في دوحة الإسلام (42)
في دوحة الإسلام (42)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 11/11/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
خفض الجناح
في القرآن الكريم ، يقول رب العزة لرسوله الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام :
« وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا
تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » ( الشعراء 215 ـ 220 )
نزلت هذه الآيات المباركة في بدايات المبعث ، تسرّى عن الرسول عليه الصلاة والسلام ، وتوصيه في مواجهة ما يراه .. كانت مكة تموج بالحدث العظيم .. تلقى الصادق المصدوق أمر ربه بأن ينذر عشيرته الأقربين ، وقد فعل ، ولم يدّخر وسعًا لهدايتهم ، وصبر وواصل دعوته والقيام برسالته إلى الناس كافة ، فما أرسله ربه سبحانه إلاَّ رحمة للعالمين .. من الناس من آمنوا وصدقوا واهتدوا ودخلوا في دوحة الإسلام ، ومنهم من كابر وصَدَّ وعاند .
في الآيات المباركة ، يوصى رب العرش رسوله الكريم الذي أدبه فأحسن تأديبه ، وجعله على خلق عظيم .. يوصيه بأن يلين جانبه ويخفض جناحه لمن أجابوا دعوته واهتدوا وآمنوا .
أما من عصوا ، وعاندوا وصدوه ـ فلا عليه إلاَّ أن يتبرأ من أعمالهم ومعاصيهم ، وأن يتوكل على الله العزيز الرحيم .. مولاه وحافظه وراعيه .. الذي يراه حين يقوم ويتعبد ويركع ويسجد ويتهجد إلى ربه تبارك وتعالى .. إنه سبحانه هو السميع العليم .
لا قسر ولا إرغام على التصديق والإيمان .. فلا خير فيمن تابع خوفًا أو نفاقًا أو رياءً .. نبي البر والرحمة مدعو بأمر ربه إلى أن تكون دعوته إلى سبيله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة.
في هذا الأدب الرباني ، يقال لحامل الرسالة .. إنه ليس وكيلاً على الناس ، ولا يملك إرغامهم لا إجبارهم على الإيمان ، فهو لن يهدى الناس جميعًا ن ولا هو عليهم بمسيطر .. وليس موكلاً إليه إلاَّ الدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة .. يقول له ربه ..
ـ « يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا » ( الأحزاب 45 ، 46 )
ـ « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ »( الأنبياء 107 )
ـ « فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ » ( الغاشية 21 ، 22)
ـ « إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ » ( الشورى 48 )
ـ « وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ » (الأنعام 107 )
ـ « إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ » ( هود 12 )
ـ « أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ » ( يونس 99 )
ـ « لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء » ( البقرة 272 )
ـ « قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ » ( الأنعام 91 )
هذا هو الأدب الرباني الذي ألزم به الولي الحميد رسوله المصطفي عليه الصلاة والسلام ، فكيف بآحاد الناس .. هل يملك أحدهم ما لم يعطه الله لرسوله ، أو يأذن له فيه ؟!!
اختلاف الناس سنة كونية ، وإرادة إلهية .. سبحانه القائل في كتابه العزيز :
« وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ » ( هود 118 )
* * *
مخاوف وهمية
تأتى المخاوف الوهمية من المفاهيم الخاطئة ، أو التصورات المغلوطة ، حول : السحر ، والحسد ، والتنجيم ، والجن .
ومن يستسلمون لهذه المخاوف الوهمية يفسدون حياتهم ويقلقلون معيشتهم ، وقد يترتب على الاستسلام لها عواقب وخيمة في منتهى الخطورة تحول حياة هؤلاء إلى جحيم .
لقد تجاوزت كثيرٌ من المجتمعات المتقدمة هذه التصورات البدائية المغلوطة ، والمخاوف الوهمية الناجمة عنها ، فانطلقت هذه المجتمعات في تقدمها غير مكبلة بهذه المفاهيم الخاطئة التي تشد الغافلين إلى أسفل !
يعتقد في السحر كثيرٌ من العامة عندنا ، وبعض المتفلسفين من المثقفين وأشباههم ، ويتشدقون تأييدًا لمعتنقهم أنه وارد في القرآن الكريم ، دون أن يكلفوا أنفسهم قراءة الآيات القرآنية إلى آخرها ، كشأن الذين يقولون : « لا تقربوا الصلاة » ويتجاهلون « وأنتم سكارى ».
عن السحر ، ورد بسورة البقرة عن الشياطين « وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ » ( البقرة 102 ) .
والآية الكريمة تتم بقولها « وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ » ( البقرة 102 ) .
وفي سورة المجادلة ، قال تعالى : « وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ » ( المجادلة 10 ) .
فالسحر ومثله غير ذلك من الكهانة والشعوذة ــ لا يغير من قدر الله شيئًا ، ولا يحدث أمرًا خارجًا عن قضاء الله .
وعن قصة موسى عليه السلام مع سحرة فرعون ، كشف الله تعالى ماهية السحر ، وأنه مجرد تمويه ــ وتخييل وإيحاء ، وليس حقيقة ــ قال عز وجل في كتابه الحكيم : « يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى » (طه 66) .
فقد سحروا عيون الناس وأيضًا النبي موسى عليه السلام حتى أنه فيما يروى القرآن الكريم « فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً » (طه67) ، حتى تداركه الله تعالى بقوله : « قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى » (طه68) ، وانتهت الآيات الكريمة بقوله عز وجل : « إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى » (طه69) .
ثبت علميًّا أن السحر محض إيحاء نفسى يمارسه الساحر بشيطانياته ، عابثًا بمن بهم ضعف !!
وقد سبق القرآن الكريم إلى كشف وبيان هذا الإيحاء .. على ما مر بنا في سورة طه ، وورد أيضًا بسورة الأعراف ما يؤكد أنه سحرٌ لعيون الناس ، فقال العليم الخبير : « فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ »(الأعراف 116) .. فهذا إيحاء وسحر للعيون ، ولو كان الساحر يملك التغيير والتبديل ، لصار أعظم الناس شأنًا ، وأكثرهم ثراءً وعزًا .. وهذه من ثم أوهام وأكاذيب .
* * *
روى أبو ذر الغفاري ـ رضى الله تعالى عنه ، أنه سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : ماذا ينجى العبد من النار ؟
قال : الإيمان بالله .
قلت : يا نبي الله مع الإيمان عمل ؟
قال : أن تعطى مما رزقك الله .
قلت : يا نبي الله ، فإن كان فقيرًا لا يجد ما يعطى ؟
قال : يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
قلت : إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف ولا يستطيع أن ينهى عن المنكر ؟
قال : فليعن الآخرين .
قلت : يا رسول الله ، أرأيت إنْ كان ما لا يحسن أن يصنع ؟
قال : فليعن مظلومًا .
قلت : فإن كان ضعيفًا لا يستطيع أن يعين مظلومًا ؟
قال : ما تريد أن تترك لصاحبك من خير ؟؟!!! .. ليمسك أذاه عن الناس .
قلت : يا رسول الله أو إن فعل هذا ، يدخل الجنة ؟
قال : ما من عبد يصيب خصلة من هذه الخصال إلاَّ أخذت بيده حتى تدخله الجنة .
فبشرى للمؤمنين بهذه الرحمة المهداة .. بهذا الذي يملأ بالرجاء حنايا المؤمنين جميعًا .. فإن رحمته جل علاه قد وسعت كل شيء ، ولا يقنط منها إلاًّ القوم الكافرون .. وطوبى لمن سبقه خيره وصلاحه فأخذ بيده إلى الجنة رضوان قيوم السماء .. في عطاء يعطيه مما رزقه الوهاب فيفرج به الكروب ويقضى الحاجات ويعيد البسمة إلى الشفاه .. في قولة حق وإنصاف .. في دعوة إلى خيرٍ وبر ونهىٍ عن الشرور والمنكرات ، في عونٍ مخلص أو نصيحة رشيدة تقيل متعثرًا من عثرته وتضئ له الدرب إلى مرتقى العلاج .. في كلمة طيبة تملأ المشاعر وتكفكف أحزان الناس .. فإن رحمة العبد بغيره تغسله من أدرانه ، وتضع عنه أثقاله ، وتفتح له آفاق الطمأنينة والسلام والرجاء .
* * *
الإيمان قول وعمل ، والقول قول القلب واللسان ، والعمل عمل القلب والجوارح ،
ولا يكتمل الإيمان إلاَّ بتلاقي ما يعرفه القلب ويقرّ به اللسان ويصادقه العمل .