قانون البقشيش

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر ـ أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

في اليوم الرابع عشر من شهر نوفمبر 2025م، وفي إحدى حلقات برنامجه «آخر النهار»، والذي يتم بثه على قناة النهار، حكى الإعلامي تامر أمين واقعة حدثت في أحد المطاعم الراقية. وخلاصة هذه الواقعة أنه كان قاعداً في هذا المطعم، برفقة مجموعة من الأصدقاء، لتناول طعام الغداء. وأثناء وجوده في المطعم، لاحظ أن الشخص الموجود على الترابيزة المجاورة له قد انتهى من تناول طعامه، وهم بالانصراف ودفع فاتورة الحساب، حيث قام بدفع مبلغ الحساب بالفيزا. وبمجرد أن رأي النادل (الجرسون) المبلغ المدفوع، كان بادياً على وجهه الحزن. وبعد أن انتهى الأستاذ تامر أمين من تناول طعامه، وهم بدفع الحساب، جاء إليه نفس النادل، فسأله عن سبب غضبه عندما نظر إلى فاتورة الزبون السابق، فكان بينهما الحوار التالي:

الأستاذ تامر أمين: ما سبب غضبك عندما دفع الزبون السابق حسابه.

النادل أو الجارسون: تخيل يا أستاذ تامر أن فاتورة الطعام التي دفعها هذا الشخص كانت 4450 جنيهاً، ومع ذلك لم يدفع بقشيش سوى عشرين جنيهاً فقط.

الأستاذ تامر أمين: كم يبلغ راتبك، وماذا تفعلون بالبقشيش.

النادل أو الجارسون: أنا مرتبي أربعة آلاف جنيه، واعتمد بعد ذلك على البقشيش. البقشيش اللي بيتجمع من كل فاتورة من كل حساب بيتحط في صندوق، وآخر الشهر مجموعه بيتوزع علينا كلنا الجرسونات والشيفات وكل العاملين في المطعم.. يتجمع 1000 جنيه.. يتجمع 5000 جنيه.. كله بيتجمع وبيتقسم علينا.. ما بين الشيفات وعمال النظافة والجرسونات وغيرهم من العاملين في المطعم. هذا اللي بيكمل لي ده.. يطلع لي بقى 1000 جنيه.. يطلع لي 2000 جنيه فوق الأربعة، يبقى المجموع ستة آلاف. لكن بالمنظر بتاع العشرين جنيه ده مش هيطلع لنا حاجة آخر الشهر.

وتعليقاً على هذا الحوار، يقول الأستاذ تامر أمين إن الأربعة آلاف جنيه مبلغ قليل، متسائلاً عن السبب وراء عدم تطبيق الحد الأدنى للأجور على هذه الطائفة من العمال. وفي حالة تطبيق الحد الأدنى للأجور، على حد قوله، فإن المرتب ينبغي أن يبدأ بخمسة أو ستة آلاف جنيه. أما فيما يتعلق البقشيش، فيؤكد الأستاذ تامر أمين أن مبلغ العشرين جنيهاً قليل جداً، مذكراً بحلقة سابقة من برنامجه التليفزيوني، تناول فيها موضوع البقشيش الذي يدفعه الزبائن في محطات البنزين، مؤكداً على أهمية هذا البقشيش بالنسبة للعاملين في هذه المحطات، لاسيما وأن عمال محطة البنزين لا يتقاضون راتباً من الأساس، ويتم التعاقد معهم من قبل صاحب المحطة على أساس أن دخله كله يأتي من البقشيش. ومن ثم، يستنكر الأستاذ تامر أمين أن يقوم الشخص بدفع مبلغ ألف جنيه من أجل تموين سيارته، بينما يدفع عملة معدنية من فئة الجنيه أو جنيهين لعامل المحطة بقشيشاً. بل إن البعض قد لا يترك بقشيشاً على الإطلاق. وهنا، يرى الأستاذ تامر أمين أن البقشيش ينبغي النظر إليه على أنه نوع من التكافل المجتمعي والتواصل والتراحم. وعلى حد قوله، «اعتبرها صدقة». فهؤلاء الناس أحق بالصدقة من المتسولين.. والأولى أن تساعد العاملين في المطاعم ومحطات البنزين وخلافه من خلال البقشيش الذي يتم دفعه لهم، بدلاً من إعطاء المال للمتسولين والشحاتين. فهؤلاء الذين يعملون ويجتهدون في كسب قوت يومهم من خلال عرق جبينهم هم من يصدق عليهم قول المولى عز وجل: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (سورة البقرة: الآية 273). هذا العامل الذي لا يمد يده للسؤال والإحسان، عندما تأتي لك الفرصة لمساعدته، لا تتردد. وهذا أفضل من إعطاء الأموال للشحاتين الذين معظمهم، إن لم يكن كلهم، مافيا وعصابات إجرامية وعصابات تسول وعاملين نصبايا عليك. فأنا رأيي إنه جزء أساسي من تكافُلنا المجتمعي هو أن نفكر في الآخرين خاصة إذا كان الآخرون شرفاء ومحترمين ويأكلون لقمة عيشهم بعرق جبينهم، ويشتغلون ولا يمدون أيديهم ويساعدونا في بعض المهن. فهؤلاء أولى الناس بالإحسان والتصدق. والرسالة الثالثة التي يريد الأستاذ تامر أمين توصيلها تتعلق بأصحاب المطاعم أنفسهم، ناصحاً لهم بأن التوسعة في الرزق على العمال وزيادة راتب كل واحد منهم ألف جنيه سيحقق لهم نوعاً من الرضا النفسي، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة إخلاصهم واجتهادهم، ورفع مستوى الخدمة بما ينعكس إيجابياً على درجة رضا الزبون وسعادته بمستوى الخدمة وعودته مجدداً إلى المطعم.. زود كل واحد منهم ألف جنيه.. زود كل واحد منهم ألفي جنيه.. ستجدهم أكثر انتماءً للمكان.. أكثر خدمة للمكان.. أكثر الجودة في العمل.. الأمر الذي يعود عليك بالنفع في نهاية الأمر.

