في دوحة الإسلام (62)

في دوحة الإسلام (62)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 31/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

المحجة البيضاء

في سورة آل عمران، مقارنة ربانية بين الكفر ومأواه، والتقوى ومآبها.. يقول تبارك وتعالى مواسيًا رسوله المصطفي عليه الصلاة والسلام:

« لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ » ( آل عمران 196 ـ 198 )

وإذا كانت الآيات القرآنية تتجه بخطابها إلى رسول القرآن عليه الصلاة والسلام، فإنها تتجه بمعناها إلى المؤمنين كافة؛ في كل زمان ومكان.. تريدهم أن يطمئنوا إلى أن علم الله تعالى واسع محيط، وأنه يعلم خائنة الأعين وما تطويه الصدور، وأنه جل جلاله يُمهل ولا يُهمل،  فلا يغرنّهم عبث الكافرين وتقلبهم في البلاد، وتطاولهم على الحق،  ونكرانهم لنعم الله وآياته، فإنه متاع مؤقت قليل، تشهد على ذلك صفحات التاريخ، ثم مأواهم في النهاية جهنم وبئس المصير والمهاد.

وفي المقابل تورد الآيات الكريمة ـ الوعد الإلهي للذين آمنوا واتقوا ربهم، والتزموا الصراط المستقيم، وأقبلوا على الطاعات، ولفظوا المنكرات، وكانوا آية الإسلام إلى الدنيا.. صلاحًا وبرًّا واستقامةً.. أولئك يأتيهم الوعد الرباني بأن مآبهم حسن الثواب، لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها، ينعمون بالرضا والخيرات، نُزلاً من عند الله، وما عنده لا ينفد، وهو خيرٌ للأبرار..

ومن يتابع تلاوة الآية القرآنية التالية، يرى أن الله تعالى لم يصم بالكفر من يدينون بالأديان السماوية التي نزلت قبل الإسلام، وإنما هم في السياق القرآني، وفي آيات أخرى عديدة: « أهل الكتاب ».. وهم ليسوا كلهم سواء. يقول سبحانه وتعالى: « وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ » ( آل عمران 199 )

الله سبحانه وتعالى أعلم بعباده، وأعلم بما في قلوبهم ونيّاتهم وسرائرهم، ولم يدع سبحانه لأحد أن يحكم على غيره، فالحكم لله تعالى..

ومن يقرأ القرآن الكريم، ويتفهم ما ورد فيه، يعرف أن النصارى واليهود هم « أهل الكتاب » في القرآن الحكيم، ليسوا كفارًا ولا ملحدين ولا مشركين.. أحل الله لنا ما أحله لهم، وأحل لهم ما أحله لنا، وأباح للمسلمين الزواج بالكتابيات.. حسبما ورد في الآية الخامسة من سورة المائدة.

وعن أهل الكتاب، قال سبحانه في كتابه العزيز: « لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ » ( آل عمران 113 )

ويقول لنا الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز، في خطاب موجه للناس كافة،

لا للمسلمين خاصة:

« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ  » ( الحجرات 13 )

هداية ضال

يتحدث الرواة بأن رؤوس قريش وكبارها كانوا مجتمعين بمنتداهم بظاهر الكعبة، وقد ضاقت صدورهم من تزايد المؤمنين بمحمد، فأتاهم من يخبرهم أنه قد حضر بصحن الكعبة الشريف الشاعر الأوسي: الطفيل بن عمرو الدوسي، فبادروا إليه يحيونه بتحية الجاهلية، ويبادرون بتحذيره من رجل ظهر بين ظهرانيهم، قد أعضل بهم وفرّق جماعتهم وشتت

أمرهم.

فسألهم الطفيل مندهشًا كيف يكون ذلك وهُم من هُم  ؟!

قالوا إن قوله كالسحر، يفرّق بين الرجل وأخيه وزوجته وأهله، وإنهم يخافون عليه منه، وجعلوا ينصحونه بألاّ يسمع إليه.

بدا أن الطفيل قد اقتنع بما قالوه له، فأمعن في الاحتياط قبل أن يتجه في اليوم التالي لزيارة البيت العتيق، فحشا أذنيه بالكُرْسف ( كالقطن ) احتياطًا من سماع شيء مما يقوله محمد الذى حذّروه من الاستماع إليه.

ويتحدث الرواة بأنه حين دخل إلى صحن الكعبة شاهد رجلاً يصلى عند الكعبة، وأخبره أحد القرشيين بأنه محمد الذي حدثوه عنه.. فجلس الطفيل بعيدًا عنه، وجعل يختلس النظر إلى صلاته..

ما يحس الطفيل بعد برهة ـ إلاّ بأن قوة خفيّة تدفع به إلى حيث كان النبي عليه السلام قائمًا يصلى، فلم يقاوم فضوله إلى الإنصات إلى ما يتلوه، فسمع عجبًا يدخل إلى قلبه.

طفق الطفيل يحدث نفسه.. واثكْل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفي علىّ الحسن من القبيح، فما يمنعني من أسمع من هذا الرجل، إن كان ما يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته..

*          *          *

بدار النبي عليه السلام، يستأذن عليه الطفيل بن عمرو الدوسي فيأذن له، فيبادر قائلاً: « لقد حذرني قومك منك، وقالوا فيك ما قالوا، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذنىْ بكُرْسف لئلا أسمع قولك ».

نظر إليه الرسول متسائلاً.. فماذا يا طفيل ؟!

فأجابه بأن الله أبى ألاَّ أن يسمع قوله، فسمع قولاً حسنًا، وطلب إليه أن يعرض عليه أمره..

طفق الهادي البشير يتلو عليه شيئًا من القرآن، ويشرح له الإسلام، فإذا بالرجل قد تغشّاه نور وهدى لا يخفيه، فقال للنبي مبهورًا..

« والله ما سمعت قولاً قط أحسن مما سمعت، ولا أمرًا أعدل منه.. وإني لأشهـد أن لا إله إلاَّ الله، وأنك رسول الله ».

*          *          *

أبَى الطفيل أن يغادر مكة إلاَّ بعد أن يستأذن في نقل الدعوة إلى قومه، وانصرف مشيعًا بدعاء الرسول عليه السلام له وبأن يجعل الله له آية..

وينقل رواة السيرة، أن الطفيل ما إن أشرف على مضارب قبيلته « دوس » وأطل عليهم على مورد الماء، حتى أحسّ بأن نورًا يشع من بين عينيه، فأقدم على أبيه وقومه فجعل يقول له ولهم.. قد أتيت محمدًا بمكة، فأسلمت وتابعت دينه.. سمعت يا أبت منه قولاً ما سمعت أحسن منه قط، ولا رأيت أعدل منه.. عرض علىّ الإسلام فانفتح قلبي له، فصدقته.. وآمنت به..

*          *          *

أقبل عليه أبوه وابنه وقومه، ينصتون إلى ما سمعه عن الإسلام من محمد.. فما هي إلاّ أن سمعوا وتأمّلوا، حتى فاضت عليهم بشارة الهداية، وأقبلوا تباعًا على الشهـادة بـأن

لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله..

*          *          *

#  سُئل أحد الحكماء من الزمن الأول: « ما الغنى ؟ » قال: « الأمن بالله تعالى ».

# معرفة الله توجب على العارف أن يعرف بقلبه أنه لا معطى غيره،

ولا مانع غيره،

ولا نافع غيره،

ولا ضار غيره

سبحانه………

العداوات صناعة آدمية

أمّا الأديان والمدونات المقدسة فتفيض بعطر المحبة والإخاء !

من الصوفيات: الدنيا للصوفي كدار الغربة: ليس له فيها ادخار، ولا له فيها استكثار.

من أقوال ذي النون المصري: « من قنع استراح من أهل زمانه واستطال على أقرانه ».

كتب الصوفي أبو يعقوب الرازي إلى الجنيد يقول: « لا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك إن ذقتها لم تذق بعدها خيراً أبداً  ! »

من أقوال أحد الصوفية: « العاقل: من دبر أمر الدنيا بالقناعة والتسويف.. ودبر أمر الآخرة بالحرص والتعجيل ».

 

زر الذهاب إلى الأعلى