في دوحة الإسلام (53)
في دوحة الإسلام (53)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 27 / 1 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
لا يفرغ الحديث أبدًا من التأمل في النبوة الإسلامية، واستكناه جوهرها، والإلمام بماذا أضافت للإنسانية، وكيف عمرت القلوب والعقول، وخصّبت الفكر، وبثت العمار المادي والمعنوي.
النبوة الإسلامية
لا يختلف أحد على أن الرسالة المحمدية، هي آخر الرسالات الكبرى في تاريخ الإنسانية، وأنها عمت الدنيا وصار أتباعها المؤمنون بها بمئات الملايين، وأنه لم تتلوها رسالة أو ديانة يمكن لزاعم مهما اشتط أن يحسبها من رسالات السماء..
وخاتمية الرسالة المحمدية، قد اقتضت أشياء هي مـن مقومات هـذه الخاتمية من ناحية، ودالـة عليها وعلى مصدر هذه الرسالة من ناحية أخرى.. فالخطاب الذي كان في الأديان السالفة محدودًا بحدود الأقوام والزمان والمكان، واقترنت فيه النبوة اقترانا محدودا بقوم النبي الذين أرسل إليهم، خرجت النبوة المحمدية من هذا الحد المحدود إلى الميدان الواسع الفسيح لتشمل العالمين، وبغير حد في الزمان أو المكان، وبغير اقتصار في الخطاب على قوم دون أقوام أو على عرق دون أعراق ! واقتضت هذه الخاتمية ـ فيما اقتضت ـ كمال وتمام الشريعة، وتطهير وإصلاح كل ما لابس تدين الغابرين من بعد عن الدين، أو التلبيس في أمر الأنبياء والخلط بشأنهم بين النبوة الحقيقية وبين العرافة والرؤيا والأحلام والاستطلاع والتنجيم والكهانة والجذب وقراءة الغيب والسحر بل وأضراب من الجنون فيما أسموه بالجنون المقدس !. واقتضت هذه الخاتمية فيما اقتضت التعريف بالأنبياء الحقيقيين وتجلية صورهم وتطهيرها مما علق بها من إساءات التطاول أو التحريف، والارتفاع بهذه النبوّات الحقيقية إلى مقامها الرفيع السامق كاصطفاء إلهي من السماء للهداية والإصلاح !
وأول ما اقتضته خاتمية وعموم وشمول رسالة الإسـلام، أن تكـون مـن رب العالمين إلـى العالمين.. الله سبحانـه وتعالـى هو الواحد الأحد، الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفـوا أحد.. هو سبحانه الحي الذي لا يموت، الموجـود من الأزل، والباقي إلى الأبد.. كل من عليها فان إلاّ وجهه سبحانه ذو الجلال والإكرام.. الله تعالى رب العالمين، فليس الرب كما يقول العهد القديم «رب إسرائيل»، أو رب قـوم آخرين من مخلوقـات الله، وإنمـا هـو ـ عـز شأنه ـ «رب العالمين».. وهذا التعبير متعدد التكرار في القرآن المبين، وتردد في آياته أكثر من سبعين مرة.
واقتضت النبوة الخاتمية، العامة الشاملة، أن تكـون رسالة النبي الخاتم للعالمين وللناس كافة، لا يختص بـه قـوم ولا عرق ولا زمان ولا مكان.. هذه الرسالة العامة الشاملة التي بعث بها الله تعالى محمدًا عليه السلام: «في أم القرى»: مكة المكرمـة ـ لم تكن رسالة للمكيين ولا لأهل مكة فقط، ولا للقرشيين أهل محمد عليه السلام بخاصة، ولا لأهل الجزيرة العربية خاصة دون سواهم ـ وإنما هي نبوة هداية عامة شاملة تتجه بخطابها إلى الناس كافة، وإلى العالمين إلى يوم الدين !
* « تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا » (الفرقان 1).
* « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ » (سبأ 28)
* « قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » (الأعراف 158).
* « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ » (التوبة 33).
من ودائع الله
لا زراية بأحد في الإسلام، ضعيفًا أو عاجزًا أو فقيرًا، بل إن هؤلاء «ودائع الله».. عهدة في عنق كل مؤمن قادر.. فالضعيف أمير الركب في الحديث النبوي. والفقراء والضعفاء في عز المولى سبحانه وتعالى.
رُوى أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: «يا محمد ! إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول: أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهبًا وتكون معك أينما كنت؟
فأطرق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: يا جبريل، إن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له. فقال له جبريل: يا محمد ثبتك الله بالقول الثابت ».
ورُوى عن أبى رافع، أنه نزل ضيفٌ عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلم يجد عنده ما يصلحه، فأرسله عليه السلام إلى رجل من يهود خيبر وقال لي: «قل له: يقول لك محمد: أسلفني أو بعني دقيقًا إلى هلال رجب » قال: فأتيته، فقال: لا والله إلاَّ برهن. فأخبرت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك، فقال: « أما والله إني لأمين في أهل السماء، أمين في أهل الأرض، ولو باعني أو أسلفني لأديت إليه. اذهب بدرعي هذا إليه فارهنه». فلما خَرَجْتُ، نزلت هذه الآية: «وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا» (طه 131). وهذه الآية تعزية لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الدنيا.
ورُوى بإسناده، أن نبي البر والرحمة عليه الصلاة والسلام قال: «من أصبح منكم معافي في جسمه، آمنًا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها».
وفي خبر آخر عن أهل البيت رضى الله عنهم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إذا أحب الله عبدًا ابتلاه، فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه ». قيل: وما اقتناه ؟ قال: « لم يترك له أهلاً ولا مالاً ».
يوصى الحق تبارك وتعالى نبيه المصطفي عليه الصلاة والسلام فيقول له:
« وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا » (الكهف 28). صدق الله العظيم
من آيات الرحمة
روُى: عن علىّ رضى الله عنه قال: رأيت عمر رضى الله عنه على قَتَبِ وهو يغدو بالأبطح، فقلتُ له: يا أمير المؤمنين ! أين تصير ؟ قال: بعيرٌ نَدَّ من الصدقة فأنا أطلبه. فقلت له: لقد أذلَلْت الخُلفاءَ من بعدك. فقال: لا تلمْني يا أبا الحسن، فوالذي بعث محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنبوة، لو أن عَنَاقًا ذهب بشاطئ الفرات لأُخذ بها عمر يوم القيامة، لأنه لا حُرمةَ لوالٍ ضيّع المسلمين، ولا لفاسق روّع المؤمنين.
وعن الحسن عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «بُدلاء أمتى لا يدخلون بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن يدخلونها بسلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والرحمة لجميع المسلمين».
وعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»
وعنه ـ صلى الله عليه وسلم: «من لا يَرْحَم لا يُرِحَم، ومَنْ لا يغفِر لا يُغفر له».
وقال مالك بن أنس: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: « أربعٌ من حقّ المسلمين عليك: أن تُعين محسنهم، وأن تستغفرَ لمذنبهم، وأن تَعْود مريضَهم، وأن تُحِبّ تائبهم».
ورُوى أن موسى عليه السلام قال: يا ربّ، بأي شيء اتخذتنى صفيا ؟ قال: برحمتك على خلقي.
وعن أبى الدَّرداء رضى الله عنه: أنه كان يَتْبَعُ الصبيان، فيشترى منهم العصافيرَ، فيرسلها ويقول: اذهبي فعيشي.
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المؤمنين في تراحمهم وتوادَّهم وتواصلهم كمَثَل الجسد إذا اشتكر منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر».