في دوحة الإسلام (38)

في دوحة الإسلام  (38)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 14/10/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

في رحاب النبوة ، ونفحات المصطفى عليه الصلاة والسلام ، نبدأ حدثنا اليوم عن الأسوة الحسنة .. الأسوة التي قدمها نبي البر والرحمة إلى البشرية منذ المبعث ، إلى يوم الدين  ..

الأسوة الحسنة

للقدوة وأثرها ـ في رحاب النبوة ـ اعتبار كبير .. كان النبي ـ عليه السلام ـ نفسه عمادها ، ومثلها الأعلى .. ما نكاد نطرق حدثًا من أحداث السيرة النبوية الشريفة ، إلاَّ ونرى السلوك النبوي في الأوج السام الذى يستقطب المشاعر ، ويستهوى الأفئدة ، ويخلب الألباب بعظمته وكماله .. ويترجم عنه مقاله القرآن الكريم في حديثه عن الأسوة في نبينا المصطفى « لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْكَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا » (الأحزاب21).

كان عليه الصلاة والسلام أسوة في إيمانه ، وتعبده ، وفى إخباته وتهجده ، وفى أخلاقه وسجاياه ، وفى ثباته وبلائه في سبيل الله .. ولكن الذى يعنينا هنا هو أن نستقصى أثر القدوة الحسنة ، ومدى فاعليتها في تشكيل المنهج والسلوك ، في هذا الجيل الذى كان من حظه أن تلقى هذا الفيض الغنى في رحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ..

في السنة السادسة للهجرة ، كان المسلمون قد خرجوا محرمين مع النبي عليه الصلاة والسلام ، قاصدين مكة ـ والحنين يملأ قلوبهم للطواف بالبيت العتيق الذى جعله المولى تبارك وتعالى مثابة للناس وأمنًا ، والذى أُجبر هؤلاء المؤمنين على الهجرة من رحابه هربًا من إعنات طواغيت قريش .. لم يكن المسلمون قد خرجوا لقتال ، ولا تجهزوا في مسيرتهم الروحانية لحرب .. فلما خرجت قريش لهم شاكة في سلاحها وعتادها ، قاصدة منعهم بالقوة عن ارتياد مكة المكرمة .. دارت بين الطرفين محاورات انتهت بعهد الحديبية ، والذى نص فيما نص على أن يرجع الرسول وأصحابه في عامهم هذا ، على أن يعودوا للحج في العام التالي وتخلى قريش لهم مكة ..

لم يستقبل المسلمون هذا العهد بالرضا ولا القبول ، وكان أمرًا طبيعيًا ، بعد طول الشوق إلى مكة ، واقتراب الأمل في دخولها ، ثم ابتعاده ـ كان طبيعيًا أن يكون رد الفعل لدى الكثرة شديدًا ، وأن تكون خيبة أملهم عظيمة الأثر في نفوسهم بل وأن يفقد بعضهم سيطرته على مشاعره .. فلما أمرهم المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحلق والتقصير ، وقفوا ساكنين ، كأن على رؤوسهم الطير .. لا تطاوعهم نفوسهم على الإياب عن مكة دون التبرك بالطواف ببيتها المحرم الذى اشتد توقهم إليه .. كان عليه السلام مثلهم ، وربما أشد ، ولكنه أمضى أمرًا رأى فيه صالح المسلمين ، فما بال هؤلاء ، صحابته من الأنصار والمهاجرة ، يقفون واجمين ، وكأنهم لم يسمعوا أمره عليه الصلوات لهم بالحلق والتقصير !!

لحظتها ، دخل صلوات الله وسلامه عليه على زوجه أم سلمه ، رضى الله تعالى عنها وأرضاها ، دخل حزينًا يشكو حال المسلمين ، وإبطاءهم عنه فيما دعاهم إليه .. فلما سمعت عليها الرضوان لمقالته ، أشارت عليه بأن يخرج إليهم فيحلق ويقصر .. فإن رأوه فعل ، فعلوا مثله ، وانفرج الأمر .

عمل عليه السلام بمشورتها ، فما كاد يفعل ، حتى سارع المسلمون لما أحجموا عنه ، وأقبلوا جميعًا ، يحلقون ويقصرون ، ويتهيئون للعودة مع الرسول صلى الله عليه وسلم ..

إن قبول المصطفى عليه السلام لمشورة أم سلمة ، إنما هو مثل على كرامة المرأة في الإسلام ، ودرس غنى من دروس الشورى في رحاب النبوة ، ولكن هذا الأثر الكبير لمسلك الرسول عليه الصلوات على نفوس المسلمين ، لدرس بالغ عن أثر القدوة الفعلية ، على سلوك المقودين .. وأنه ليدل ، على طول الزمان ، على أن الفعل يعلو دائمًا على الكلام ، وعلى أن للقدوة السلوكية تأثير السحر في استنقاذ النفوس ، وترشيد السلوك .. يومها أتت لهؤلاء بشارة العلى العزيز « لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا » صدق الله العظيم ( الفتح 27 ) .

