كنت شاهدًا على العبور المجيد !
6 أكتوبر 1973
كنت شاهدًا على العبور المجيد !
بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
قُيض لي أن أكون شاهدًا على العبور الذي عبرته مصر، بقواتها المسلحة، يوم العاشر من رمضان / السادس من أكتوبر 1973.. ولكن شهادتي تجاوز هذا العبور، إلى عملية العبور الواسعة التي قطعتها مصر منذ انكساره نكسة يونيو 1967، حتى مشهد النصر الذي تجلى يوم العبور العظيم.
ارتبط مصيري بالقوات المسلحة من يوم جُندت بصفوفها في 17/9/1959 لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، فقطعت رحلتي التي بدأتها بالمحاماة، وانتظمت في خدمة الصفوف، ومنها إلى الكلية الحربية التي التحقت بها ضمن دفعة الجامعيين، وتخرجت في 29 أكتوبر 1961 برتبة ملازم أول بالقضاء العسكري، حيث اقتضى نظام التأهيل أن أخدم أولاً بالكتيبة الثانية باللواء السابع المشاة بالعامرية بالمنطقة العسكرية الشمالية، ومن هناك التحقت بالفرقة الأساسية بمدرسة المشاة، حيث تخرجت فيها بتفوق، بدأت بعده خدمةً طويلةً بالقضاء العسكري، أتابع من خلال عملي القضائي حقائق الأوضاع التي تجرى، ومنها العمليات العسكرية الجارية ببعيد باليمن، وما اقتضاه خوضها من وجود نسبة غير قليلة هناك من التشكيلات القتالية القوية، وما اقتضته طبيعة الظروف والمسار من عوادم لم تتح للقوات أن تكون في الأوضاع المناسبة حين شجرت حرب يونيو 1967، فكانت الهزيمة التي وقعت علينا كالصاعقة !
كنت أعمل وقتها بالإدارة العامة للقضاء العسكري، وأطلع بحكم القضايا التي أنظرها على خبايا وأحشاء ما يجري، ولكْن ما إن نشبت الحرب حتى تعلقت آمالنا بالنصر الذي نرجوه، وكانت وسيلتنا الوحيدة للإطلال على سير العمليات، هي تسقط الأخبار من الإذاعة التي يبدو أنه أُريد لها أن تعيش في وهم كبير، انتقل إلينا حتى دخلنا تل أبيب مع موجات الأثير، ثم كانت الصدمة الهائلة !
لم تستطع الرجولة ولا الصلابة العسكرية التي اكتسبناها، أن تحبس الدموع التي انثالت بغزارة تبكي مصر التي أهينت وهانت هذا الهوان، وتبكي المصيبة التي بدأنا نعاين أبعادها بعد انقشاع غبار الوهم الإعلامي، ولم يكن خطاب التنحي الذي صيغ ببراعة واستخدم في التعبير عن مسئولية ما حدث ـ عبارة «يجب أن تقع علىّ» بدلاً من «تقع علىّ» ـ لم يكن كافيًا لوقف النزيف الجاري في قلوبنا، ولا لوقف أطماع وشطحات المتسببين في هذه النكسة، فانفجرت أوضاع رهيبة لم تراع أن العدو رابض على الضفة الشرقية للقناة، ولا السلاح المدمر والضائع والمفقود، ولكن قَيَّضَ الله لمصر أن تنتفض على قلب واحد لرفض الهزيمة، والتمسك بالقائد ـ تعبيرًا عن الصمود ـ لقيادة المسيرة والنهوض من الكبوة لتحرير الأرض المصرية التي جثم عليها الاحتلال.
كان الجهد المطلوب هائلاً، والمهمة بالغة الصعوبة والدقة، تصدى لها قادة عظام لم يطلبوا المجد لأنفسهم، ولا سعوا إلى دوائر إعلام، ولا إلى شعبية خادعة.. شملت الجهود بناء جدار الثقة، وإعادة النظام والضبط والربط، وإعادة التسليح لجيش فقد معظم طائراته وأسلحته ومدفعيته ومدرعاته ومركباته، وبات مطالباً بتعزيزات جديدة تلاحق آلة الحرب الإسرائيلية التي تواليها الولايات المتحدة بكل جديد في الترسانة الأمريكية وفى سخاء عجيب !
بدأ عبد الناصر المهمة بشجاعة وصبر وثقة، وأدى لثلاث سنوات أحسن أداء أداه طوال مدة رئاسته، حتى إذا ما قطع أشواطًا، اختطفه الموت في سبتمبر 1971.. الشهر الذي كان قليل الحظ فيه، وليحمل السادات الراية، ويخوض الغمار في هذه الظروف الدقيقة التي تعيشها البلاد !
كنا نراقب بإشفاق الجهود الرائعة المبذولة التي كانت عينها أيضًا على الإنسان المصري، تكفكف قلقه بدشم هناجر الطائرات التي تُبْنَى على جانبي طريق القاهرة / الإسكندرية الزراعي، وغيره، بعد أن تفشت أنباء ضرب الطيران المصري على الأرض، وتفشت أنباء محاكمة الذين غشوا في مواصفات وخرسانات الدشم التي كانت قد بنيت لحماية الطائرات.. وتابع الناس، وتابعت، سباق إقامة المطارات ومهابط وممرات الطائرات لسرعة الانتشار وتحقيقًا للمدى المطلوب للقاذفات، وبناء قواعد الدفاع الجوي في عمق مصر وعلى الضفة الغربية للقناة لتلبية مطالب حرب صحراوية مكشوفة تكون السيادة فيها للقوات الجوية، وللدفاع الجوي الموكول إليه حمايتها ورد الطائرات المغيرة !! .. كنا في تجوالنا بربوع مصر، وميادين القتال، والأعماق المتوقعة، نعاين الجهود الهائلة لإنشاء شبكة طرق لازمة للعمليات، ووسائل التمويه لإخفاء ما يوضع تحت قنوات من المياه حتى لا تكشفه عيون الأرصاد.. ونتابع مع هذا كله المشاق البالغة في تسيير هذا كله مع مصاعب اقتصادية لم تكن خافية على العارفين، ومصاعب أكبر في التدريب ورفع مستوى المجندين، وفى تدبير وسائل التسليح وتنفيذ اتفاقياته ومغالبة تفوق بعض الأسلحة الأمريكية على الروسية في المدى أو في المواصفات، وتدبير التقنيات اللازمة لتجاوز هذه الفروق !!
تقطعت حبال الصبر ونحن نترقب معركة التحرير واسترداد الشرف والكرامة، والأيام تمضى بلا طحن ظاهر، حتى ساءت بالسادات الظنون، والرجل صامت يتعلل بتعلات غير الحقيقة المسكوت عنها حتى يصل والقوات المسلحة إلى الهدف المنشود وسط تلال من المشاكل والصعاب .
كنت أحمـل كل هـذا التاريخ وتلال المصاعب ومعها المرارة فـي صفحة وجداني وأنا أمارس في السادس من أكتوبر ـ العاشر من رمضان ـ يـوم عمـل عادى بإدارة المحاكم العسكرية.. كنا نطوى القلوب على جراح انكساره نكسة مُرة لم تندمل.. لم أتوقع كما لم يتوقع غيري، أن هـذا اليوم هـو اليوم الموعود لانفجار معركة استرداد الكرامة الجريحة.. حتى الساعة الثانية ظهرًا لم يكن اليوم يعنى بالنسبة لنا سوى أنه يوم عمل عادى من أيام شهر أكتوبر يوافق العاشر من رمضان، ولم أكن أعرف ولا عرف غيرى من الضباط ـ أنه قد حل بحلوله ميعاد استيفاء الحق، وأن هذا اليوم هو يوم فارق يتوج جهودًا رائعةً نجحت معها القوات المسلحة فـي إخفـاء هدفهـا التكتيكي بل والاستراتيجي إخفاءً تامًا حتى فوجئنا كما فوجئ العالم كله والقوات الإسرائيلية المحتلة ذاتها، بسماع بيان الهجمة الجوية الأولى على موجات الإذاعة المصرية ليتبعها دور القصف الصاروخي والمدفعي الذي هيأ للقوات البرية ـ وتحت الغطاء الجوي ـ عبور قناة السويس، ثم اجتياح تحصينات خط بارليف التي اندكت وتهاوت مع سقوطه الإرادة الإسرائيلية وأسطورة جيشها الذي لا يقهر، واستعادت القوات المصرية روحها وكرامتها وهى تخطو عبر القنال إلى التراب المصري الذي ظل تحت الاحتلال البغيض ستة أعوام !
احتمل السادات نفاد صبر الشعب وشائعات سوء الظن والتشكيك في نواياه وفى نية الحرب.. احتمل هذا كله وطوى ما يضمره، ونجح ومعه القوات المسلحة في إخفائه إخفاءً تامًا، حتى إنها عينت مجموعات من الصف ضباط والجنود يمرحون ويمصّون القصب على ضفة القناة تحت أشعة الشمس صباح يوم «ى» المحدد لبدء العمليات، لذلك كانت مفاجأة الحرب كاملةً وهائلةً، وإنجازها كبيرًا، ووقعها رائعًا.. كانت قلوبنا واجفة ونحن نتابع الضربة الجوية الأولى، وتابعنا لحظة بلحظة عبور القوات المصرية لقناة السويس في ملحمةٍ هائلةٍ تعانقت فيها قوات المشاة والمدفعية والمدرعات، مع قوات الصاعقة والإبرار الجوي والبحري، مع معابر ووسائل المهندسين العسكريين، تحت غطاءٍ صاروخي ومدفعي هائل، وطيران يملأ بنسوره السماء ويظل هذه القوات بمظلة وفرت لها الحماية وصَدَّت أي محاولة للطيران الإسرائيلي لتدارك ونجدة مواقعه ودشمه وموانع خط بارليف الحصين التي أخذت تتساقط تباعًا مع تقدم المدرعات والمشاة !!
