عناصر الخداع التجاري في القانون المصري

بقلم الدكتور/ فرج الخلفاوي

الخداع التِّجاري الذي يعتد به المشرع هو الذي يتوافر فيه عنصران أحدهما العنصر المادي : ويلزم لقيامه القيام بأعمال أو أكاذيب من شأنها إظهار الشيء على غير حقيقته أو إلباسه مظهرًا يخالف ما هو عليه حقيقة، وذلك إذا انصب الأمر على صفة من الصفات التي حددها المشرع على سبيل الحصر، وثانيهما العنصر المعنوي: أي قصد ارتكاب الخداع عن بينة واختيار وعليه نتناول هذا المطلب في الفرعين الآتيين:

 العنصر المادي في الخداع التجاري :
يلزم لقيام العنصر المادي للخداع التِّجاري القيام بأعمال أو أكاذيب تحمل على الاعتقاد الخاطئ وأن تنصب هذه الأكاذيب على أحد الامور التي حددها المشرع على سبيل الحصر.
أولًا : القيام بأعمال أو أكاذيب تحمل على الاعتقاد الخاطئ:
الخداع هو استخدام الحيلة أو الكذب من جانب أحد العاقدين تجاه الآخر بما يدفعه إلى التعاقد ، وليست هناك وسائل معينة للخداع ، ويرجع ذلك لرغبة المشرع في عدم حصر وسائل الخداع في نطاق معين؛ وذلك حتى لا يؤدي إلى إفلات المتحايلين على تطبيق أحكام القانون عليهم ؛ ولذلك فقد ترك المشرع لقاضي الموضوع سلطة استخلاص وسيلة الخداع في كل حالة على حدة، فالخداع يقع بطرق متعددة، ويمكن تقسيم صور الخداع إلى صورتين، هما:
1- الشكل الإيجابي:
ويقع بالخداع بعمل مادي أيًّا كانت صورته، ويتمثل في القيام بأعمال أو ادعاء كاذب من شأنه إلباس الشيء مظهرًا غير حقيقي، ويفترض الخداع التأكيد ( صراحة أو ضمنا) على واقعة معينة صحيحة كليًّا أو جزئيًّا من شأنها إدخال اللبس في ذهن المتعاقد معه؛ مما يوقعه في الغلط ويقدر مداه وفقًا لمعيار الرجل المعتاد. ويتم الخداع بكل عمل مادي يقوم به الفاعل كتسليم بضاعة مختلفة كليًّا أو جزئيًّا عن المتفق عليها ، وقد يتم باستخدام طرق احتيالية، ولا يشترط في هذه الحيل درجة جسامة معينة وأن تكون السبب الدافع للتعاقد كما في التدليس المدني.
والأصل طبقًا للقواعد العامة أن الكذب المجرد لا يعد تدليسًا كالمبالغة في الترويج للسلعة فمجرد الكذب لا يكفي لتكوين التدليس ما لم يصاحبه ظروف ووسائل مادية تدعمه وتقويه.
وترتيبا على ذلك فإنه يكفي أن تكون هذه الوسيلة في صورة كذب ولو كان شفويا أو لو كان بإيماءة من الرأس للإجابة مثلا عن سؤال من المشتري خاص بنوع البضاعة أو بحقيقتها أو بعددها أو بغير ذلك مما هو مبين في المادة الأولى من القانون.
2- الشكل السلبي :
ويتم ذلك بالترك عن طريق إخفاء أو السكوت عن بعض العناصر ، ولقد ثار الخلاف حول قيام الخداع التِّجاري بطريق الامتناع أو الترك خاصة في ظل الخلاف حول اعتبار الكتمان تدليسًا مدنيا.
واستقر الرأي على اعتبار الكتمان تدليسًا عندما يكون هناك التزام قانوني أو اتفاق بالإعلام أو عندما تقتضى طبيعة العلاقة وجود ثقة خاصة، وهو الأمر الذي أخذت به المادة 125 من التقنين المدني المصري فالصراحة وعدم الكتمان أصبحا واجبا عاما على المتعاقد مصدره هذا النص. ويشترط لاعتبار الكتمان تدليسًا أن يكون الأمر المكتوم خطيرا بحيث يؤثر على إرادة المتعاقد الذي يجهله تأثيرا جوهريا، وأن يعرفه المتعاقد الآخر ويعرف خطره أو أهميته وأن يتعمد كتمانه عن المتعاقد الآخر ، وألا يعرفه المتعاقد الأول أو يستطيع أن يعرفه عن طريق آخر.