الإمام الشافعي

نزل الإمام الشافعي رضى الله عنه ـ مصر ، وأزمع الإقامة فيها ، فنصحه بعض من التقى بهم فقالوا له « فليكن لك قوت سنة ، ومجلس من السلطان تتعزز به » . فما زاد الشافعي على أن قال لهم « من لم تعزّه التقوى فلا عزّ له . لقد ولدت بغزة . ونشأت بالحجاز وما كان عندنا قوت ليلة ، ولكننا ما بتنا جياعًا قط » ..

إن الإمام الشافعي الذى تفيض عبارته بهذا الإيمان العميق ، واليقين الراسخ ، واحد من الأبرار الذين أخذوا عن الرسول عليه الصلاة والسلام وتخلقوا بهديه ، وتأسوا به . فكم كان صلوات الله وسلامه عليه يقول ويكرر .. « من سرّه أن يكون أعزّ الناس فليتق الله » ..

وإن من يستروح نفحات النبوة ليعلم من ذلك وغيره من الأحاديث الشريفة أن تقوى الله عز وجل إنما هي ترجمة عن المعرفة الكاملة بربوبيته سبحانه وعظمته وقدرته وهيمنته وجبروته ، وسائر صفاته ، وهذه المعرفة تورث جلال الخوف من الواحد الأحد رب العالمين . فتفيض بأثرها على النفس وجوارحها فتتأدب وترتفع عن الرذائل وتكف عن الآثام والمعاصي وتستبق إلى الخيرات والفضائل . وليس للعزّة سبيل أقوم ولا أشرف من هذا السبيل ، لأن الإنسان يُعزّ بإيمانه الذى لا يخشى به إلاَّ الله ، ويُعزّ بفضائله وإقباله على معالى الأمور وجلائل الأعمال ، ويُعزّ بما تغرسه فيه التقوى من يقين واعتماد على الله يجنبانه التدني لأحد من العباد .. وقد كان المصطفى صلى الله عليه و سلم إمام المتقين فعز بتقواه كما عز بنبوته ورعاية المولى تبارك وتعالى له .. كان صلوات الله وسلامه عليه يقول فيما رواه عنه أنس رضى الله عنه : « والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له .. »

عن هذا الهدى الكريم أخذ نجباء مدرسة النبوة ، فقوى إيمانهم وسمت خصالهم واستقام نهجهم .. وقد رأينا كيف جاءت عبارة الإمام الشافعي عليه الرضوان مليئة بكل معانى الإيمان والتقوى والتوكل على الله . فهو يرى أن العزّة كما أرشد المصطفى هي بتقوى الله .. وأن من لم تعزّه التقوى فلا عزّ له .. وهو بيقينه في الله لا يخشى حاجة ولا إملاقًا .. ولا يتخوف فقرًا ولا جوعًا .. فهو بما في يد الله أوثق منه بما في يده ، وهو على يقين من رعاية المولى وبره بعباده الصالحين .

إن الإيمان فيما وعاه هؤلاء الأبرار عن مدرسة النبوة هو طريق العزة والسبيل الرحب إليها ، من اهتدى إليه واغترف من نبعه فقد عزّ . يقول تبارك وتعالى في محكم تنزيله ..« وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ » ( المنافقون 8)       صدق الله العظيم

إمام الفقه والعدل

احتكم المنصور يومًا ، وزوجته أم أولاده ، إلى أبى حنيفة النعمان ، في خلاف شجر بينهما ، وفى مجلس الخليفة عرضا عليه المسألة ، فرأى أن الحق مع الزوجة لا مع المنصور . ولم يأنف من إبداء ذلك  .

وفى بيته ، أتاه بعد ذلك مندوب من زوجة المنصور بهدية منها ، ولكنه رده في رفق ، وكلفه أن يقرئها السلام وينقل إليها أنه إنما ناضل عن دينه وقام ذلك المقام لله . لم يرد بذلك تقربًا لأحد ، ولا التمس به الدنيا !

*  *  *

  • العبد مضطر إلى الله أبدًا .. ولا يزايل العبد هـذا الاضطرار .. لا في الدنيا ولا في الآخرة .. ولو دخل الجنة فهو محتاج إلى الله فيها .

وهذا هو حكم الحقائق .. إذ لا يختلف حكمها لا في الغيب ولا في الشهادة .. لا في الدنيا ولا في الآخرة .. فالعلم صفة الكشف ، أي علم كان  بأي وقت كان .. والإرادة صفتها التخصيص ، أي إرادة كانت في أي وقت كان .. ومن اتسعت أنواره لم يتوقف اضطراره .

ولما لم تصل عقول العوام إلى ما تعطيه حقائق وجوداتهم ، سلط الحق الأسباب المثيرة للاضطرار ليعرف ( العبد ) قهر ربوبيته وعظمة إلهيته .

  • يظفر العبد بكل خير وهدى ورشد ، بقدر إثبات عين فكرته في آلاء ربه ونعمه ، وفى توحيده وسبل معرفته وطريق العبودية له وطاعته .
زر الذهاب إلى الأعلى