صناعة التشريعات الجنائية في عالم متغير.. مدى إلزامية اللقاح
بقلم الدكتور/ أحمد عبد الظاهر- أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
في مادة «قانون العقوبات القسم العام» المقررة على الفرقة الثانية في كليات الحقوق أو كليات الشريعة والقانون، وعند الحديث عن «استعمال الحق» باعتباره أحد أسباب الإباحة، يتم الإشارة إلى «حق مباشرة الأعمال الطبية» كأحد تطبيقات استعمال الحق. وينعقد الاجماع الفقهي والقضائي على أن إباحة العمل الطبي مرهون بتوافر شروط عدة، يأتي على رأسها رضاء المريض. ولكن، هذا الشرط ليس مطلقاً، وإنما ترد عليه بعض الاستثناءات. وسنحاول في هذا المقال بيان ما إذا كان شرط رضاء المريض يبقى سارياً فيما يتعلق بالأمراض المعدية والأمراض الوبائية، أم أن لهذه الأمراض حكم مغاير.
رضاء المريض كأصل عام في إباحة الأعمال الطبية
الأصل المقرر قانوناً والمستقر فقهاً وقضاء أن العمل الطبي مباحاً إلا إذا رضي المريض به. فالقانون يرخص للطبيب علاج المرضى إن دعوه لذلك، لكن لا يخوله الحق في اخضاعهم للعلاج رغماً عنهم. ورضاء المريض ليس سبب الإباحة، ولكن مجرد شرط من شروطه. وعلة تطلب هذا الشرط هو رعاية ما لجسم الإنسان من حصانة. فهذا الرضاء أمر يقتضيه احترام الحرية الشخصية للفرد. يضاف إلى ذلك أن من عوامل نجاح العمل الطبي ثقة المريض في المعالج، وهذه الثقة لا تقوم إلا مع رضا المريض بالعلاج.
ويؤكد بعض الفقه أن رضاء المريض بالعلاج قد يكون صريحاً، وقد يكون ضمنياً، كما لو ذهب المريض إلى غرفة العمليات بعد أن أحيط علماً بنوع العملية (د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم العام، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة السادسة، 1989م، رقم 181، ص 177؛ د. عبد الرءوف مهدي، شرح القواعد العامة لقانون العقوبات، دار النهضة العربية، القاهرة، 2011م، ص 704). وفي اعتقادنا أن هذا الرأي لا يمكن الأخذ به في المجتمعات الحديثة التي تتبنى فكرة تدوين وتسجيل الإجراءات الطبية، حفاظاً على حسن سير المنظومة الطبية، وحرصاً على التحقق والتثبت من مدى صدق أي ادعاءات أو مزاعم قد تثور في هذا الشأن. ونرى أن الرأي القائل بالرضاء الضمني لا يمكن القبول به، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالتدخل الجراحي، وذلك بالنظر لخطورته وضرورة التثبت والتيقن من رضاء المريض به، الأمر الذي يستوجب القول بأن يكون الرضاء صريحاً. فلا يكفي مجرد الرضاء الضمني. بل إن هذا الرضاء ينبغي أن يكون كتابياً. وبناء على ذلك، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، وطبقاً للمادة الثامنة البند الأول من المرسوم بقانون اتحادي رقم اتحادي رقم (4) لسنة 2016 بشأن المسؤولية الطبية، «فيما عدا الحالات الطارئة التي تستلزم التدخل الجراحي الفوري اللازم لإنقاذ حياة المريض أو الجنين ولتجنب المضاعفات الجسيمة لهما لا يجوز إجراء العمليات الجراحية إلا بمراعاة ما يأتي: … ج) أن تؤخذ موافقة كتابية من المريض إن كان كامل الأهلية أو من أحد الزوجين أو أحد أقارب المريض حتى الدرجة الرابعة إن كان عديم أو ناقص الأهلية أو تعذر الحصول على موافقته، وذلك لإجراء العملية الجراحية أو أية عملية جراحية أخرى ضرورية، وبعد تبصيره بالآثار والمضاعفات الطبية المحتملة التي قد تترتب على الجراحة، ويعتبر أهلاً للموافقة كل من أتم الثامنة عشرة سنة ميلادية ما لم يكن عديم الأهلية». ووفقاً للبند الثاني من المادة ذاتها، «يطبق على حالات العلاج ذات الطبيعة الخاصة التي تحددها اللائحة التنفيذية لهذا المرسوم بقانون حكم العمليات الجراحية في تطبيق أحكام هذه المادة وبما يتناسب مع هذه الحالات». ولعل مما يدعم الرأي القائل بوجوب توافر الموافقة الصريحة الكتابية أن المادة الرابعة من المرسوم بقانون اتحادي رقم اتحادي رقم (4) لسنة 2016 بشأن المسؤولية الطبية توجب على الطبيب الالتزام ﺑــ «تسجيل الحالة الصحية للمريض والسيرة المرضية الشخصية والعائلية الخاصة به، وذلك قبل الشروع في التشخيص والعلاج». فالمبدأ الحاكم إذن للمنظومة الصحية هو وجوب كتابة وتدوين كل ما يتعلق بالإجراءات الطبية، ومنها بطبيعة الحال موافقة المريض، ما لم يكن ذلك متعذراً كما هو الشأن في الحالات الطارئة التي تستلزم التدخل الجراحي الفوري اللازم لإنقاذ حياة المريض أو الجنين ولتجنب المضاعفات الجسيمة لهما.
