عبقرية إنكار الذات
من تراب الطريق (1100)
عبقرية إنكار الذات
نشر بجريدة المال الثلاثاء 18/5/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ما إن أفاق عمر من الصدمة، وأيقن أن رسول الله قد مات، حتى جعل يفكر فيما يمكن أن يحدث لو اضطرب أمر الناس واختلفوا بعد وفاة الرسول. هنالك أسرع عمر يشق طريقه بين المجتمعين بالمسجد، حتى أتى أبا عبيدة بن الجراح، فقال له: « ابسط يدك أبايعك، فأنت أمين هذه الأمة على لسان رسول الله ».
قيل إن أبا عبيدة وجم حين سمع عبارة عمر، ولا بد أنه أدرك بدوره ضرورة البت العاجل في أمر المسلمين، ولكنه لم يرض مقالة ولا رأى عمر، فقال له في عتاب صارم: « ما رأيت لك فَهَّة ( السقطة أو زلة اللسان ) قبلها قط منذ أسلمت ! أتبايعني وفينا الصديق وثاني اثنين » ؟!
وأنت لا تستطيع إلاَّ أن تتوقف ذاهلاً متعجبًا معجبًا بهذا الأمين الحكيم المنكر ذاته، تأتيه بيعة الخلافة، ومن عمر بن الخطاب، والخلافة شرف ترنو إليه النفوس، فيكتم دعوته لفوره، ويعاتبه عتابًا شديدًا مسكتًا، فسكت عمر، ولم يعقب، وإنهما لفي تداولهما، إذ جاءهم النبأ بأن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بنى ساعدة يريدون أن تكون الإمارة على المسلمين لهم، عند ذلك أسرع عمر، وبعد ما رد به عليه أبو عبيدة، فأرسل إلى أبى بكر في بيت عائشة ليخرج إليه. فلما رد أبو بكر بأنه مشتغل في تجهيز الرسول، عاد عمر فأرسل إليه أن هناك أمرًا جلاً لا بد له من حضوره.
خرج أبو بكر، فعلم بما يجري في السقيفة، فأسرع ومعه عمر وأبو عبيدة إلى هناك، حيث وجدوا الأمور متفاقمة بين الأنصار، يريد معظمهم أن يبايعوا سعد بن عبادة، ومنهم من يتطرف إلى حدود يمكن أن تثير فتنة بين المهاجرين والأنصار، حتى قال قائل منهم: « أما بعد فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، لكنكم تريدون أن تخذلونا من أصلنا فتبعدونا عن الأمر ».. وحتى طلب أحدهم إجلاء المهاجرين عن المدينة أو يتولوا عليهم الأمر.. ثم وجه الحديث إلى المهاجرين الثلاثة: أبى بكر وعمر وأبى عبيدة، فقال: « أما والله إن شئتم لنعيدنها جَذَعَة »، فصاح به عمر: « إذًا يقتلك الله » !، ورد الأنصار: « بل إياك يقتل»!
اشتعلت الثورة، وزاد اللغط، ولم يعد أحد يسمع أحدًا، هنالك تدخل أبو عبيدة، بحكمته وبهدوئه وحلمه ووداعته ورفقه، فوجه حديثه إلى أهل المدينة، فقال لهم في رفق ومودة: « يا معشر الأنصار ! كنتم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بَدّل وغَيَّر » !.. ثم استرسل أبو عبيدة يذكر فضلهم ومآثرهم وما بذلوه في نصرة الإسلام والمسلمين.
سكنت هذه العبارات الرقيقة الحليمة، من ثورة النفوس، وعاد الناس يتجادلون بالحجة، وأراد عمر بن الخطاب أن يتكلم، فأمسك به أبو بكر مخافة شدته وقال له: على رسلك يا عمر ! ثم وجه كلامه للأنصار، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « أما بعد، يا معشر الأنصار، فإنكم لا تذكرون منكم فضلًا إلاَّ وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلاَّ لهذا الحى من قريش، هم أوسط العرب دارًا ونسبًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم ». وأخذ بيد عمر بن الخطاب وبيد أبى عبيدة بن الجراح، ولكن عمر وأبا عبيدة أبيا هذا الترشيح، وردّا البيعة إلى أبى بكر الصديق.