطروا عليه ، يؤكد ذلك أن أداء الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، لم يكن كأداء أحد من الخلفاء الأول والثاني والرابع ، برغم أنه قد تحقق له من التلقي عن الرسول وصحبته والاقتداء به ، بل وانفرد بأنه تزوج ابنتين على التوالي من بناته ، ومع ذلك لم يكن اضطلاعه بالخلافة وأداؤه فيها كأبي بكر أو عمر أو علىّ ، فكيف بآحاد الناس على مر العصور ؟!
وفى زمن الراشدين كانت « الأخوة » هي دستور العلاقة الإنسانية ، والتقوى والعمل الصالح هما قوام الأفضلية ، و« المساواة » هي المبدأ الذى يحكم جميع العلاقات .
فالمساواة حق أساسي للجميع في الإسلام ، ينتمى إلى شجرة باسقة ، في دوحة ظليلة ، لا يحول دونها التفاوت الذى يجرى واقعًا في الحياة ، وإنما هي حق لكل إنسان من حيث هو إنسان ، فلا فضل لأحدٍ إلاَّ بالتقوى والعمل الصالح ، ولا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر أو أسود إلاَّ بالتقوى ، وفى خطاب جامع موجه إلى الناس كافة لا إلى المسلمين خاصة ، يقول تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » (الحجرات 13) .
فحجر الزاوية في الإسلام ، وفى الحكم بين الناس ، أن أصل الإنسانية نفس واحدة : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا » (النساء 1) .. « وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ » (الأنعام 98) ، وعلى نفس المعنى جرت عبارة الآية 189 من سورة الأعراف .
العدل صنو المساواة
وفى حكومة الراشدين ، كان الخلفاء الراشدون يعطون القود من أنفسهم إقرارًّا بمبدأ المساواة ، وساووا في مجلس القضاء بين الكافة ، ولم يتوان عمر عن المساواة فى مجلس قضائه بين الإمام علىّ ويهودي اختصما إليه ، ولا استنكف الإمام علىّ من هذه المساواة ، يحكم الجميع المبدأ القرآني « وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ » (النساء 58) ، ولا يصرف عن وجوب العدل قرابة أو شنآن : « وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ » (المائدة 8)
أمّا فى وجوب المساواة رغم القرابة ، فقد جاء بالقرآن المجيد : « وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى » (الأنعام 152) ، وأمر عَزَّ وجل بذلك فقال : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا » (النساء 135) .
هذه باختصار هي المبادئ التي اتسمت بها حكومة النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين من بعده ، حكومة مدنية لا ثيوقراطية ، قوامها الرشد والهداية ، وأساسها الشورى والعدل والمساواة .