في دوحة الإسلام (60)

في دوحة الإسلام (60)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 17/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

باحة الإسلام

الإسلام دعوة « عالمية »، ليس فقط لأنه قدم للعالم الحضارة الكبرى، وإنما أيضًا لأنه يتعايش مع كل الأديان والحضارات، تعايش سلام وتعايش حضارة.

وفي حضارة الإسلام عاش علماء وأطباء ومؤرخون، ولم تغلق الحضارة الإسلامية بابها قط قبل عالم ولا عطاء لنفع البشرية.. فمنهم من اعتنق الإسلام، ومنهم من بقى على دينه، فلم تغلق الحضارة الإسلامية في وجهه الأبواب..

كان الإسلام هو الذي قضى على طب الكهانة والخرافة والتنجيم والسحر والشعوذة، وفتح الباب على مصراعيه للطب الطبيعي.. دون اشتراط جواز مرور بانتماء ديني أو عرقي..

ففي حجة الوداع، أمر النبي عليه الصلاة والسلام ـ أمر الحارث بن كلدة ـ وكان على غير دين الإسلام ـ بأن يعالج سعد بن أبى وقاص، وقال له: « عالج سعداً مما به »..

وذكر القرآن الكريم لقمان الحكيم فقال: « وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ».

(لقمان 12).. وكثر اشتغال المسيحيين بالطب في ظل الدولة الإسلامية، ـ ونبغ الأطباء فيها بين نصارى الشرق في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة الغربية تحرم صناعة الطب بدعوى أن المرض عقاب من الله لا ينبغي للإنسان أن يصرفه عمن استحقه، وظل الطب محجورا عليه في الغرب بهذه الحجة إلى ما بعد انقضاء العهد المسمى بعهد الإيمان في مستهل القرن الثاني عشر للميلاد إبان الحضارة الأندلسية والإسلامية..

وفي أخبار الحكماء للقفطي من اشتهروا ومن لم يشتهروا من الفلاسفة والحكماء في صدر الإسلام، منهم المسلم ومنهم غير المسلم.. بل وبرزت أسماء لعلماء من الغرباء عن السلالة العربية. ومن موسوعات الطب الإسلامية ما لا نظير له في الضخامة وعمق البحث على قدر ما كان متاحاً في زمانها.. ومنها ما ترجم إلى اللاتينية فنقل علم الطب في أوروبا نقلة هائلة لا ينكرها أحد.

ترجمت موسوعة كتاب القانون في الطب لابن سينا، « والحاوى » للرازي وهو أكبر من كتاب ابن سينا وأوسع منه مادة وموضوعا. وترجمت كتب ابن الهيثم في البصريات، وكان ابن يونس المصري هو الذي اخترع « الرقاص » ـ في القرن التاسع الميلادي وتوالى من بعده ضبط حركاته وانتظام ذبذباته.. وترجع معظم الأقوال تاريخ ” الإبرة المغناطيسية ” إلى ملاحي الدولة الإسلامية مسلمين وغير مسلمين.

واشتهر في المشرق الإسلامي جغرافيون عظماء أضافوا إلى العلم أحسن التحقيقات عن طريق الأرصاد الفلكية ومشاهد الرحلات وتمحيص الروايات.. منهم البيروني وابن بطوطة وابن جبير.. لعل أعظمهم الشريف الإدريسي صاحب أول خريطة للعالم قبل أن تتوافر الطائرات والمناطيد ووسائل الرصد والقياس الحديثة، وهو الذي سبق ـ على غير ما يعرف الكثيرون ـ إلى بيان الحقيقة عن منابع النيل في خرائطه المحفوظ بعضها في المتاحف الأوربية، ومنها خريطة بمتحف سان مارتين الفرنسي ترسم النيل آتيا من بحيرات إلى جنوب خط الاستواء..

وهذه الحضارة الإسلامية الحية فتحت كنوزها وفرصها للجميع، وعم فضلها الجميع بغير تمييز لجنس أو دين، ولم يتح لليهود ـ رغم غلظة رقابهم وحرصهم بفكرة « الجيتو » على التمايز وعدم الانخراط في النسيج العام ـ لم يتح لهم في حضارة من الحضارات ما أتيح لهم في ظل الحضارة الإسلامية.. وكان موسى بن ميمون ــ اليهودي ــ من أشهر الأطباء الذين لمع نجمهم في الأندلس وفي مصر حيث له المعبد الكبير في القاهرة للآن.. وكان موسى قطاوى باشا ـ اليهودي ـ وزيرا للمالية في مصر في القرن الماضي.. وفي عصر الخلافة الفاطمية استوزر العزيز بالله الفاطمي (975 ـ 996م) واستناب في الشام رجلا يهوديا يدعى منشٌا بن إبراهيم. صحيح أنه مال وظلم وأثار السخط، ومع ذلك تبقى دلالة استخدامه آية على « عالمية » الحضارة الإسلامية واتساعها وسماحتها برغم التاريخ الأسود لليهود مع كل الحضارات بما فيها الحضارة الإسلامية !!

