في دوحة الإسلام (59)
في دوحة الإسلام (59)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 10/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
طبائع الناس
وقيم العدل في الإسلام
كثيرٌ من يتشدقون بالعدل وقيمه، ولكن غير قليل منهم لم يتمثل في فكره وخلقه وسلوكه أن العدل قيمة مطلقة، وأنه يتلخص في الإقرار والاعتراف بحقوق الآخرين واحترامها والكف عن التعدي عليها أو الطمع فيها.. وأن هذا الاحترام واجب مهما كانت إغراءات الاستقواء بالمال أو بالقوة أو المكانة أو الجاه أو المنصب أو القدرة أو السلطان.. وبغض النظر عن الفوارق في المكانة أو الأهمية بين الناس بعضهم البعض !
فلم ينقطع مثلاً افتئات البالغين من الذكور على حقوق القصر أو الإناث، ولا طمع الأولياء أو الأوصياء في أموال الأيتام، ولا توقف استيلاء الطامعين على مال المالك الغائب أو العاجز أو المقعد أو المريض أو المشغول بأحماله عن متابعة ومراقبة ماله، ولا انقطعت مماطلة المدين في حقوق الدائن الذي لم يتحوط بكتابة أو ضاعت منه، ولم يرعو انتهاز المستأجرين أو يتوقف تحريضهم لتأليـب الحكـام أو القوانيـن على المالكيـن، أو الادعاء عليهم كذبًا بما يضنى ويرهق ويظلم.. ولم تتراجع الأطماع أو إساءة الانتفـاع بمـا بالحيازة أو تحت اليد من عين أو أرض أو عقار.. كما لم ينقطع تجبر الأقوياء على الضعفاء، ولا استقـواء الحكام بسلطانهم على المحكومين، مثلما لم ترعو الدول القوية أو العظمى أو تنصف ولو بعض الإنصاف في تعاملها أو بالأحرى تغولها على حقوق الدول الضعيفة التي لا تملك إيقاف عبث الكبار بمصالحها ومقدراتها !!
ولم ينقطع أحد من هؤلاء، شخصاً طبيعيا كان أو اعتباريا، جماعةً أو حزبًا أو حكومةً أو دولةً، عن استيجاد المبررات والذرائع لتبرير مفارقة العدل والإنصاف، وإساغة التحيف والجور على حقوق الآخرين.. لا يقدم الأقوياء أسبابًا مفهومة ناهيك بالمقنعة لاعتراضهم على ما يجب للضعيف من إنصاف، ولا مبررًا لاصطناعهم الوسائل لتقليم وتعجيز فرصته في مواجهة القوى، ولا يكفون عن مصادرة أي مقاومة للرضوخ أو الانحناء !
العدل في دوحة الإسلام اسم من أسماء الله الحسنى، وصفة من صفاته.. ويعرف أن عدله سبحانه وتعالى مطلق، وعدلنا ـ إن كان ـ نسبى !.. بالعدل أنزل سبحانه كتبه ورسله وشريعته لإقامة الحق والقسط.. « لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ » (الحديد 25).. العدل ركن ركين من شريعة الإسلام، ودعامة رسالته إلى العالميـن، وبه أمر تبارك وتعالى نبيه المصطفي صلى الله عليه وسلم:« وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ » (الشورى 15).. وفي الحديث القدســى: « يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرمًا.. فلا تظالموا ».. لا يحول شىء مهما كان في وجوب العدل.. ففي القرآن المجيد: « يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ » (المائدة 8).
جبل الناس على كراهة الحق والعدل، فينبه القرآن المجيد إلى ذلك: « لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ » (الزخرف 78).. وفي سورة « المؤمنون »:« وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ »(المؤمنون 70).. أرسل سبحانه ـ رسوله المصطفي ليهدى الناس بالحق إلى الحق: « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ » (الصف 9).. يبلغهم رسالة ربه بأنه عز وجل يأمر بالعدل والإحسان: « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ » (النحل 90).. المسلم مأمور في شريعته السمحة بالعدل والقسط والإنصاف، ولو على نفسه.. في الحديث الشريف: « لو أنصف المتقاضى لاستراح القاضى ».. وفي الذكر الحكيم: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ »(النساء 135).
