في دوحة الإسلام (39)
في دوحة الإسلام (39)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 21/10/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
حياة الآدمي
حياة الآدمي في اتصاله الدائم بتيار الحياة .. في ولوج ربوعها وميادينها والمساهمة في صنعها ونسقها وإيقاعها .. في الإسهام البناء المثمر في تعمير الدنيا وإثراء الحياة وتجميلها ونفع الإنسان بهذا الرباط الفاعل بين الأحياء وبينهم وبين الحياة .. اتصال الآدمي بالحياة هو الذي يجعله قوة فاعلة معطاءة ، ويقيه الخواء والعبث واللا أهمية ـ في القرآن المجيد : « تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ » ( الملك 1 ، 2 ) .. الآدمي معلق مصيره بعمله ، والحياة كلها ابتلاء للآدمي .. ميزان هذا الامتحان ماذا عمل الإنسان وماذا استطاع بتناغمه مع حركة الحياة الدائمة أن ينجز وأن يعطى وأن يقدم .. في القرآن المجيد : « وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ » (التوبة 105) .. « هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإليهِ النُّشُورُ » (الملك 15) .. « وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا » (الأحقاف 19) « وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافسُونَ » (المطففين 26)
* * *
قيل في معنى « قل هو الله أحد » .. أنها تعرف وتخبر بمعنيين :
إثبات صفة الكمال ، وسلب صفات النقصان . فقد أثبتت أنه هو الله أحد . وهو للحصر . أي هو الله الذى هو أحدىٌّ في ذاته بالألوهية . ليس له ثانٍ في الألوهية الأحدية . فأما نفى الاثنية عنه ـ سبحانه ـ لأحديته ، فلأن أحديته لا تشبه أحدية شيء آخر . وفى قوله الآية : « اللَّهُ الصَّمَدُ » ـ دلالة على أنه ـ سبحانه ـ الكامل الذى لا يحتاج إلى شيء لكماليته ، وأن كل شيء ناقص بالنسبة إلى كماله عز وجل ، محتاج إليه في إتمامه . وقول الآية : « لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ » دلالة على سلب صفات النقص .
العبد مبتلى بأوامر الله تعالى ونواهيه ، وللقلب أسرار تخطر دائمًا بخطراتها ، فإن هداه ما يعرضه العبد على الكتاب ـ اهتدى إلى طاعة الله ، وإن عز عليه الوصول عرضه على ما سواه من سنة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأعمال الصالحين ، فيهتدى إلى طاعة الرسول ـ عليه السلام ـ أو أولى الأمر الذين تابعوا الكتاب والسنة بإحسان .
صدقة الأغنياء
كانت أم المؤمنين عائشة عليها الرضوان جالسة فى بيتها بالمدينة يومًا ، ترامت إلى سمعها أصداء قافلة زاحفة ، فلما سألت عنها قيل إنها سبعمائة راحلة لعبد الرحمن بن عوف جاءت من الشام بتجارة له ، فقالت : أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا .. فلما بلغ عبد الرحمن ما قالته أم المؤمنين ذكره وذكر أنه سمعه من الرسول عليه السلام ، وأنه صلوات الله وسلامه عليه قال له يومًا : يا ابن عوف إنك من الأغنياء وإنك ستدخل الجنة حبوًا .. فأقرض الله يطلق لك قدميك .. فلما بلغ عبد الرحمن ما قالته أم المؤمنين ، حث خطاه إلى بيتها قبل أن تفض مغاليق أحمال تجارته ، وقال لها : لقد ذكرتني بحديث لم أنسه .. أما إني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها ، وأقتابها ، وأحلابها ، في سبيل الله عز وجل ..
لم تكن هذه المرة الأولى التي تسبق فيها أريحية ابن عوف أو تتجاوب مع أدنى إشارة لحديث الرسول عليه صلوات الله .. فقد باع يومًا أرضًا بأربعين ألف دينار فرقها جميعًا فى فقراء أهله وفقراء المسلمين ، وقدم يومًا للمجاهدين خمسمائة فرس ، ويومًا آخر ألفًا وخمسمائة راحلة .. كان من فرط جوده يقال : أهل المدينة جميعًا شركاء لابن عوف في ماله : ثلث يقرضهم ، وثلث يقضى عنهم ديونهم ، وثلث يصلهم ويعطيهم .. فما الذى كان يعنيه المصطفى عليه الصلوات بمقالته ــ ووعاه منه ابن عوف ، حتى يجود بماله فيسخو في جوده ، وحتى يبر به فيسخو في البر والعطاء ؟!
لم يكن عبد الرحمن بن عوف ضعيف الإيمان ، ولا قليل الجهاد للإسلام حتى يدخل الجنة حبوًا !!.. فهو من السابقين الأولين ، والمثابرين الأوابين ، والمجاهدين الصابرين ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، والذين قبض رسول الله عليه الصلوات وهو عنهم راض !!!
وإنما كان يريد صلوات الله وسلامه عليه شيئًا آخر فهمه صاحبه ابن عوف وتلقاه أحسن التلقي عنه .. أراد عليه الصلوات أن يبين أن الواجب على حسب القدرة ، وأن واجب الثرى إزاء المجتمع يزداد بقدر ثرائه ، وأن عطاءه ينبغي أن يواكب غناه ، وأن ما أفاء به الرزاق عليه إنما هو حمل يجب عليه أن يتخفف منه ، بأن يجعله في خدمة الناس والمجتمع ووسيلة إلى البر والخيرات ، ووصل الأرحام ، ومساعدة الفقراء والمحتاجين ، والبذل للمرضى والضعفاء والمساكين ..
فعن علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذى يسع فقراءهم ، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلاَّ بما يصنع أغنياؤهم ، ألا وإن الله يحاسبهم حسابًا شديدًا …
وإذا كان هذا هو ثقل واجب الأغنياء ، وهذا هو معيار حسابهم عن التقصير فيه ـ فإن تكليفهم به ليس دعوة للآخرين للتقاعس أو القعود عن السعى وطلب الرزق .. فإن الله تعالى يحب العبد المحترف ويكره العبد البطال ..
بهذه السنة تتعانق دعوة الأغنياء للوفاء بواجبهم إزاء المجتمع وإزاء الآحاد ، مع السواعد والأفئدة والقلوب ، وتكفكف آلام المكروبين والمعوزين الذين يقعد بهم عجز أو تنأى عنهم غاية .. بهذا البذل يدخل الباذلون الجنة بدل الحبو هرولة ، ويفوزون بنعيم الوارث الباقى قيوم السموات والأرض .
صلة الرحم
صلة الرحم من أجمل وأكرم شمائل الإسلام .. يدعو إليها ويحض عليها ، ويحذر من قطع أواصرها .
تقطيع الأرحام يوازى الإفساد فى الأرض !
يقول تعالى فى كتابه العزيز :
« فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا » (محمد22ــ 24) صدق الله العظيم
الرحم مشتق من الرحمة ، وهى اسمٌ من أسماء الله الحسنى .. الرحمن الرحيم .
عن أولى الأرحام ، يقول الله عز وجل :
« وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ »(الأنفال 75) .
روى البخارى بإسناده أن نبى البر والرحمة ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
« من سره أن يُبْسط له فى رزقه وأن يُنْسأ فى أثره فليصل رحمه ».
وروى الإمام مسلم عن جبير بن مطعم أنه عليه الصلاة والسلام قال : « لا يدخل الجنة قاطع » .. أى قاطع لرحمه .
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضى الله عنها أن نبى البر والرحمة قال : « صلة الرحم ، وحسن الجوار وحسن الخلق ــ تعمر الديار وتزيد الأعمار » صدق رسول الله
مناجاة
- طوبى لقلب المؤمن .. في الحديث القدسى ، يقول رب العزة : « إن السموات والأرض ضعفت عن أن تسعنى ، ووسعنى قلب عبدى المؤمن » ..
- رحمات ربك تحيط بعبده الذى حفظ مقامه عنده ولم يفارق طاعته ؛ إلى أن يجىء يومه ؛ فذلك الذى يأتيه الله تعالى بسلام الدنيا ونعيم الآخرة .
- إن الله تعالى قد جعل الفقه صفة القلب ، فقال : « لهم قلوب لا يفقهون بها » ؛ فلما فقهوا علموا ، ولما علموا عملوا ، ولما عملوا عرفوا ، ولما عرفوا اهتدوا وذاقوا حلاوة الهداية والإيمان .