عبد العزيز فهمي ومسألة تعدد الزوجات ! (12)
عبد العزيز فهمي ومسألة تعدد الزوجات ! (12)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 28/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
أكَّدَ عبد العزيز باشا فهمى أن « الرباط » في مسألة تعدد الزوجات، يتجلى في قوله سبحانه وتعالى: « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً » ( النساء 3 ).
وهذا النص في الآية الكريمة؛ بعيد كل البعد عن الإفادة بأن الآية مسوقة لتحديد عدد الزوجات الجائز جمعن في وقت واحد. دليل ذلك:
أولاً: أن تحديد عدد الزوجات من الأمور الأساسية في التشريع للعرب، لأنه يصادم عادة متأصلة فيهم، والقرآن أجلُّ من أن يأتي بهذا الشأن الأساسي بصفة عرضية جوابًا لعبارة شرطية بعيدة بظاهرها عن هذا الشأن ولا مناسبة بينها وبينه، إذ الحق أن أحدًا لا يستطيع أن يفهم ما هو الارتباط بين خوف عدم الإقساط في اليتامى، وهو موضوع حديث الآية، وبين نكاح النساء وإلى أربع فقط. إن القرآن لأجل بلاغة وأعظم بيانًا من أن يأتي بهذه المفارقة.
ثانيًا: إن كلمة « ما » في قوله تعالى « ما طاب لكم » هي من أقوى ما يكون في إفادة العموم. لذلك لا يميل عبد العزيز فهمى إلى ما قد يقولونه من أنها موصولة مستعملة في محل كلمة « من ». بل الذي يطمئن إليه أنها نكرة بمعنى « أي شيء »، فهي من أعم ما يكون في الدلالة، أي فانكحوا مما ينكح ـ أي شيء ـ طاب لكم، أي أية امرأة أو أية مجموعة من النساء طابت لكم، ولا شك أن هذا التعبير في ذوق كل عربي أعم من دلالة « ما » إذا فهمت على أنها « ما » موصولة.
ومتى اطمأن الناظر إلى أن لفظ « ما » عام ذلك العموم، وأنه بأصل وضعه يطلق على الإنسان والحيوان والجماد وسائر الموجودات، ولا يتحدد إلا بالوصف المباشر الذي ينعته، وهو هنا « ما طاب لكم من النساء »، فمما يطعن على بلاغة القرآن وتساوق عباراته وتناسبها ــ وهو سيد البلاغة والبيان ــ أن ينحدر من هذا العموم الكلى إلى التحديد بالأربع، بل إنه انحدار يكون غير مقبول شكلًا ( كما يقول الناس في وقتنا الحاضر ). إذ لا مشاكلة بين ذلك الإطلاق المبتدأ وبين هذا القصر المفاجئ الذي يصدم الفكر، لأنه من واد آخر مفارق لوادي التعميم، وهو في التمثيل أشبه الأشياء بفارس يكبح فرسه ويكرهه على الوقوف فجأة وهو في أوج انطلاق عدوه. وبلاغة الآية لا تحتمل هذا العبث الشديد.
ومما تجب ملاحظته ـ فيما يضيف ـ أن القرآن عندما نعت كلمة « ما » المذكورة راعى عمومها المطلق، فاستعمل في النعت كلمة « طاب » ولم يستعمل كلمة « حل » لأن « الطائب » قد يكون حلالًا وقد يكون حرامًا، فمدلوله أعم وأشمل من مدلول الحلال، وهذا من أبدع ما يكون في مراعاة المشاكلة ودقة البيان، ومن ثم فحرام إذن أن يعبث أحد بهذه البلاغة المتناهية.
ثالثًا: إن التغاضي عن مقصود العبارة القرآنية وفهمها على ذلك التحديد الحرفي يؤول بنا إلى نتيجة منكرة: ذلك أن مثنى وثلاث ورباع معناها المتفق عليه عند الجميع اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، لأنها أوصاف معدولة عن أصلها هذا العددي. ومثل هذا التعبير سواء كأصله أو كما عدل به إليه، مستعمل الآن وقبل الآن في كثير من الظروف.. يقول الضابط لجنوده: سيروا اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، ( أو يقول لهم ما يساوى هذا بالضبط في فصيح العربية الموجز: سيروا مثنى أو ثلاث أو ورباع )، فإذا أراد الجنود تنفيذ هذا الأمر؛ وجب أن يكون حدث السير واقعًا من كل اثنين منهم معا في آن واحد، أو من كل ثلاثة منهم في آن واحد، أو من كل أربعة في آن واحد، بحيث إنه إذا سار واحد منهم بمفرده ثم سار الآخر من بعده بمفرده، فإن سيرهم لا يكون مثنى ( أي اثنين اثنين ) بل يكون موحدًا فقط، وكذلك إذا قلت لأحد الناس: كل هذه العنبات مثنى وثلاث ورباع، فتنفيذ هذا يكون بأن يأخذ في اللقمة الواحدة حبتين من العنب أو ثلاث حبات أو أربع.
هذا للإفادة بأن المعنى الحقيقي للفظ ( مثنى ) يقتضى أن الحدث المتبوع بهذا الوصف يقع في وقت واحد من الفاعلين أو على المفعولين. فقوله « فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ » معناه بحسب حقيقة هذه الألفاظ يقتضى أن حدث النكاح يقع في الوقت ذاته على اثنتين أو ثلاث أو أربع، أي أن يأتي الرجل لامرأتين فيتزوجهما في وقت واحد بعقد واحد، أو أن يأتي لثلاث نساء أو لأربع فيتزوجهن في وقت واحد بعقد واحد كذلك، وهذا من أشد ما يكون إفسادًا للفكر، لمخالفته لما هو معلوم من مجريات العادة عند العرب وغير العرب في الزواج. هذا الفساد الشنيع الذي يُؤَول إليه المعنى يفيد أن تلك المغالاة اللفظية يستحيل أن يكون معناها الحرفي هو المقصود، ولا يزال للحديث بقية.