في دوحة الإسلام (57)

في دوحة الإسلام (57)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 24/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

مع عطر السنة المحمدية، نبدأ حديثنا.. لنغترف معًا من عطر صفي السماء ورسول الله إلى العالمين.

الرسول هو اصطفاء السماء ورسول الله إلى الناس.. يحمل إليهم رسالة ربهم..

يقول تعالى:

« اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ » (الحج 75)

* * *

وتلك سنة من سنن الله في كونه، من أولى الرسالات حتى اختتامها سبحانه برسالة الإسلام..

يقول سبحانه:

ـ « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً »  (الإسراء 15)

ـ « وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ » (فاطر 24)

* * *

بيد أن رسالة الإسلام التي حملها محمد المصطفي عليه الصلاة والسلام.. جاءت متميزة عما سبقها من رسـالات بأنهـا للناس كافة: « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا » (سبأ 28)،« وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين »(الأنبياء 107).. فلا هي لقوم بعينهم، كبنى إسرائيل في اليهودية والمسيحية. أو عاد وثمود قومي هود وصالح، أو قوم نوح أو لوط، ولا إلى قرية بعينها، وإنما هي الدعوة الشاملة إلى الناس والأقوام والأمصار كافة: « وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاتِنَا » ( أم القرى ـ هي مكة ـ القصص 59).

* * *

ولم يكن هذا العموم هو نصيب الرسالة المحمدية من التميز وكفي، وإنما هي رسالة النور التي اختلفت وتمايزت وتفاضلت على كل ما سبقها من رسالات ونبوات.. فلا هي التي تنطوي في تكاليف الزعامة، ولا التي تقوم على منفعة أمة من الأمم بعينها، ولا التي ينتظرها قوم بذاتهم تحقيقًا لوعود متعاقبة يفسرها كل منهم بما يبتغيه، ولكنها الرسالة الإلهية الشاملـة التي لـم يستغرقها مقصد من هذه المقاصد، وإنما قوامها أن الله حق وهدى. وأن الإيمان به، جل وعلا، مطلوب لأنه حق وهدى..

* * *

هذه « الرسالة » خاتمة الرسالات، قد حملها رسول أمين، جد أمين.. تلاقت فيه أكرم وأفضل وأميز صفات الأنبياء والرسل أجمعين.. وكيف لا، وهو الذي أدبه ربه، فأحسن تأديبه، وأهله بأدبه هذا العظيم لأن يحمل إلى الناس كافة رسالة الإسلام، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويكون لهم، بتعاليمه، ومنهجه وعمله وحياته، وسيرته، نعم الأسوة التي بها يتأسّون.

* * *

ـ « وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ » (النحل 44)

ـ « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ » ( التوبة 33)

ـ « يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا » (الأحزاب 45ـ 46)

ـ « وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ » (الشورى 52 ـ53)

ـ « يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ » (المائدة 67)

ـ « لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا » ( الأحزاب 21 )..

* * *

إن المتأمل في سنة المصطفي عليه السلام وسيرته، سيفهم الإسلام حق فهمه.. سيرى محمدًا.. نبي الرحمة، وأكثر الناس براً بأهله، وحدبًا عليهم ـ يقول لحبه أسامة بن زيد حين جاءه يتشفع لفاطمة المخزومية لعدم إقامة حد السرقة عليـها: « وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ».. وسيرى مع هذا الحرص على إقامة حدود الله، حين تكتمل أركان الجـرم بغير شبهـة، ولا عـذر مـن إباحـة أو ضرورة ـ أنه عليه السلام هو الذي يرد من جاءه يعترف بالزنى فيشيح عنه بوجهه ثلاث مرات ويراجعه في مقالته ثلاثاً أخرى، ثم يحرص على ألا يكون به ـ في اعترافه ـ مس أو جنون أو هذيان سكر.. وسوف يراه يرد أبا هريرة رداً عنيفاً حين أخبره بأنه رد امرأة زنت فحملت فولدت فوأدت، ردًا عنيفًا حين سألته: أيقبل الله توبتها.. ويقول له: « هلكت وأهلكت ».. فيمضى أبو هريرة هائمًا يبحث في طرقات المدينة عن المرأة قبل أن تقتل نفسها يأساً مما نهرها به من عدم قبول الله تعالى لتوبتها.. سيرى محمدًا، هذا الذي يبر أهله، ويؤثر عمه العباس بحبـه، يرد العباس عن ولاية طلبها ويقول: « من أمَّر أحدا محاباة فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين ».. وسيراه على حبه وإيثاره لأبى ذر الغفاري، حتى قال فيه: « ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء، أصدق لهجة من أبى ذر » يرده رغم ذلك عن الولاية، لأن به ـ عليه الرضوان ـ ضعفاً، ولأنها أمانة ويوم القيامة خزى وندامة ».. وسيراه على شدته في الحق، لا يغلق أمام مخطئ باب التوبة والمغفرة، ولا يحرم أحدًا رحمته وعطفه، أو يصادر على سعة رحمة الله تعالى له.. وكيف لا، وهو الذي فيه قال تعالت حكمته: « لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ » ( التوبة 128)

عمر وحفصة

والهدى النبوي

روى أن أم المؤمنين « حفصة » بنت عمر وقد اتسعت الفتوح والأرزاق، قالت لأبيها الفاروق مشفقة عليه: « لو لبست ثوبًا ألين من ثوبك هذا، وأكلت طعامًا هو ألين وأطيب من طعامك ! فقد وسع الله من الرزق، وأكثر من الخير ! ».

فقال عمر: يا بنية، لقد غششت أباك ولم تنصحيه !

واستأنف يقول لها: أناشدك الله: ما أفضل ما اقتنى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بيتك من الملبس !

قالت: ثوبين ممشقين، كان يلبسهما للوفْود، ويخطب فيهما للجمع..

* * *

تابع عمر يسألها: فأي طعام عندك أرفع ؟

قالت: خَبَزْنَا خُبْزة شعير، فصببنا عليها وهي حادة بقية من سمن، فجعلناها هشة حلوة نأكل منها.

قال: وأي فراش عندك كان أوطأ وألين ؟

قالت: كساءٌ لنا نثنيه أربع طبقات في الصيف، فإذا جاء الشتاء فرشنا نصفه وتغطينا بنصفه..

* * *

قال عمر: إن مَثَلى ومَثَل صاحبىّ ؛ كثلاثة نفرٍ سلكوا طريقًا، فمضى الأول وقد تزود زادًا فبلغ.

ثم تبعه الآخر، فسلك طريقه ؛ فأفضى إليه..

ثم اتبعهما الثالث (يقصد نفسه)، فإن لزم طريقهما ورضى بزادهما لحق بهما وكان معهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجتمع بهما أبدًا !

* * *

رجاء ممدود وباب الهداية مفتوح

انظروا في الباب المفتوح بقول الله الهادي التواب:

« قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف » ( الأنفال ٣٨ )

حتى الذين كفروا

لم يغلق سبحانه أمامهم باب الغفران إن انتهوا عمّا هم فيه..

* * *

طريق الحق بعيد

والصبر مع الحق شديد..

* * *

جماع المعرفة، صدق الافتقار إلى الله تعالى

وإذا صح الافتقار إلى الله عز وجل،

فقد صح الاستغناء به سبحانه،

وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به.

* * *

الأدب حلية الأحرار

ولكل شيء خادم،

وخادم الدين الأدب.

زر الذهاب إلى الأعلى