في دوحة الإسلام (71)
في دوحة الإسلام (71)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 9/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية
من نور الله وكمال رعايته ورحمته، تثبيت فؤاد نبيه المصطفي عليه الصلاة والسلام.. فيقول له في مستهل سورة يوسف: « نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ » (يوسف 3).
ويروى له تبارك وتعالى ما كان من قصص الرسل والأنبياء قبله، وما لاقوه وجاهدوه.. ليثبّت فؤاده ويقوّيه على النهوض برسالته ـ وموعظة وذكرى للمؤمنين..
يقول له تبارك وتعالى في سورة هود:
« وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ » ( هود 120 )
نوح وعناد قومه
تطالعنا سورة هود في القرآن الكريم، بما كان من دعوة نوح عليه السلام إلى ربه، وما كان من قومه عنادًا وتعنتًا وإنكارًا ومكابرة !!
لم يطلب منهم نوح عليه السلام مالاً ولا رئاسةً، ولا جاهًا ولا منفعةً.. وإنما دعاهم إلى التوحيد وعبادة الله رب العالمين، والكف عن عبادة سواه.
تروى ذلك الآيات الكريمة، فتقول:
« وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ » ( هود 25، 26 ).
بيد أن العناد هو طبع المجادلين، لا يأنسون للحق والصواب، ويتذرعون الذرائع ويفتعلون الأسباب للعناد والرفض والإنكار..
لم يردوا على هذه الدعوة الصافية المتجردة من كل نفع شخصي، بحجة أو بذريعة أو بتعلّة تنال منها، وإنما أمعنوا في العناد يقولون بغير عقل فيما يرويه لنا القرآن الكريم:
« فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ » ( هود 27 ).
لم يأخذوا على « الدعوة » شيئًا يردها أو ينفيها، وإنما أخذهم تكبّرهم وتعاجبهم أن يكون نوح هو الداعية لهم؛ وما هو إلاَّ بشر مثلهم.. وأن المتبعين له من الأراذل الذين لا رأي لهم !!
تقول الحكم السيارة، اعرف الحق تعرف أهله.. ولكن هؤلاء يعكسون الآية، فلا يناقشون الصواب أو الخطأ في الدعوة، وهي تحمل عناصرها الذاتية، ولا تستمدها من صفات التابعين أو المشايعين..
وأمعن هؤلاء المعاندون فاستكبروا على الفقراء أن يكون لهم رأي، فإنهم من الأراذل الذين لا رأي ولا قيمة لهم..
حاجاهم نوح عليه السلام بما أُمِر به من ربه تبارك وتعالى، فطفق يقول لهم فيما ترويه الآيات البينات:
« قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ » ( هود 28 ـ 31 ).
أَنَّى لهؤلاء الكفار المعاندين المنكرين أن يعملوا عقولهم ويستفتوا قلوبهم، فقد أعماهم الضلال وصُمت آذانهم عن سماع الحق، بهم عَمىً في البصيرة أشد من عماء العيون، وفي آذانهم وقر.. لا يسمعون ولا ينصتون. يقولون لنـوح فيمـا ترويـه الآيـات الكريمة:
« قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » ( هود 32 ـ 34 ).
ما حاق بقوم نوح الذين عاندوا بمن فيهم ابنه حتى أغرقهم الطوفان، هو عبرة من العبر العظيمة التي حَفَلَ بها القصص القرآني..
سبحانه القائل لنبيه في كتابه العزيز:
« قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ » ( الروم 42 ). صدق الله العظيم
لا عقول تفهم، ولا أبصار ترى، ولا آذان تسمع، ممن يصدق عليهم قـول الله تعالى:
« أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » ( الروم 8، 9 ).
من فضل الله
من فضل الله تعالى علينا، أنه خلقنا على الفطرة السليمة، وهدانا هداية عامة بما أودعه فينا من المعرفة ومكّننا من أسبابها، وما أنزله إلينا من الكتب وأرسله من الرسل.
في مكنة المخلوق، بما هيأه الله له، أن يعرف بالحق ومحبته له، وقد هدى سبحانه كل عبد إلى أنواع من العلم يمكنه التوصل بها إلى الإيمان وإلى صلاحه في الدنيا وإلى سعادة الآخرة، وجعل في فطرته محبة ذلك.
ولكن من الناس يعاند ويخالف، ويعرض عن طلب علم ما ينفعه، فلا يريده ولا يعرفه، فيقع في الشر، ولا شك أن العلم بالشر خيرٌ من الجهل به، لأن العالم بالسوء يتجنبه بحكم الفطرة السليمة التي خلقنا الله عليها.
من نأي بنفسه عن الشرور، وتمثل بالفطرة، وأدرك نعمة الحياة، أثمرت له محبة الله وإجلاله وتعظيمه والحياء منه ومراقبته وطاعته، وفي ذلك نجاة النفس وفلاحها بهذه الحياة.. وهي حياة دائمة سرمدية لا تنقطع، وغيرها ضالة مضلة، معذبة وشقية.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز:
« سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى * قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى » ( الأعلى 10 ـ 15 )
من المواقف العمرية
لا يشبع المبحر في سيرة عمر بن الخطاب من المواقف الرائعة التي خطّها هذا الصحابي الجليل، والخليفة العادل، والفاروق عن حق واستحقاق..
روى نافع عن مولاه « ابن عمر »؛ فقال:
قَدِمت رُفْقة من التجار، فنزلوا المسجد بتجارتهم، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن نحرسهم الليلة، فأجابه بالإيجاب، فباتا معًا يحرسانهم، ويصليان ما كتب الله لهما..
* * *
سمع عمر بن الخطاب وقد أرخى الليل سدوله، سمع وهو بالمسجد بكاء صبى، فتوجه إلى الصوت، وبادر لأمه: اتقي وأحسني إلى صبيك !.
ثم عاد إلى مكانه، فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه، وفعل ذلك مرتين، فلما كان آخر الليل سمع بكاءه، فعاد إلى أمه ليقول لها:
« وَيْحك ! إنىي لأراك أمَّ سوءٍ ! ما لي لا أرى ابنك يَقَرُّ ( أي يهدأ ) منذ الليلة ؟! »
* * *
قالت له الأم: يا عبد الله، قد أبرمني ـ أي أضجرني ـ منذ الليلة إلى أربعةٍ من الفطام.. أي بسبب الفطام.
سألها عمر: ولمَ ؟
قالت: لأن عمر لا يفرض راتبًا إلاَّ للفطيم ـ أي المفطوم !
وبعد أن سألها عمر عن المفروض لطفلها، قال لها: « وَيْحك: لا تُعْجِليه ! أي لا تعجلى فطامه.. وعاد ينشد الصلاة »
* * *
صلَّى عمر بالناس، وقد غلبه البكاء، فلما صلّى سألوه ما يبكيه ؟
قال: يا بُؤْسى لعمر ! كم قتل من أولاد المسلمين ؟!
وأمر مناديًا أن ينادى في أرجاء المدينة: لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، وإنَّا نفرض لكل مولود في الإسلام.
وسارع يكتب إلى الآفاق أن يفرضوا لكل مولود عطاءً..
* * *
يقول الله تعالى في كتابه العزيز:
« ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ » ( البلد 17، 18 )
وهكذا كان عمر رضى الله عنه، من الذين سمعوا قول الله فأطاعوه، سبحانه القائل:
« إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا » ( النساء 58 )
صدق الله العظيم