لم يكن العبور يومها محض عبور لقناة السويس، وإنما عبرت مصر كلها من هزيمة طالت كل شيء، إلى أوج انتصار بهر العالم ، تحكى فصولَهُ دماءٌ مصريةٌ سالت بمياه القناة وعلى رمال الصحراء .
فوجئنا بالحرب، رغم أننا بالقوات المسلحة كما فوجئ بها آحاد الناس، وإذا كان الفضل يحسب لقادة عظام خططوا ودبروا وجهزوا ونفذوا، بيد أن الرئيس السادات كان «النهر الخالد» الذي صبت فيه وفي شجاعته وصبره كل هذه الجهود الرائعة.. لولا صبر السادات لما نجحت القوات المسلحة في إخفاء هدفها الإستراتيجي.. أُهين الرجل ولاحقته النكات فصبر !!.. وحين فسـر التأخير بأنـه «لضباب» ظهر في أخريات عام 1972، لاحقته نكتة « ضبابه جه » !! .. ولاحقه الكتاب بالاعتراضات وبالتعريض وبالاتهامات حتى نعتت الرجل بالخذلان والتخذيل وأومأت إلى ما هو أبعد، والرجل صابر يؤثر أن تحسب عليه كل هذه الأوزار ويتحمل كل هذه الاتهامات والطعنات، عن أن يكشف ما آمن أنه ينبغ أن يبقى سرًّا في طي الكتمان حتى تتحقق المفاجأة الإستراتيجية بالهجمة الجوية، وبعبور القناة، الذي دك الإرادة الإسرائيلية، قبل أن يدك حصوناً أو خطوطاً بناها بارليف أو غير بارليف !!
من حق السادات علىّ أن أسجل على نفسي أنني كنت ممن أساءوا به الظن، ومن حق المرحوم أستاذنا الكبير مصطفى مرعي أن أسجل له أنه بشجاعته قد دعاني إلى إعادة النظر في موقف السادات، مع أنه كان من غلاة ناقديه! فوجئت بالرجل الكبير يصارحني بأنه أخطأ في حق السادات، وأننا قد التبست علينا مقاصده، وأنه قد فدا مصر بحياته!
وقد قُيِّضَ لي شخصيًّا أن ألحق بميدان القتال، حيث نقلت إلى الجيش الثاني الميداني والحرب مندلعة على ضفتي القناة.. وفيما بين «أبو حماد» و«الإسماعيلية» ـ كانت رحلاتنا شبه اليومية تحت قصف المدفعية لعقد المحكمة العسكرية العليا بقرب خطوط النيران، حتى انتقلنا إلى قيادة الجيش الثاني بمعسكر الجلاء بالإسماعيلية.. لم يكن من الممكن أن أتخيل حجم وروعة ما حققته القوات المصرية المسلحة ما لم أشاهد وأرى من الخارج والداخل تحصينات دشم خط بارليف التي عصفت بها القاذفات والمدفعية ومشاة القوات المصرية !!
يومها وقفت مبهوراً متهدج الأنفاس ينثال مني دمع سخين يغسل أتراحًا تجمعت في القلب على مدار سنوات !!.. لم يكن نصر العاشر من رمضان / السادس من أكتوبر الذي رأيت آياته أمامي ـ لم يكن عبورًا فقط لهجمة جوية هدمت معاقل الاحتلال والعدوان ، ولا كان عبورًا فقط لقوات برية ومدرعة ومحمولة، عبرت مياه القناة وانطلقت تطهر الأرض المصرية من الدنس الذى جثم عليها ست سنوات، وإنما كان في واقعه ومحصلته النهائية عبورًا للإرادة المصرية، واجتيازًا لحاجز رهيب جَرَّعَنا الهوان لسنوات ، واستردادًا للكرامة والثقة، وآيةً على أن المصري حين يستقيم المناخ الذي فيه يعمل، وتنضبط وتخلص الإدارة التي تدير حركته وتنظم خطاه ، قادرٌ أن يجتاز المحال ، ويحقق الملاحم والمعجزات . هذا النصر صنعه أبطال عظام وساهم فيه جنود بسطاء، بذلوا أرواحهم بسخاء، وروت دماؤهم مياه القناة ورمال الصحراء في سيناء.
يومها أدركنا، كما ندرك اليوم بعد العبور الثاني وشق القناة الموازية لقناة السويس، أن مصر قادرة، وأن مصر تستطيع بعزم رجالها ـ أن تحقق ما تريد .