في بلاط الأسد ! (1)
من تراب الطريق (1153)
في بلاط الأسد ! (1)
نشر بجريدة المال الأحد 8/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
طفق « دمنة » يروى للأسد، وقد كاد له الأعداء لديه، ما كان من أمر المرأة والمصور والعبد، وما انتهى إليه أمر المصوّر الماهر المولع بالتصاوير ـ من ندمٍ على ما فعل، فلما فرغ دمنة من حكايته التي جعل بيدبا الفيلسوف يسوقها لدبشليم الملك، استأنف دمنة يخاطب الأسد: ملك الغابة، قائلا:
« إنما ضربت لك هذا المثل أيها الملك لتعلم أن الشبهة كذب، وأن الكذب يعيب صاحبه. ولست أنت حقيقاً بقتل البريء ذي الصحبة لوشى الوشاة وتحامل الخونة عليه. ولست أقول هذا ـ أيها الملك ـ كراهة للموت. فإن الموت وإن كان كريها ـ إلاَّ أنه لا منجى منه، وكل حىّ ميت.. ولو كانت لي مائة نفسٍ وأعلم أن رضا الملك إتلافهن ( قتلهن ) لطبت له بهن نفساً……. وإني وإن كنت أعلم أن الله باعد الملك من الجور والاعتداء وإهلاك النفس البريئة بوشى الأشرار، فإني أحب أن لا يعجل الملك بأمرٍ دون الفحص والتروي ».
وبينما يبدى « دمنة » معذرته، اعترض أحد جلساء حاشية الملك فقال للأسد: « أيها الملك، إن دمنة لا يقول ذلك تعظيما لحق الملك، ولا توقيرا لفضله، ولكنه يريد أن يدفع عن نفسه ما قد نزل به من سوء عمله ! »
ولكن الله ألهم دمنة الصواب، فأفحم الدسَّاس وألزمه الصمت فخرج يجر أذيال الخيبة.
ولكن أم الأسد انبرت لدمنة، تسفهه وتشجبه، وتستعدى ملك الغابة عليه، وتصفه بالفاسق الخائن الفاجر، وتحض الأسد على قتله، ففي ذلك راحة للملك وجنوده، فيأخذ عليها دمنة أنها ترى بعين واحدة، ويرد على دعواها بحجج أشد، ختمها بقوله لأم الأسد: « إن الكاذب من كافأ الإحسان بالإساءة، والخير بالشر، والأمن بالخوف. أما أنا فقد أنجزت ما وعدت ووفيت العهد ».
هنالك أرادت أم الأسد أن تضرب ضربتها الأخيرة، عساها ترد الأسد عن اللين الذي ارتابت أنه بدأ يداخله، فقالت لولدها محرضة: « إن الصمت على حجج الخصم لشبيه بالإقرار بحقيقة ما يقول ! ومن هنا قالت العلماء: « أَقَرّ صامت ».. ثم انتفضت أم الأسد غاضبة تريد الخروج من مجلس الملك.
مال الملك لإرضاء أمه، فأمر بدمنة ليوضع القيد في عنقه، ولكن أم الأسد شاءت إلاَّ أن تمعن في النكاية للإجهاز على غريمها في بلاط السلطان، فقالت لولدها للمصادرة على دمنة: « إنى لم أزل أسمع بمكر دمنة منذ زمان. ثم تحقق عندي ما سمعت من إفكه وافتعاله المعاذير وكثرة مخارجه بغير صدق ولا براءة. فإنك إن أمكنته من الكلام دافعك عن نفسه بالحجج الكاذبة ».. ومضت أم الملك في تحريضها لولدها على قتل دمنة !
ولكن الأسد بعد أن استمع وأطال الإنصات قال: « إن من شأن بطانة الملوك وقرابتهم ـ التنافس في المنازل بينهم، ودخول البغي والحسد من بعضهم على بعض، ولا سيما على ذي الرأي والنبالة منهم لخاصته » !
انتظر ملك الغابة برهة قبل أن يستأنف إلقـاء حجته لأمه والمتربصيـن بدمنة من بلاطه، ثم قال:
« وقد علمت أن مكان دمنة قد ثقل على غير واحد من جنودي وأهلي، فلست أدرى.. لعلّ الذي أرى وأسمع من جماعتهم وإجماعهم عليه لبعض ذلك. وأنا أكره العجلة في أمره. فإن العلق الصالح ( العلق دود أسود يمتص الدم في الماء الآسن، وإذا شربته الدابة علق بحلقها ) لا يستهلك إلاَّ في حقه وموقع القدر فيه لمن استهلكه. ولا أجدني معذوراً إن تابعت نفسى بالمعاجلة في أمره دون الفحص والثبات ( التثبت ) ».. ثم استأنف الأسد حديثه وهو يلتفت إلى أمه: « ولكنْ كونى بخير واسلمي فإني قد بدا لي من الرأي ما ينبغي ».
انصرفت أم الأسد هانئة بنجاح تدبيرها، بينما اقتيد « دمنة » إلى محبسه، فلما وصلت أخباره إلى كليلة، قاوم كليلة ما كان قد دخل بينهما من جفاء، وغلبته الصحبة وطول الإخاء، فذهب إليه في سجنه تسبقه دموعه، ولكنه غالبها ليقول لصديقه عن صحبة الملوك وما تجره:
« إنَّ ما أنت فيه لكافيك عن عظتي، ولكن لا يمنع ذلك من إنذارك والنصيحة لك.».. ومضى كليلة يضرب لدمنة الأمثال آخذا عليه أن إعجابه بنفسه دخل به مدخلاً قهر رأيه وغلبه على عقله، فقال دمنة:
« لم تزل منذ كنت تقول الحق بجهدك، وقد كنت تعظني وتنصحني، ولكن شدة النفس والحرص على طلب المنزلة فَيَّلا رأيي ( عظماه كحجم الفيل في نظره ) وسفَّها نصحك عندي. وقد عرفت الآن أنى زرعت لنفسي هذا البلاء. وإنما يشتد على البلاء خوفي أن تتهم في أمرى لما كان بيني وبينك ».
وطفق « دمنة » يبدى مخاوفه من موقف كليلة إذا شددوا عليه العذاب، هل يعترف عليه بما يراد، أم يصبر على ما يلاقيه ؟!.. فلم يجد كليلة بدًّا من الإقرار بأن العلماء قالوا إن الأجساد لا تصبر على حلول العذاب، ولا تمتنع عنده من القول بكل ما تستطيع به أن تدفعه !
طال الحديث بين صديقي الأمس، حتى انصرف كليلة إلى منزله مغموماً تحدثه نفسه ببلاء عظيم وشر مستطير !!
فماذا تراه يفعل لدرء هذا البلاء الذي يحيط بصاحبه، ويهدده معه ؟!