عبد الناصر الذي تجاوزنا !

عبد الناصر الذي تجاوزنا !

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 20/3/2021             

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

من نيف وأربعين عاما، وفي أعقاب نكسة 1967، كنت مكلفًا إبان عملي بالقضاء العسكري ـــ بالنظر في طعن بالتماس إعادة نظر في حكم صادر عن محكمة عسكرية عليا، مصدق عليه من الرئيس جمال عبد الناصر، والطعن مقدم من المحكوم عليهم الثلاثة عقيد فنى ( ع.ح )، ونقيب فني ( م.س )، ورقيب أول لا أذكر الآن اسمه، في الحكم الذي صدر بمعاقبة الضابطين بالطرد من الخدمة عمومًا، ومعاقبة الرقيب أول بالحبس ثلاث سنوات، عن تهمة نسبت إليهم أنهم بقاعدة العريش الجوية لم يتصرفوا إزاء العدو على النحو الواجب !

بحثت الطعن ودرسته بعناية، فالقضية رفعت إلى المحكمة من النيابة العسكرية، والحكم المطعون فيه صادر عن محكمة عسكرية عليا، وروجع بالإدارة العامة للقضاء العسكري التي أشارت بالتصديق، فصدق الرئيس جمال عبد الناصر على الحكم، إعمالاً لصريح القانون العسكري الذي يوجب تصديق رئيس الجمهورية شخصيا على الأحكام الصادرة بطرد الضباط من الخدمة عمومًا.

عاودت البحث والقراءة، لأن القراءة الأولى أفصحت عن أن الضابطين بريئان لا يستحقان هذه العقوبة أو غيرها، وأن قصارى ما ينسب إلى الرقيب أول جنحة سلوك مضر بالضبط والربط وحسن الانتظام العسكري، ولا تستأهل أكثر من ستة أشهر حبسًا ! ومقتضى هذا أن أقترح في مذكرتي إلى سلطة الفصل في الطعن ـــ وهى هي ذات الرئيس عبد الناصر ـ إلغاء الحكم وحفظ الدعوى بالنسبة للضابطين، وتغيير وصف التهمة المنسوبة للرقيب أول والنزول بالعقوبة إلى ستة أشهر حبس بالنسبة له !

لم أتردد بعد أن درست ومحصت، فكتبت المذكرة مشفوعة بأسبابها على هذا الأساس.. وأشرت بما وجدت أنه الحق والعدل الصواب.. ولكن الأزمة كانت لدى الرئيس الأعلى للقضاء العسكري، المطلوب منه أن يصادق على رأيي، أو يرفضه أو يعدله، قبل العرض على الرئيس جمال عبد الناصر.. أزمة الرئيس الأعلى للقضاء العسكري، وكان آنذاك المرحوم اللواء دكتور محمد عوض الأحول، أنه هو نفسه الذي طلب سلفًا التصديق على ذات الحكم فصدق عليه الرئيس جمال عبد الناصر.. فكيف يطلب إليه بعد شهور إلغاء الحكم وحفظ الدعوى بالنسبة للضابطين فضلا عن التعديل بالنسبة للرقيب أول ؟!

ناقشني المرحوم اللواء دكتور محمد عوض الأحول طويلا، وعاود النقاش أكثر من مرة، فيخرج في كل مرة بأن الحق والعدل يقتضيان ما كتبته وأشرت به.. كنت أحس بأزمته وحرجه من أن يقول ضمنًا : « كنت على خطأ بأمس » !.. يُحمد لهذا الرجل أنه لم يحاول إثنائى عن رأيى، ولا أحال الطعن ـ وهو يملك ذلك ـ إلى زميل آخر منحيًا ما كتبته، بل انتهى في النهاية إلى الموافقة على رأيى كما هو : « إلغاء الحكم وحفظ الدعوى بالنسبة للضابطين، وتغيير وصف التهمة والنزول بالعقوبة إلى ستة أشهر بالنسبـة لضابـط الصف » !.

كان النظام يقتضي العرض أولا على وزير الحربية، ثم إرسال القضية مشفوعة بتوقيعه بما يراه إلى الرئيس جمال عبد الناصر.. كان الفريق أول محمد فوزي هو وزير الحربية في ذلك الوقت، ومعروفًا ـ يرحمه الله ـ بالشدة والصرامة.. وكان اللواء دكتور محمد عوض الأحول يعمل ألف حساب للقائه به وعرض القضية عليه بالرأي الجديد المناقض للرأي السابق !.. ولم يخف ذلك عني ! ولكن المفاجئ أن الفريق أول فوزى مهر المذكرة بتوقيعه بالموافقة على الرأي كما هو !

ولكن المفاجأة الأكبر أتت من الرئيس جمال عبد الناصر.. فقد تجاوز ما أشرنا به، وأمر بإلغاء الحكم وحفظ الدعوى بالنسبة للثلاثة !

في أرشيف ذكرياتي وقائع أخرى.. توجَّسً البعض مـن رد الفعل، أو رغبوا في تحسس المطلوب، ليأتي الدليل بأن الظنون جاوزت سلامة التقدير، وأن « الملك » لا يطلب في جميع الأحوال من المحيطين به أن يحجبوا رأيهم.. ناهيك بأن يخدعوه ويزينوا له الباطل!

هذه شهادة حق للزعيم الخالد جمال عبد الناصر.

زر الذهاب إلى الأعلى