عفو الخاطر !
عفو الخاطر !
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 16/1/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
هذه كلمات أكتبها عفو الخاطر، ليس في ذهني وأنا أكتب هذه الكلمـات مـاذا تحديدًا سوف أقول.. فقط وجدتني وأنا أستمع إلى أم كلثوم التي أستعذب شدوها ومعانيه، وجدتني مشدودًا إلى شجنها وهى تغنى: « عاوزنا نرجع زي زمان، قُلْ للزمان ارجع يا زمان » . !!
لغة الحب والشجن، لغة موحية، تستقطر المشاعـر والأحاسيس، وتستخرج تضاعيف وأعماق النفوس وحقائق الحياة.. فهل استحالة العودة للزمن الماضي مقصورة فقط على الصفحات التي انطوت بين الأحباب ؟! أليس شجن الكلمات يوحى للمتأمل بمعانٍ تتخطى حديث القلوب إلى واقع الحياة ؟!
واقع الحياة أن ما انقضى لا يعود، وأن الإنسان ابن حاضره، قد يطل على ماضيه بعين الرضا أو بعين السخط أو بعيون المراجعة والاتعاظ واستقطار التجربة، ولكنه مشدود إلى المستقبل بما يحوطه من مجاهيل واحتمالات، وبما يتطلع إلى تحقيقه فيه من أمان وآمال.. قد تتكرر الأيام، وتتشابه الحوادث، ولكن اليوم ليس كالأمس، والغد يحمل غير ما شهده اليوم.. والإنسان نفسه وليد أطوار وأحوال، فكما أن الظروف متغيرة، فكذا أحوال الناس.. أنت اليوم غير ما كنته بأمس، وسوف تكون غدًا غير ما أنت عليه اليوم، ولذلك كانت العودة للزمن الماضي ليست مستحيلة فقط على ما ضاع أو فسد بين الأحباب، وإنما هي عصيّة على أي إنسان في عموم الحياة، لأن استنطاق الماضي محال، والعيش فيه من رابع المستحيلات !
ما اكتشفه خطاب الحب الضائع، أو الوفاء الذى ولىّ، يستعصى أحيانًا على من يظنون أن ملاذ الإصلاح هو في الارتداد إلى الماضي الجميل الذى كان.. هذا الماضي الذى يبدو جميلاً أمام تعاسة الحاضر وابتعاد الأمل في المستقبل، كان ـ أي هذا الماضي ـ ابن زمانه ووقته، وبندول الزمن في حركة وصيرورة دائمة لا تتوقف، تتغير فيها الأحوال والظروف، ويتغير الناس، ويتراجع أحياناً ما كان في مقدمة الأولويات، ويتقدم ما كان في ذيل الاهتمامات ! . لذلك فمحال أن يعيش الإنسان ـ وهو ابن حاضره ـ في دنيا أسلافه مهما كانت جميلة أو مبهرة أو براقة.. ولا يعنى هذا أن الماضي خالٍ من القيمة، بل إنه لا غناء للحاضر عن استخلاص عبر الماضي ودروسه.. ولكن ديوان التاريخ ليس محض مشاهد وصور وأشكال، وإنما هو معانٍ وقيم.. وتكرار الصورة على ذات ما كانت عليه شكلاً في زمانها، قد لا يحقق المعنى أو القيمة التي كانت تعطيها أو تعبر عنها في أوانها.. ينطبق ذلك على كثير من الصور والمشاهد التي عبرت في وقتها عن الطهر والزهد والتعفف، ولم تعد في الحاضر صالحةً بمحض شكلها لتحقيق القيمة التي كانت تحققها، بل صارت لذات هذه القيم صور أخرى تصادف أحـوال زماننـا.. والسلفيـون ينحصـرون في الصورة ولا يلتفتون بذات القدر إلى المغزى أو المعنى.. ويأخذون الأديان ـ دون أن يدروا ـ إلى زقاق الانحصار في الترديدات والمقولات والصيغ والمظاهر والأشكال، ويهملون جوهر الدين وأهم ما فيه من بنية حيّة تنظم بوعى وفهم واستنارة حياة الأحياء، وترعى بعمار الروح وسلامة الضمير وقوة الداخل ـ أحوال وسلوك وتصرفات ومعاملات الناس .
التعامل مع الحاضر، والتطلع إلى المستقبل، ليس خيانةً للتاريخ.. فتواصل أمجاد التاريخ، لا يتحقق إلاّ بالتعامل الواعي الفاهم مع مقتضيات الحاضر ومتوقعات المستقبل، وهذا التعامل مبنى في جزء كبير ومهم فيه على استقطار صفحات وتجارب وعبر الماضي.. إلاّ أن استخلاص ما يحفل به ديوان العبر، لا يعنى أن يرتد الإنسان ليعيش ويلبس ويتصرف كما كان يفعل أجداده في الزمن الأول.. في عبارة بسيطة عبّر أسلافنا عن هذه المعاني حين قالوا: « كل وقت وله أذان ».. ولم تبتعد أم كلثوم كثيرًا في شدوها عن هذه الحكمة حين صدحت بقول الشاعر: « عاوزنا نرجع زي زمان، قُلْ للزمـان ارجع يا زمان ».. فهل يمكن للزمن أن يعود القهقري، وهل يمكن أن يعيش أبناء القرن الواحد والعشرين كما كان يعيش أبناء القرن السابع الميلادي ؟! فماذا إذن كان حصاد وجدوى تلك القرون ؟!