وبالنسبة لمدى اعتبار الكتمان مشكلا لفعل الخداع وفقًا للمادة الأولى من قانون قمع التدليس والغش رقم 48لسنة 1941 والمعدل بالقانون رقم 281لسنة 1994 فقد ذهب البعض إلى عدم اعتبار الكتمان مشكلا لجريمة الخداع التِّجاري . بينما ذهب آخرون وبحق إلى اعتبار الكتمان مشكلا لجريمة الخداع إذا ما كان هناك واجب للإفصاح كعقود التأمين والوكالة .
أما بالنسبة لقانون حماية المستهلك المصري رقم 181لسنة 2018 فقد ألزم المشرع بنص المادة 4 من القانون المنتج بعدم الكتمان وإعلام المستهلك بجميع البيانات الجوهرية عن المنتجات – وعلى الأخص مصدر المنتج وثمنه وصفاته وخصائصه الأساسية- وإضافة اللائحة التنفيذية لقانون حماية المستهلك بنص المادة 3 إلزام المنتج أو المعلن بالإفصاح عن طرق استخدام المنتجات إذا كان له طريقة استخدام خاصة والنتائج المتوقعة من الاستخدام والسعر الشامل وكيفية سداده. وألزمت اللائحة المنتج بالإفصاح والإعلام بحسب الوسائل الممكنة التي يسهل على المستهلك الاطلاع عليها .
– الخداع التام والشروع فيه :
والخداع التام يتحقق بانعقاد العقد، أي: تلاقي الإيجاب والقبول، سواء أكان التعاقد شفهيا أم مكتوبا مدنيا أو تِجاريًّا ، ولو لم يتم التسليم بعد أو تراخى تنفيذ العقد في جزء منه أو كليًّا فالعبرة بانعقاد العقد لا بتنفيذه حتى لو شاب العقد سبب من أسباب البطلان وحتى لو تعلق بالنظام العام. ويتحقق الشروع في الخداع بمجرد أن يلقي الفاعل أكذوبة إلى المتعاقد معه في أحد الأمور التي عددها النص وأن يكون ذلك في مقام التعاقد فإذا خدع المتعاقد وتمت الصفقة فإن الخداع يكون تاما . أما إذا اكتشف المتعاقد الحقيقة سواء من تلقاء نفسه أو بتنبيه من جانب أحد الأشخاص فلم يتعاقد فإن الواقعة تعد شروعا .
ثانيًا : صور الخداع التجاري:
حددت المادة الأولى من قانون قمع التدليس والغش رقم 48لسنة1941 وتعديلاته نطاق الخداع بإحدى صور أربعة وردت على سبيل الحصر وهي ما يلي:
1- ذاتية البضاعة إذا كان ما سلم منها غير ما تم التعاقد عليه:
يقصد بذاتية البضاعة مجموع العناصر الأساسية وخواصها التي تلازمها والتي يؤدي فقدانها إلى تغير طبيعتها، وهي تشكل الطبيعة المادية للشيء إذا تعلق الأمر بمنتجات، ويكون هناك خداع بذاتية الشيء إذا كان هناك تغير جسيم في خصائص الشى محل الخداع وخصائصه في الواقع بحيث يفقده طبيعته أو يجعله غير صالح للاستعمال الذي أعد من أجله؛ إذ يعتبر في الحقيقة قد تحول إلى شيء ذي طبيعة أخرى. أما بالنسبة للخدمات فيكون الإعلان عن خدمات معينة على خلاف الحقيقة. ويتحقق الخداع في هذه الصورة من صور التجريم بأن يكون ما سلم من البضاعة غير ما تم التعاقد عليه. وقد أصاب المشرع في قانون حماية المستهلك رقم 181لسنة 2018 في تفادي تسليم بضاعة غير التي تم التعاقد عليها ؛ حيث توسع في الالتزامات الواقعة على عاتق المنتج قبل إبرام العقد وخاصة في التعاقد عن بعد، وألزم المنتج بأن يمد المستهلك بشكل جلي وصريح بالمعلومات والبيانات التي تمكنه من اتخاذ قراره بالتعاقد.
2- حقيقة البضاعة أو طبيعتها أو صفاتها الجوهرية أو ما تحتويه من عناصر نافعة، وبوجه عام العناصر الداخلة في تركيبها:
ويقصد بالخداع في هذه الصورة الخداع الذي يقع على جسم البضاعة أو على جوهرها أو ماهيتها، أي: على الشيء نفسه، والغلط الذي يقع على جسم البضاعة هو الغلط الذي يقع على الشيء نفسه، أما الغلط الذي في الجوهر أو المادة فيقصد به الغلط الذي لا يقع على الشيء ذاته، ولكن على العناصر المادية التي تكونه والخواص التي تميزه عن الأشياء الأخرى طبقًا للمتعارف عليه بين الناس.