والواقع أن «البقشيش» هو أحد الموضوعات المثارة على مستوى العالم كله، وتختلف العادات والآراء حوله من مجتمع لآخر ومن شخص إلى آخر. وتفاعلاً مع هذا الاهتمام، حظي البقشيش باهتمام صناع السينما العالمية. ففي فيلمه الطويل (Reservoir dogs)، أي «كلاب المستودع»، يستعرض «كونتين تارانتينو» حواراً بين أفراد العصابة حول البقشيش، حين يطلب أحدهم من الآخرين أن يدفع كل واحد منهم جزءاً من البقشيش لنادلة المطعم، فيجيب (Mr Pink): «أنا لا أدفع بقشيشا». ويبدأ في شرح وجهة نظره، قائلاً: «أنا لا أدفع بقشيشا، لأن المجتمع من حولي يجبرني على ذلك، ربما أدفع إذا رأيت أن هذا الشخص بذل حقا ما يستحق أن أدفع من أجله بقشيشا. لكن لن أدفع البقشيش بشكل أتوماتيكي لشخص يؤدي عمله … وماذا عن العاملين في مطعم ماكدونالدز؟ لماذا لا تشعر أن عليك منحهم بقشيشا رغم أنهم يقومون بالوظيفة نفسها ويقدمون لك طعامك؟ لكن لا، فالمجتمع من حولك يقرر من الذين تدفع لهم بقشيشا ومن لا».

وما لا يعلمه الكثيرون أن القوانين المقارنة قد اهتمت بوضع إطار قانوني عام لموضوع «البقشيش». وفيما يتعلق بالقانون المصري، فإن المادة 684 من القانون المدني المصري رقم 131 لسنة 1950م تنص على أن «1- لا يلحق بالأجر ما يعطى على سبيل الوهبة إلا في الصناعة أو التجارة التي جرى فيها العرف بدفع وهبة وتكون لها قواعد تسمح بضبطها.

2- وتعتبر الوهبة جزءاً من الأجر، إذا كان ما يدفعه منها العملاء إلى مستخدمي المتجر الواحد يجمع في صندوق مشترك ليقوم رب العمل بعد ذلك بتوزيعه على هؤلاء المستخدمين بنفسه أو تحت إشرافه.

3- ويجوز في بعض الصناعات كصناعة الفنادق والمطاعم والمقاهي والمشارب، ألا يكون للعامل أجر سوى ما يحصل عليه من وهبة وما يتناول من طعام».

وهكذا، يجيز القانون ألا يكون للعامل أجرُ سوى ما يحصل عليه من وهبة وما يتناول من طعام. ومن ثم، قد يرى البعض أنه لا مجال لتطبيق الحد الأدنى للأجور في هذه الحالة. وفي اعتقادنا أن الحد الأدنى للأجور واجب التطبيق في جميع الأحوال. فلا يكون مقبولاً أن تستبعد بعض طوائف العمال من هذا الحكم. وفي المقابل، قد يرى البعض أن طبيعة المشروعات الصغيرة والمتوسطة والعمل في المطاعم ومحطات البنزين قد تقتضي تبني نهج مختلف، حتى لا يتحول الحد الأدنى للأجور إلى عبء ثقيل على صاحب العمل، بما يؤدي في النهاية إلى توقفه تماماً عن ممارسة نشاطه، وخروجه بالتالي من سوق العمل. وهذه الوجهة من النظر لها وجاهتها لا جدال في ذلك. وللوصول إلى حل وسط في هذا الشأن، نرى من الملائم الإشارة إلى أن اللوائح المنظمة للنشاط الاقتصادي والسياحي في وقتنا الراهن تسمح للمنشآت السياحية والمطاعم بتحصيل ما يطلق عليه «رسم الخدمة» أو «مقابل الخدمة». وهذا الرسم قد يكون 10% أو 15%. وهذا الرسم أو المقابل يتم تحصيله بشكل إلزامي، فلا توجد مكنة أو إرادة للعميل أو الزبون في دفع أو عدم دفع مقابل أو رسم الخدمة. وما دام الأمر كذلك، فنعتقد من المناسب تنظيم موضوع مقابل الخدمة، وتحديد الفئات المستفيدة منه وكيفية التصرف فيه، وبحيث يكون «مقابل الخدمة» بديلاً منظماً وراقياً للبقشيش أو ما يطلق عليه الإكرامية.

ومن ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى أن بعض المطاعم والمنشآت السياحية تفرض ما يطلق عليه الحد الأدنى للطلب (Minimum charge). والمقصود بهذه الممارسة هو فرض حد أدنى لما يجب على الزبون أو العميل دفعه في المطعم، مقابل الخدمة أو المنتج، حتى لو كان استخدامه أقل من المبلغ الإجمالي. ويضمن هذا الحد تغطية البائع لتكاليفه الثابتة، كالعمالة والمعدات والوقود، حتى للطلبات الصغيرة أو فترات الخدمة القصيرة. ومن الأمثلة على ذلك الحد الأدنى للإنفاق في المطعم، أو الحد الأدنى للأجر بالساعة للحرفي. ونعتقد أن الحد الأدنى للطلب يشتمل على مقابل الخدمة، ولا يسوغ بالتالي مطالبة العميل أو الزبون بدفع بقشيش في حالة إلزامه بدفع الحد الأدنى المشار إليه. وهذه نقطة أخرى تتطلب التنظيم والحوكمة، ولا تترك للممارسات العرفية. وقد يكون من المناسب أن يحظر المشرع هذه الممارسة أو على الأقل يقوم بتقنينها مع بيان أوجه التصرف في المبلغ الزائد عن المقابل الفعلي للخدمة أو السلعة، وما إذا كان يتم اقتسامه بين صاحب العمل والعمال أم يتم توزيعه على العمال فقط.

وتبدو أهمية تنظيم البقشيش في توفير البيئة المناسبة لتشجيع القطاع السياحي، والحرص على أن تكون الأمور كافة منظمة ولا تخضع للأهواء أو الاستغلال من قبل البعض، لاسيما وأن السائحين يأتون من بلدان مختلفة، وتختلف العادات المتبعة في هذا الشأن من بلد إلى آخر. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، ينتظر منك دفع البقشيش بشكل شبه إجباري، بينما في اليابان يعتبر الأمر وقحاً. وقد يعتبره البعض إهانة للشخص الذي يقدم له. وفي بعض الدول التي يؤدى فيها رسم للخدمة، لا يكون مطلوباً من العميل أو الزبون دفع بقشيش، ولا يحتاج بالتالي إلى دفع أي مبلغ لمقدم الخدمة. وفي دول أخرى، ورغم قيام الزبون بدفع مقابل للخدمة، يتوقع النادل أو العامل منه دفع بقشيش. ففي بعض الدول، وعلى الرغم من إضافة رسوم الخدمة إلى الفاتورة، فإن هذه الرسوم تذهب للمالك، ولا يحصل منها العمال على شيء، ويتوقع أن يضيف الزبون من 5 إلى 10% من إجمالي الفاتورة. وإزاء اختلاف العادات من بلد إلى آخر، وحرصاً على تنظيم الأمور ولاسيما في المنشآت السياحية، يبدو من المناسب تنظيم الموضوع بنصوص قانونية واضحة ومعلومة.

ولكل ما سبق، نرى من المناسب أن يتدخل المشرع المصري بوضع تنظيم شامل لموضوع البقشيش، على غرار ما فعلت بعض التشريعات المقارنة، كما هو الشأن في القانون الإنجليزي وقانون مقاطعة كيبيك الكندية والقانون الفرنسي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى