عنصرية إسرائيل ؛ ودمعة يحيى حقي !


نشر بجريدة الأهرام الاثنين 3 / 8 / 2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

فى تقديمه لكتابه البديع : «دمعة .. فابتسامة» ـ كتب يحيى حقي: «دلق الزنبيل، أصدق وصف لهذا الكتاب، فهو خواطر متناثرة، فى موضوعات شتى لا روابط بينها، ذكريات وأدب وفكاهة، يمثل كل مقال همومى وقت كتابته. ومن ورائها جميعًا دافع واحد.. عناصر الكلمة، وبحث قلب عمن ينصت لنجواه».
ولكنك على طول وتنوع ما تطوف به مع يحيى حقي في فصول ومشاهد واسكتشات هـذا الكتاب، لا يمكن أن تعرف هل حقيقة تسبق الدمعة الابتسامة، أم تسلس الابتسامة إلى دمعة ؟! ومع ذلك فقد وجدت بين فصول الكتاب فصلا بلا بسمة، كله دموع.. «نكبة روحية».. العنوان الذي اختاره يحيى حقي لهذا المقال الذي نشر بالمساء 11/5/1965.
في ذلك الوقت لم تكن قد دهمتنا بعد نكسة 1967، ولا كانت قد أدركتنا أغلاط الخلط بين العدو والصديق، ولا كانت شرنقة الاعتياد قد أخذتنا بعد إلى قاع الاستسلام والخذلان !
المقال من وحي حوارات بين يحيى حقي وحسين ذو الفقار صبري الذي أوفد على رأس بعثة صغيرة تزور بلادًا عديدة فتتصل بحكوماتها وبشعوبها أيضًا ـ لتشرح قضية العدوان على الشعب العربي في فلسطين.. لا تنس أن ذلك كان فى ستينيات القرن الماضي !
في تضاعيف الحوار، كيف ومنذ الشباب ساقت دراسة اللغات وتعدد الترحال، إلى آفاق بدت للمتحدث أكثر اتساعًا، انهدمت فيها الحدود بين الأقوام، فى حاضرها وماضيها، وضمت فى رَكْبٍ واحدِ الأشباه والنظائر.. رَكْب دعاة الفضيلة والهداية إلى رب خلق الجميع لميعاد هداية لأرواحهم التب هي قبس من نور الله، ورَكْب المجذوبين الذين اجتباهم الفن فكرهوا الدمامة وعشقوا الجمال إلى حد الوله.. في ظلال هذين الركبين انهدمت الأسوار عند المتحدث بين الأديان واللغات والأجناس والأوطان.. يحلم بجنة لجميع المؤمنين الصالحين من كل ملّة، فرحمة الله أوسع من كل ظن.. بلغة واحدة مصدرها القلب، وبجنس واحد اسمه الإنسان بلا فرق لون، ولوطن واحد هو أمنا الأرض، مضت أحلام الوجدان الغض ترفع الحواجز والحدود، وتلغى الأسلحة والجيوش والحروب، وتفتح آفاق الحركة والترحال بلا دفاتر ولا استبدال نقود ولا جوازات مرور، ولعل ذلك يذكرنا بفيلم «الحدود» الذب أبدع تمثيله الفنان «دريد لحام»!
أغمض المتحدث عينه على هذا الحلم، ولكن حين فتحها باغتته العنصرية تعود في أبشع صورها فتؤسس إسرائيل، وتوحد بين الجنس والدين، وتراهما شيئًا واحدًا هو وحده الذي يعطي الانتماء إليها، رفس اليهود النعمة التى أطلت بالاندماج بلا اضطهاد في الشعوب التي يعيشون بينها، وأبوا إلاّ أن ينفصلوا ليقيموا إسرائيل في فلسطين على جثة وطن وشعب، كشفوا كذب ما كانوا به يحلفون أنهم لا يحملون جنسيتين ولا يدينون بولاءين !
