عبد العزيز فهمي (16)
عبد العزيز فهمي (16)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 26/7/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
بقي أن نشير إلى أننا جميعًا نعرف أن الدين الإسلامي عالج نقائص العرب تدريجيًّا مع الأناة والتلطف والابتعاد عن كل ما ينفرهم بلا مقتضى. ومسألة تعدد الزوجات كانت من العادات المتأصلة فيهم وفي العالم، فمصادمتهم بتحريمها بالنص القاطع القاسي لا محل لها. لكنه اتخذ لهذا أسهل طريق العدل بين الزوجات، فكانت وسيلة سائغة من شأنها ـ لو أخذ بها ـ أن تكون موصلة إلى الغرض غاية التوصيل، بل أنه ـ كما يفهم البصير ـ لطف بهم فلم يكلفهم في الموجود من الزوجات إلاًّ العدل المستطاع، ولم يجعل حكم الاقتصار على واحدة عند خوف عدم العدل نافذًا على زيجات عقدت في الجاهلية أو في الإسلام ولكن قبل نزول الآيات.
والواقع أن الإسلام عالج الآفات التي كانت سائدة بين العرب في الجاهلية، ومنتشرة في العالم، بالتدريج، فترى هذا التدرج واضحًا فيما يتصل بتحريم الخمور، وتراه في معالجة الرق الذي كان ظاهرة عالمية وتقوم عليه اقتصاديات العالم، ويستطيع المتأمل في كتاب الله تعالى أن يلمس الفارق بين السياسة وما يستوجبه العلاج من تدرج ومن أساليب غير مباشرة أحيانًا وبين المبدأ. ترى المبدأ في قوله عز وجل « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » ـ ( الحجرات 10 )، وترى السياسة في معالجة الرق والأسر والإماء.
ولم تكن ولا توجد صعوبة في رؤية موقف القرآن التدريجي في منع الخمور، فدليل ذلك موجود في آيات ذات القرآن المبين، كانت البداية حين نبه إلى أن مضارها أكثر من نفعها، وأن فيها إثم كبير، فقال عز وجل « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا » (البقرة 219 ).
وكان التحذير الثاني حين نزلت الآية: « لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ » ( النساء 43 )
ثم جاء النهى التام، في قوله عز وجل: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ » (المائدة 90، 91 ).
أما مواجهة الرق، فكانت أعوص كثيرًا، ولم يكن سهلًا أن يتقبل الناس بسهولة إلغاء الرق وهو قوام حياتهم واقتصادياتهم !
ولم أعاصر، ولكنى أستطيع أن أتصور أن من اعترضوا من سنين بعيدة على إلغاء الرق والعبودية، قد احتجوا ــ آنذاك ــ بأن امتلاك الإماء وارد بالقرآن الكريم، وأن ما ملكت الإيمان غير محرم فيه، وقولهم وتجاهلهم عمدًا أو عن جهل، أن موقف القرآن لم يكن انتصارًا للرق، وإنما سياسة في علاجه حتى ينقضي أمره، فقد كان عند المبعث ــ نظامًا عالميًا واقتصاديًا يسود العالم، فاضطر لعلاجه بالتدريج حتى لا يُهجر الدين في بدايته، واثقًا من أنه حين يتآكل بالسياسة التي خطها، لن يقلق المتدينين، وأنه من المؤكد لهم ــ ولغيرهم ــ أن انتهاءه ليس ضد الدين، وأنه لم يكن موجودًا بأمر الدين أو بإقراره.
وتستطيع أن ترى سياسة الإسلام في تجفيف الرق؛ واضحة أمامك في موقفه العام والإنسانى من الأرقاء والعبيد، وكيف أن بلالاً دخله حرًّا بعد أن أعتقه أبو بكر لحظة شرائه من أمية بن خلف لينقذه من العذاب، وكان سلمان الفارسى حرًّا فيه، وكذلك صهيب الرومي وغيرهم. وتستطيع أن ترى سياسة الإسلام في مقاومة الرق بما استنه من وقف قتل أو استعباد الأسرى، وكيف صار المعتوقون فيه ذوى كرامة لم ينكرها عليهم المسلمون. فما من أحد أنكر ولاية سلمان الفارسى على المدائن وغيرها، وما من أحد أنكر مكانة بلال وسط كبار الصحابة والمهاجرين، ورأى المسلمون كيف كان الرحمة المهداة ــ عليه الصلاة والسلام ـ يطلق أسير الحرب إذا ما عَلَّم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، وأنه قبل فيهم الفداء، وقَدَّم الَمَنَّ على الفداء عملاً بحكم القرآن الكريم: « فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا » (محمد 4)، وكيف رأى المسلمون ولا يزالون حتى اليوم ــ مبادئ المساواة التي تعلو « السياسة » في الإسلام.
طفق المسلمون وما زالوا يقرآون قوله سبحانه وتعالى: « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » (الحجرات 10) ويقرأون قوله عز وجل: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ (كل الناس) إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » (الحجرات 13).
مقررًا أن الفضل والأكرمية للتقوى، وليس للعرق أو الوجاهة أو الامتلاك أو المال أو القوة أو السلطان، وأن مبادئ الإسلام لا شك تعلو السياسات (المؤقتة والمتغيرة): المبدأ في الإسلام هو المساواة، فهو دين المساواة، وليس دين الاستعباد أو الاسترقاق. أما التفاوت في الكفاءة أو في العلم أو العمل أو في المجاهدة، فلا يدخل تقديره في باب اللامساواة، وإنما في باب المساواة بقدرها الذي لا يهمل اجتهاد المجتهدين والنابهين، فلهم « الدرجات » وليس الطبقات..