ضربات المعاول الصغيرة في شجرة السنديان
ضربات المعاول الصغيرة في شجرة السنديان
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 4/9/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يقال في الأمثال إن الضربات الصغيرة المتعددة، تسقط أشجار السنديان. تذكرت هذا المثل وأنا أتابع من نحو إثني عشر عامًا ما نشر في الصحف من تساؤل: هل سقطت نظرية دارون ؟! كان فريق من العلماء الأمريكيين في أصول الجنس البشرى، قد توصلوا إلى هيكل عظمى بشرى لأثيوبية مضى عليه حوالى 4.4 مليون سنة، فيما يعد أقدم هيكل بشرى أمكن الوصول إليه، وأطلق عليه فريق البحث ـ اسم « أردى ».
وأعلن الفريق البحثي، وهو مـن جامعتي كين ستيت وكاليفورنيا، في تقريـر نشرتـه مجلـة «Science »، أن الكشف يسقط نظرية دارون التي أثارت ضجة هائلة منذ ظهورها في أخريات القرن قبل الماضي، فالهيكل البشرى المكتشف واحد من أسلاف البشر القدامى يرجع إلى أكثر من أربعة ملايين سنة، وأقدم بنحو مليون سنة من هيكل « لوسى » التي كانت أحد أهم الأصول البشرية المعروفة. أما هيكل « أردى » المكتشف حديثًا، فهو لأنثى قيل إنها بطول 120 سم، وأنه وإن كان الرأس يشبه رأس القرد، إلاّ أن تجويف الحوض لديها يظهر أنها كانت تسير منتصبة كالبشر لا منحنية على مفاصل الأصابع كالشمبانزي والغوريلا !
الاكتشاف الجديد وإن لم يسقط شجرة السنديان، إلاَّ أنه أعاد فتح قضية قديمة، اجتهد فيها الدكتور عبد الصبور شاهين برأي عرضه في كتابه: « أبى آدم ».. توقف فيه عند استعمال القرآن المجيد لكلمة « بشر » وحالات ودلالات ومعاني استخدام الكلمة، ثم عرض لاستعمال القرآن لكلمة « الإنسان ».. والمواضع التي فيها ورد لفظ « البشر » والأخرى التي ورد فيها لفظ « الإنسان ».. لينتهي باجتهاد يعرضه إلى أن « البشر » لفظ عام لكل مخلوق على الأرض يمشى منتصب القامة على قدمين، بينما « الإنسان » لفظ خاص بكل من كان من البشر مكلفا بمعرفة الله وعبادته.. فكل إنسان بشر، وليس كـل بشر إنسانا. وإنه لأمرٍ ما نرى القرآن لا يخاطب البشر وإنـما يخاطب الإنسان، ونجد التكليف الديني منوطاً بصفته « الإنسانية ».. وأن الإنسان هو وحده المقصود بالتكليف الديني، وأنه إذا كان البشر بعامة هم طلائع الخليقة، ثم بادوا ودرست آثارهم، فإن آدم هو أبو الإنسان المكلف المجدول حوله قصة الخلق في كتب الأديان..
وكما أثارت نظرية دارون ضجة كبرى، أثار كتاب الدكتور عبد الصبور شاهين ضجة أكبر حتى تطرف البعض فعدوه من باب الكفر أو الإلحاد.. واعتدل البعض فطلبوا مراجعة بعض الصياغات، وليبقى الحوار دائما بين العلم والدين حول قصة الخليقة !
بيد أنه يبقى أن أعود إلى مغزى عنوان المقال، ومغزاه أن الضربات الصغيرة الدءوبة المستمرة، يمكن أن تهدم شجرة السنديان العملاقة، فلا شيء يصمد أمام طول الصبر وطول المكافحة. خذ مثلاً احتلال البلدان الذي ساد في القرون الماضية، لترى أن المقاومة الدائمة، مهما صغرت أدواتها ووسائلها إزاء قوات الاحتلال بما تملكه من أسلحة فتاكة لا تملكها المقاومة، إلاَّ أن ضربات المقاومة نجحت في النهاية ــ على بدائية وسائلها بالقياس إلى الجيوش الكبرى ـــ في إجبار الاحتلال هنا أو هناك على الجلاء، بل أمامنا مثل في التاريخ أقوى دلالة على أن طول الصبر مع المكافحة، مهما كان، كفيل بأن يسقط الاحتلال، أى شجرة السنديان العملاقة، ففي الهند بالقرن الماضي، قاد غاندى حركة المقاومة السلبية، بالامتناع فقط عن التعامل مع بريطانيا العظمى المحتلة، فلا عمل لديها في معسكراتها أو مرافقها , ولا تعامل ولا شراء لسلعها ومنتجاتها، وإنما مقاطعة تامة، ولا رد للعنف بالعنف، وإنما بطول الصبر والاحتمال.. وقد كان أن امبراطورية بريطانيا العظمى التي لم تكن تغيب عنها الشمس، عجزت عجزًا تامًا عن مواجهة هذا العصيان المدني، والمقاومة السلبية، واضطرت أن تتراجع شيئًا فشيئًا حتى انتهى أمرها إلى الجلاء عن الهند التي احتلتها ونعمت بخيراتها سنين عددًا.
أجل ضربات المعاول الصغيرة، مهما صغرت كفيلة، بأن تسقط في النهاية شجرة السنديان العملاقة !