وبدلا من أن يسير العالم إلى الأمام نحو زوال الفروق بين الأجناس والأديان، إذ به يرجع القهقري في ردة زلزلت قلب المتحدث.. الأدهى فيما أفصح في الحوار، أن تكون الجريمة دعامة قيام دولة ؟!
لم تمض سنوات كثيرة حتى أفصحت إسرائيل عن «يهودية الدولة»، لتصل بالتعصب إلى أصرخ وأحط صورة، أن تعطى لإسرائيل صبغة دينية يهودية، وتستبعد منها كل من هو غير يهودي.. مسلمًا كان أو مسيحيًا، فهي دولة اليهود ولا أحد سواهم ..
والغريب الصافع أن يسكت العالم على هذه «الصفعة»، بل وتباركها الولايات المتحدة الأمريكية ذات الأغلبية المسيحية.. ولا تجد غضاضةً فى أن تبارك «يهودية» إسرائيل، وأن تبارك تمزيق الشعب الفلسطيني واقصاءه عن أرضه ووطنه.. وأن تمضي تحت هذا الشعار الإسرائيلي الذي باركته، لالتهام باقي فلسطين تحت مسميات مختلفة وخطة مدبرة، ولا حياة لشعب يصرخ للعالم (الحر) أن ينقذه من هذه الإضاعة التي تباركها القوة الأمريكية الكاسحة !!
لم تكن إسرائيل قد أعلنت ذلك بعد حين انهمرت دمعة يحيى حقى عام 1965، ولو صادف ما نصادفه الآن، لانهمرت دموعه مدرارة، فقد أصدرت إسرائيل قانونًا يمنح اليهود فقط ممارسة حق تقرير المصير فى البلاد، واعتبرها نتن ياهو «لحظة حاسمة»، فهي لحظة العصف بكل حقوق فلسطين والفلسطينين، بل واعتبار «عرب إسرائيل» مواطنين من الدرجة الثانية، ولتكريس ما يتعرضون له من تمييز عنصرى ومن سوء الخدمات فى التعليم والصحة والإسكان، وها هو هذا التمييز العنصرى يسحب منهم حق المواطنة !!!
حملت «يهودية» دولة إسرائيل، صفعات سكت عليها العالم، وباركتها الولايات المتحدة.
إسرائيل هي الوطن التاريخي لليهود !
لليهود فقط في إسرائيل حق تقرير المصير !
الغرض حماية شخصية دولة الشعب اليهودي بحيث تصدر القوانين معبرة عنها !
النشيد القومي هو «هاتيكفاه»، أي نشيد الأمل !
العلم تتوسطه نجمة داود !
اللغة الرسمية هي العبرية، ويحق لكل يهودي الهجرة إلى إسرائيل وحمل جنسيتها، مما يستوجب تعزيز المستوطنات على أراضي فلسطين السليبة، بل وهضبة الجولان السورية !
ترى ماذا يمكن أن يفعل العالم، وتفعل الولايات المتحدة، إذا أقدمت كل دولة بها أغلبية إسلامية، أو بها أغلبية مسيحية، على اصطناع هذا الصنيع ؟!
يمضى يحيى حقب فيقول من خمسة وستين عامًا: «جميع مثلى العليا تحطمت، هذه هي نكبتى الروحية، ووجدتنى أرتد إلى التعصب لوطنى وقوميتب ولغتي، لأني رأيت أن لا دفاع إلاّ بهذا التعصب» !
هل عرفنا الآن، وعرف العالم، من الذي يزرع التعصب، ويدير صراع العنصريات والأديان، ويبث أسباب التطرف الذي لم يبعثه من رقاد طويل ـ إلاّ الهجمة العنصرية اليهودية التي لا تستحى رغم كل هذا أن تشرع في وجه كل مناهض تهمة: معاداة الساميّة ؟! .. بينما هي ترتكب على الواسع جريمة معاداة الإنسانية !!

زر الذهاب إلى الأعلى