من آفات الآدمي أن يخبو فيه الالتفات إلى الحق والصواب، وقد يطمع في الإفلات من الجزاء.. فيقول له القرآن الحكيم: « وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء » (42، 43).. هؤلاء يتوعدهم القرآن المجيد، ويذكرهم: « وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا » (الفرقان 27).. وفي سورة غافر « يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ » (غافر52).
من جمال وحكمة شرعة القرآن، أن جعلت العدل عملاً وغاية، ومن « عزم الأمور » الذي تجمل فيه سجايا وأخلاق وشمائل الإسلام.. هو رسالة الأنبياء، وواجب الحكام والولاة، وأمانة في عنق الرعاة.. يقول عز من قائل: « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ » (النساء 58).
إن الله تبارك وتعالى، واسمه العدل، قد جعل إقامة العدل قانونًا عامًا لصلاح الحياة والأحياء.. من يتتبع منظومة العدل في الإسلام يجدها شاملة راعية لصوره في كل مجال، كافيةً به دفع كل أسباب وأشكال الظلم، والتضييق عليه، وتجفيف منابعه !.. في صدق التعامل وشجب الغش والتطفيف: « وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ »(الرحمن 9).. « وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ » (المطففين 1ـ3).. مال اليتيم أمانة لا تمس: « وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » (الأنعام 152)..
والوفاء بالعهد من خصال الإيمان وصفات المؤمنين الذين هم: « لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ » (المؤمنون 8).. مأمورون بذلك في القرآن المجيد: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » (المائدة 1).. « وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً » (الإسراء34).
حيثما نظر الناظر في دوحة الإسلام، يجد سجية العدل حاضرة واضحة، ليست محض حلية أو شعار، وإنما غاية مرعية أحاطها الإسلام بعناية شاملة، تدرأ عن الإنسان نوازع الشر، وتدعوه محبًا إلى الخير والتزام مبادئ الحق والعدل والإنصاف.
سددوا ووفقوا
بلغ أميرَ المؤمنين عمرَ بن الخطاب، أن رجلاً من أهل الشام من ذوى البأس على العدو، يتابع الشراب ! فكتب إليه:
« سلام عليكم..فإنى أحمد الله إليك الذي لا إله إلاَّ هو.
« غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ »(غافر3 )
* * *
نقل الرواة، أن الرجل حين أتته الصحيفة، جعل يقرأها ويردد:
غافر الذنب ؛ قد وعدنى الله عز وجل أن يغفر لى !
وقابل التوب شديد العقاب ؛ قد حذرنى الله ـ قابل التوب ـ من عقابه !
ذو الطول: صاحب الخير الكثير.
لا إله إلاَّ هو: مَلِكٌ واحد. وإليه المصير، وكلنا راجعٌ إليه، ومحاسبٌ على عملِهِ..
قيل إن الرجل جعل يردد الآية الكريمة على نفسه، ويبكى ! ومازال كذلك حتى تاب، وكف عن الشراب !
ونقل الرواة أن الفاروق حين بلغه أمره. خرج مستبشرًا يقول لأصحابه:
« هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخًا لكم زل زلةً، فسددوه ووفقوه، وادعو الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانًا عليه للشيطان ! »
* * *
المعرفة بالله توجب السكينة في القلب
كما أن العلم يوجب السكون ؛
فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته
* * *
لو خرج عقلك من سلطان هواك
عادت الدولة والريادة له !!!
* * *
أجمل الأسفار أسفار القلب
فسفره ارتقاء من صفة إلى صفة
وقد يستطيع مسافر القلب إذا صدق
أن يقطع الفيافي والمسافات والقفار
في خطوة واحدة !!!