لقد تناول الأوربيون مشعل العلم من يد الحضارة الإسلامية، فاستضاءوا به بعد ظلمة، وبلغوا بفضله ما بلغوه من هذا الضياء العميم الذي تتباهى به الآن الحضارة الغربية.. لقد بقى أثر الحضارة الإسلامية شاهدا على ما قدمته للغرب في آلاف المصطلحات المنحوتة من ألفاظ عربية ـ في اللغات الأوربية.. في الملاحة مثل ألفاظ Felouque من الفلك، وamiral من أمير البحر، و arsenal من دار الصناعة، و avala من كلمة حوالة.. وفي علم الفلك، مثل ألفاظ altaref من الطرف، و curso من كرسى الجوزاء، و caph من الكف، و arkab من العرقوب..

أما في الأسبانية فبلغت الألفاظ العربية في قاموسها ما يحصى بالمئات.. ناهيك عن أثر الموسوعات الطبية التي ترجمت إلى اللغات اللاتينية، ورسالة الغفران للمعرى في الكوميديا الإلهية، وألف ليلة في حكايات « بوكاشيو ».. « الصباحات العشرة »، وسرفانتس صاحب دون كيشوت الذي عاش سنوات في الجزائر ونضج أسلوبه بما تلقاه من عبارات وأمثال عربية، وأثر « حى بن يقظان » لابن طفيل إلى غير ذلك مما لا يتسع المجال لاستقصائه هنا..

لعل فيما سبق، ما يثير أشواق المسلمين، للانفتاح على هذه الحضارة الإسلامية، والإلمام بما أنتجته وما قدمته. هنالك سوف يعرف من قد لا يعرف، أن هذا الدين دين عالمى، قوامه العقل والفهم والعلم، اهتم ولايزال بعمار الحياة، وصلاح الأحياء.

القلب العمرى

ــــ

روى « أسلم » مولى عمر بن الخطاب، أنه خرج معه ليلاً إلى « حَرَّةَ واقم » حتى إذا كانا بموضع « صِرَار »، إذا بضوء يأتى من بعيد، فقال عمر إنه يرى ركبًا يغلب أنهم قد أضَرَّ بهم الليل والبرد، فانطلقا إليهم حتى إذا دنوَا منهم، فإذا امرأةٌ معها صبيان وقد وضعت قِدْرًا على النار، وصبيانها يتصايحون.

فنادى عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء !

قالت: وعليكم السلام.

سأل عمر: أأدنو ؟

قالت: ادْنُ بخيرٍ أو دَعْ.

فدنا عمر، وسألها: ما بالكم ؟

قالت: أضرّ بنا الليل والبرد !

قال: وما بال هؤلاء الصبية يتصايحون ؟

قالت: من الجوع !

سألها عمر: وأى شىء في القِدْر ؟

قالت: ماءٌ أسكِّتُهم به حتى يَناموا.

وأضافت: الله بيننا وبين عمر !

قال عمر: أى رَحِمَك الله ! وما يُدْرى عمر بكم ؟

قالت: يتولى أمرنا، ثم يغفل عنّا !!

* * *

يروى أسلم أن عمر انطلق به مهرولاً إلى دار الدقيق، فأخرج عِدلاً من دقيق، وكَبَّةً من شحم، أى شريحة كبيرة، وحملهم عمر، فرجاه أن يحملهما عنه، فرفض عمر وهو يقول له: أأنت تحمل وِزْرى يوم القيامة ؟

* * *

انطلق عمر مهرولاً، إلى حيث موضع الأم والصبيان، وأبى بعد وضع الدقيق في القِدر، إلاَّ أن يحرك الماء بنفسه في البرمة ( البرام )، وجعل ينفخ تحت القِدْر حتى نضج الطعام، ثم أفرغه بنفسه في الصحفة ( الطبق الكبير ) وجعل يبرد لهم الطعام، ولم يزل حتى أطعمت الأم صبيانها وأشبعتهم فجعلت الأم تدعو:

« جزاك الله خيرًا، كنت بهذا الأمر أولى من عمر ! ».

فما زاد عمر على أن قال لها وهو ينصرف بعد أن نام الأطفال:

« قولى خيرًا، إذا جِئت عمرَ وجدتينى عنده ! »

* * *

مفتاح كل بركة:

الصبر في مواضع سلوكك ؛

إلى أن تصح لك إرادة

فإن صحت لك الإرادة ؛

فقد ظهرت عليك أوائل البركة.

أخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق المحشو بالآفات

إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه مالا عين رأت..

فهناك لا يتعذر مطلوب

ولا يفقد محبوب.

من مأثورات أبى العباس المرسى: « من أراد الظهور فهو عبد الظهور ؛ ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء.. أما عبد الله حقاً فهو من إذا شاء الله أظهره، وإذا شاء أخفاه.. لا يختار لنفسه ظهوراً ولا خفاءً »..

من ذابت نفسه في زهد الدنيا

انمحى الغل والحسد من باطنه !

زر الذهاب إلى الأعلى