وتقدر حقيقة البضاعة أو طبيعتها بناء على الصفات الجوهرية لها وما تحتويه من عناصر نافعة وعلى كل العناصر الداخلة في تركيبها، ويقتصر التجريم في هذه الحالة على الخداع الذي يقع على الصفات الجوهرية التي يتضمنها الشيء موضوع العقد والتي تقوم عليها القيمية الحقيقية للبضاعة من وجهة نظر المتعاقد، ويستوي أن تكون هذه الصفة هي السبب الأساسي للتعاقد أو ألا تكون كذلك، ولكن يشترط في كل الأحوال أن تكون أحد الأسباب الدافعة إليه .
وألزم المشرع المصري بنص المادة 9 من قانون حماية المستهلك المنتج أو المعلن بتجنب أي سلوك خادع إذا انصب على طبيعة السلعة أو صفاتها الجوهرية أو العناصر التي تتكون منها أو كميتها أو نوع الخدمة ومكان تقديمها ومحاذير استخدامها وصفاتها الجوهرية سواء انصبت على نوعيتها أو الفوائد من استخدامها. كما تشمل هذه الحالة حالة الخداع في المواصفات القياسية، حيث ألزم المشرع في نص المادة 3 من ذات القانون المنتج باحترام قواعد الصحة والسلامة ومعايير الجودة وضمانها للمستهلك في منتجاته وفقًا للمواصفات القياسية المصرية أو وفقًا للمواصفات الدولية المعتمدة في مصر في حال عدم وجودها. وهو ما أكدت عليه المادة 2 من اللائحة التنفيذية لقانون حماية المستهلك ، وذلك كله بحسب طبيعة المنتج.
3- نوع البضاعة أو منشؤها أو أصلها أو مصدرها في الأحوال التي يعتبر فيها بموجب الاتفاق أو العرف النوع أو المنشأ أو الأصل أو المصدر المسند غشا إلى البضاعة سببًا أساسيا في التعاقد: وتضمنت هذه الصورة أربع حالات يمكن أن تكون محلا لجريمة خداع المتعاقد، وقد فرق قانون الجمارك رقم 66لسنة1963 بين أصل البضاعة ومصدرها، فنصت المادة 19 من ذات القانون على أن أصل البضاعة أو منشأ البضاعة هو بلد إنتاجها سواء أكانت من المحصولات الزراعية أو الطبيعية أم من المنتجات الصناعيَّة، وتحدد بقرار من الوزير المختص القواعد التي تعين منشأ البضاعة إذا تناولتها يد الصناعة في بلد غير بلد الإنتاج الأولي ويحدد وزير الخزانة الحالات التي يجب فيها تقديم المستندات الدالة على المنشأ. وعرفت المادة 20 من ذات القانون مصدر البضاعة بأنه هو البلد الذي استوردت منه مباشرة .
أما نوع البضاعة فيقصد بها المزايا أو الخصائص التي توجد في البضاعة، وتسمح بالتميز بين المنتجات من نفس الجنس. ويتطلب في الخداع التِّجاري في هذه الصورة ووفقًا للمادة الأولى من قانون قمع التدليس والغش رقم 281لسنة 1994 أن يكون نوع البضاعة أو منشؤها وأصلها أو مصدرها هو السبب الرئيس للتعاقد وليس أحد أسباب التعاقد.
وتضمنت المادة 6 من اللائحة التنفيذية لقانون حماية المستهلك رقم 181لسنة 2018 إلزام المورد بأن يضع على السلع البيانات الدالة على بلد المنشأ.
4- عدد البضاعة أو مقدارها أو مقاسها أو كيلها أو وزنها أو طاقتها أو عيارها :
– والمقصود بعدد البضاعة : هو ما تتكون منه وحدات حسابية كألف جهاز لاب بتوب.
مقدار البضاعة: فهو الحساب الكمي للبضاعة بالنظر إليها على أنها وحدة واحدة، أي مبالغ البضاعة، وما يعرف به من ناحية الكم من معدود ومكيل وموزون كالمحصول الناتج من فدان شعير.
– أما مقياس البضاعة : فهو أسلوب تقدير البضاعة عن طريق استعمال أدوات القياس كالمتر – وأما كيل البضاعة : فهو أسلوب تقدير البضاعة عن طريق استخدام أدوات الكيل كالإردب.
– أما وزن البضاعة: فيكون عن طريق حسابها بواسطة الات الوزن المعروفة كالكيلو .
– وأما بطاقة البضاعة: فهو طريقة تقدير البضاعة باستخدام المقاييس الفنية التي تستخدم لهذا الغرض كحساب قوة قدرة موتور سيارة ومدى استهلاكه للوقود بالأحصنة.
– وأما عيار البضاعة: فيقصد به مجموع العناصر الداخلة في تركيب السبائك من المعادن النفيسة، كالذهب .
وقد ألزم المشرع المصري بنص المادة 9 من قانون حماية المستهلك المنتج أو المعلن بتجنب أي سلوك خادع إذا انصب على مصدر السلعة أو وزنها أو حجمها أو طريقة صنعها أو تاريخ إنتاجها أو تاريخ صلاحيتها أو شروط استعمالها أو محاذيره. وهو ما أكدت عليه المادة 8 من اللائحة التنفيذية لقانون حماية المستهلك .

 العُنْصُرُ المَعْنَوِيُّ فِي الخِدَاعِ التِّجَارِيِّ:
لا يقوم الخداع التِّجاري إلا بطريق العمد؛ إذ يلزم لقيامه ضرورة توافر الركن المعنوي، أي: قصد ارتكاب الخداع عن بينة واختيار. ولا يقوم بطريق الإهمال أو عدم الاحتياط والتحرز أو الإخلال بواجب الرقابة.
وبناء على ذلك فأفعال الخداع لا تقوم عن طريق الإهمال مهما كان جسيمًا، فحسن النية يستبعد الغش دائمًا، ولما كان الإهمال أحد صور الخطأ غير العمدي، بينما يفترض التدليس غشا عمديا؛ لذا فانه لا يعتبر مخادعا إلا من كان سيئ النية . أما إذا كان يعتقد خطأ توافر صفة معينة في البضاعة ليحصل على ثمن أعلى من قيمتها الحقيقية فلا يقوم الخداع؛ وذلك لأن الغلط يستبعد التدليس. والغلط الذي ينفي القصد الجنائي هو الغلط في الوقائع، وليس الخطأ في القانون فإذا ارتكب الفاعل فعلا معتقدا أن القانون لا يعاقب عليه فإن هذا النوع من الغلط لا يستبعد المسئولية عن الخداع التجاري. والجهل بالقوانين قليلة الانتشار اوكثرت اللوائح والقرارات لا يولد حقا معينا للطرف الخادع . ولا ينفي القصد لديه، ويتوافر الخداع التِّجاري على الرغم من ذلك.
أولًا: العلم :
يتعين أن يكون الفاعل عالما بالخداع أو الغش الذي أدخله أو يحاول إدخاله على المتعاقد الآخر علما حقيقيا واقعيا يبرر وصف المشرع لفعله بأنه “خدع أو شرع في أن يخدع “، ويتوافر العلم متى كان محل التعامل غير مطابق للمواصفات القياسية فإذا باع بضاعة بها عيب ثابت فإنه لا يمكنه الاحتجاج بحسن النية ، حتى ولو لم يكن هو الصانع لها. وعنصر العلم يقوم على أمرين :

1- العلم بالواقع :
لا يفترض؛ إذ يجب إقامة الدليل عليه باستظهار علم الفاعل بوقوع الغش ويجري العمل على إثبات ذلك من كون الفاعل تاجرا يقع عليه واجب الإشراف على عماله والرقابة على المنتجات الخارجة من مصنعه والتي يتاجر فيها.
2- العلم بالقانون :
هو أمر مفترض لا سبيل لنفيه، فالعنصر المعنوي يكون ثابتا بمجرد مخالفة النصوص القانونيَّة أو اللائحية . وتوافر العلم بالغش أمر يفصل فيه قاضي الموضوع بناء على اقتناعه، ولا شأن لمحكمة النقض بذلك متى كان استنتاجه سائغا؛ لأنه من أمور الواقع التي يستقل قاضي الموضوع بتقديرها مطلقا .
ثانيًا : الإرادة :
يجب أن تتجه إرادة الفاعل إلى تحقيق الواقع محل الخداع ، أي: إدخال الغش على المتعاقد معه توصلا لتحقيق نتيجة معينة . أي: أن تتجه إرادته صوب ارتكاب الفعل المادي، وهو الخداع أو الغش فيه، وينبغي أن تكون هذه الإرادة حرة مختارة.
ويلزم أن يتوافر القصد في لحظة إبرام العقد إذا كان الخداع تاما أو وقت تقديم البضاعة أو عرضها إذا كانت مشروعا فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى