في دوحة الإسلام (68)
في دوحة الإسلام (68)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 19/5/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
نبدأ حديثنا بصفحة وضَّاءة من صفحات النبوة، وكلها رائعة وضَّاءَة، تروى لنا بعض ما تحمَّله الرحمة المهداة ـ عليه الصلاة والسلام ـ من عناء ومكابدة لينهض برسالته التي اصطفاه الله لتبليغها والقيام بها.
الرحمة المهداة
في السنة العاشرة من المبعث، ولم ينصرم بعد عام الأحزان الذي ودّع فيه عليه الصلاة والسلام عمّه الأثير ونصيره أبا طالب، ثم زوجته خديجة عليها الرضوان بعده بأيام، وزاد ائتمار قريش على المزيد من إيذاء النبي، واجتراء السفهاء والغلمان عليه، حتى ضاقت أرض مكة بما رحبت، وعانى عليه الصلاة والسلام والمسلمون عناءً شديدًا.. بيد أن الرسول مصطفي من ربه لتبليغ رسالة عليه إبلاغها. فماذا يفعل وقد تكاتفت عليه كل قوى الشر !!
لم يثنه عليه السلام ـ لم يثنه هذا الأذى، ولم يخفه طغيان المشركين، فتطلـع إلى الطائف، لعلّه يبلغ مع أهلها ما يفرج ما يلاقيه المسلمون من كربات طواغيت قريش وكفار مكة !
في ليلة من ليالي شوال، في السنة العاشرة للمبعث، غادر الهادي البشير بيته مترجلاً مستترًا عن عيون قريش بظلام الليل البهيم.. لا مطيّة ولا راحلة تحمـل زاده، وحيـدًا بلا رفيق إلاَّ إيمانه بالله عز وجل وبالرسالة التي بُعث لتبليغها..
على قدميه الشريفتين بدأ عليه الصلاة والسلام رحلته الشاقة الطويلة.. يسير ليلاً اتقاءً للعيون وقيظ الصحراء اللافح !!، ويأوى نهارًا إلى أي ظل ينام تحته ويأخذ بعض الراحة من عناء ما يتحمله.. وتمضى الأيام وهو إلى مقصده بالطائف يسير.. يومًا وراء يوم، عبر الصحراء القاحلة، فؤاده مشدود إلى الله، وغايته إلى الله..
بعد أيام يصل الهادي البشير عليه السلام إلى مشارف الطائف، تطل منها من بعيد الحدائق الغنّاء والرياض الخضر.. ويتلمس عليه الصلاة والسلام أحدًا من ثقيف يتحدث إليه، فيقصد دار أبناء عمرو بن عوف من ثقيف: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب.. وكان أحدهم قد تزوج امرأة من قريش من بنى جمح.. يتحدث إليهم عليه الصلاة والسلام، ويبين دعوته إلى الله تعالى ونبذ عبادة الأصنام، ولكنهم يسخرون منه، ويردّونه ردًّا عنيفًا، فينصرف حزينًا آسيًا دون أن يعلق بشىء على ترهاتهم..
في أزقة الطائف، طفق الهادي البشير يسير، فلم يدعه السفهاء وحاله، وسلط عليه السفهاء الثلاثة من قعدوا له في طريقه صفين، وأغروا به السفهاء والغلمان والعبيد.. يسبّونه ويصيحون به أن أُخرج من بلدنا، حتى اجتمع عليه الناس وسدّوا أمامه الطريق !!
لا يجد النبي المصطفي سبيلاً للمرور من بين هؤلاء المتكتلين.. وجعلوا يقذفونه بالأحجار.. لا يرفع رِجلاً ولا يضع رِجلاً إلاَّ رضخوها بالأحجار حتى دميت رجلاه وتخضبت نعلاه بالدماء.. كلما أذلقته الحجارة، قعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه ويقيمونه، فإذا مشى يرجمونه وهم يتضاحكون مستهزئين !
بعد جهد جهيد، استطاع الهادي البشير أن يستخلص نفسه منهم بمشقة بالغة، فيخلص إلى ظل نخلةٍ وكرمةِ عنب وهو مكروب موجوع مخضب القدمين والساقين بالدماء..
لا يكاد عليه الصلاة والسلام يكفكف بعض مصابه، حتى اكتشف أن الظل الذي أوى إليه، هو لعتبة بن ربيعة وشقيقه شيبة.. وقد سبق أن تظاهرا مع قريش للكيد له وإيذائه.. وها هى الأيام ترميه بهما في الطائف، حيث التمس الخروج من حصار قريش للدعوة وأذاها الذي اشتد منذ عام الأحزان !! فهل تُراهما يعدلان ولو قليلاً عن عداوتهما ؟!
استند الهادي البشير عليه الصلاة والسلام إلى الجدار وظل الكرمة، وقد بلغ به النزيف والإعياء كل مبلغ.. تهتاج مشاعره من الضيم الذي يلاقيه والعذاب الذي يتحمله، فتسيل عبراته ويتجه داعيًا إلى ربه.
« اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس.. يا أرحم الراحمين.. أنت رب المستضعفين وأنت ربى.. إلى من تكلني ؟! إلـى بعيـد يتجهمني، أو إلى عدوٍّ ملّكته أمرى ؟!! إنْ لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالـى.. ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو تحل علىّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاّ بك ! »
وكأن المشهد قد هَزَّ مشاعر ابنى ربيعة، فرَقَّ قلباهما وأرسلا إليه مع غلامهما عداس، قطفًا من العنب.. بيد أن « عداس » يعود إليهما مبهورًا بما آنسه في الهادي البشير، يقول لهما: يا سيدى ؛ ما في الأرض خيرٌ من هذا الرجل.. لقد أعلمني بأمورٍ لا يعلمها إلاَّ نبي.. وأنه لا يمكن لمثله أن يدعو إلى شرٍّ أو يغرى بفساد، بل لا يأمر إلاَّ بمعروف، ولا يقول إلاَّ حقًّا.. ويطوى عداس قلبه على إيمان تغشّاه وعمر قلبه بضياء عميق.
في طريقه الشاق الطويل، عائدًا إلى مكة، بعد أن لاقى ما لاقاه من ثقيف والطائف، يسائل نفسه.. ترى كيف يستقبله طواغيت قريش الذين طال إيذاؤهم له، وقد علموا مـا لا بد قد علموه من أمر ما فعلته ثقيف والطائف به !
وإنه عليه الصلاة والسلام لفي طريق عودته حزينًا مهمومًا، يلمّ به هاتف من الوحى أن الله تعالى، مطبقٌ على قومه الأَخْشبين ( وهما جبلان متقابلان )، خاسف بهم الأرض.
ولكن الرحمة المهداة، عليه الصلاة والسلام، يقول لجبريل بفيض رفقه ورحمته:
« بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله عز وجل ولا يشرك به شيئًا ».
حقيقة الإيمان
الإيمان ليس كلمة تُنْطق باللسان، ثم يغسل الناطق يديه وضميره ووجدانه منها.. الإيمان اتجاه غامر إلى الله عز وجل، وعبودية تامّة له.. يقول لنا الخالق البارئ جل شأنه في كتابه العزيز:
« أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ » ( العنكبوت 2 )
* * *
هل يتخيل الناس أن يُتركوا لمجرد قولهم آمنا دن يلتزموا بمعنى الإيمان، ودون أن يُمتحنوا لتبين حقيقة أحوالهم وما هم عليهم في أعمالهم وسلوكهم.. لذلك تقفي الآيات التالية من سورة العنكبوت، فتقول بلسان الحق تبارك وتعالى:
« وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ » ( العنكبوت 3، 4 ).
بئس خيال وغرور من يظهر الإيمان بلسانه، ويسوء باطنه ليرتكب السيئات بجوارحه.. فعِلم الله تعالى واسع محيط، يعلم خائنة الأعين وما في الصدور.. وما يظن السادر في غيّه أنه محجوب، فإنه ظن ملبوس.. قد يحتال السادر على الناس، ولكن حيلته مردودة معلومة عند ربه..
خيار الإنسان موكول إليه، محسوب له أو عليه، بوصلته الحقة في الرجاء بلقاء الله عز وجل. يقول سبحانه وتعالى:
« مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ » ( العنكبوت 5 ـ 7 ).
الابتلاء الإلهي ابتلاء أي امتحان بالحجب والمنع، وبالعطاء والتيسير.. وكلاهما دالٌ على استقبال الآدمي وصدق بلائه من عدمه. يقول تعالى:
« وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ » ( محمد 31 )
ويقول عز من قائل: « لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » ( الملك 2 )
ثم ليس للإنسان إلاَّ ما سعى إليه، إن خيرًا وإن شرًّا، إن جهادًا وصبرًا، أو تفريطًا وطغيانًا..
يقول عز وجل: « وَأَن لَّيْسَ للإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى » ( النجم 39، 40 ).
والابتلاء في حالتيه نعمة، إما على الشكر، وإما على الصبر..
وصدق جل علاه إذْ يقول في كتابه العزيز:
« وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ » ( الأحقاف 19 )
صدق الله العظيم
* * *
- من سكنت عنه هواجس نفسه بصدق مجاهدته، نطق بيان قلبه بحكم مكابدته.
- أحيانًا ما يتجاور الحق والباطل، ولكن هذا الجوار لا يجعل الحقَّ باطلاً، ولا يجعل الباطلَ حقًّا.
- من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص ؛ زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع الهدى والسنة.
- لا يشرق قلب من انصرف بالدنيا عن وجه الله عز وجل.
ولا يرحل إلى الله، من كان مكبلاً بشهواته.
- من حُسنِ أدب الإنسان مع ربه، أن يؤثر مراده سبحانه على ما يختاره هو أو يتمناه !