وقد يصدر الرضاء من المريض نفسه، أو ممن ينصبه القانون ممثلاً له. وفي هذا الصدد، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، وطبقاً للمادة الخامسة من المرسوم بقانون اتحادي رقم (4) لسنة 2016 بشأن المسؤولية الطبية، «… يعتد برضى المريض ناقص الأهلية بالنسبة للفحص والتشخيص وإعطاء الجرعة الأولى من العلاج، على أن يبلغ أي من أقارب المريض أو مرافقيه بخطة هذا العلاج».
وفي جميع الأحوال، وسواء صدر الرضا من المريض نفسه أو ممن ينصبه القانون ممثلاً له، ولكي يكون الرضا ذا قيمة قانونية، فمن المتعين توضيح نوع العلاج أو الجراحة تفصيلاً للمريض حتى يصدر رضاؤه وهو على بينة من الأمر. وليس من السائغ القول إن الرضاء مستفاد ضمناً من مجرد الذهاب إلى عيادة الطبيب. إذ أن الأعمال الطبية متنوعة، وقد يرضى المريض ببعضها دون البعض الآخر، ولذلك كان متعيناً أن يعلم بما يناسب إليه الرضاء به. وهكذا، فإن المادة الرابعة من المرسوم بقانون اتحادي رقم (4) لسنة 2016 بشأن المسؤولية الطبية في دولة الإمارات العربية المتحدة توجب على الطبيب الالتزام بتبصير المريض بخيارات العلاج المتاحة. كذلك، يجب على الطبيب تنبيه المريض أو ذويه بحسب الأحوال إلى ضرورة التقيد بالأسلوب الذي حدده للعلاج. وينبغي على الطبيب أيضاً إبلاغ المريض بطبيعة مرضه ودرجة خطورته إلا إذا اقتضت مصلحته غير ذلك أو لم تكن حالته النفسية تسمح بإبلاغه، ويتعين إبلاغ أي من ذوي المريض أو مرافقيه في الحالتين الآتيتين: أ) إذا كان عديم الأهلية أو ناقصها. ب) إذا كانت حالته الصحية لا تسمح بإبلاغه شخصياً، ولم يحدد شخصاً لإبلاغه. ويجب على الطبيب كذلك إعلام المريض أو ذويه بالمضاعفات التي تنجم عن التشخيص أو العلاج الطبي أو التدخل الجراحي قبل بدء تطبيقه. كذلك، يحظر على الطبيب القيام بإجراءات طبية أو عمليات جراحية غير ضرورية للمريض دون موافقته المستنيرة.
ومن الجائز أن يفترض الرضاء، إذا كان المريض في حالة لا تمكنه من التعبير عن إرادته، ولم يكن له من يمثله، ولم يكن في ظروفه ما يحمل على الاعتقاد برفضه العمل الطبي؛ وأساس هذا الافتراض أن الرغبة في التخلص من المرض أو إنقاذ الحياة أمر طبيعي عند كل شخص. وفي هذا الصدد، تثور إشكالية عندما يتبين الجراح أثناء إجراء العملية الجراحية حالة جسمية بالمريض تختلف عن الحالة التي شخصها وتقتضي تدخلاً جراحياً أوسع مدى في مكان آخر من جسم المريض. إذ يثور التساؤل عما إذا كان ينبغي على الطبيب إيقاف العملية الجراحية ريثما يتسنى الحصول على موافقة المريض على التشخيص الجديد وإجراء العملية الجراحية الجديدة، أم يجوز الاستمرار في إجراء العملية الجراحية في ضوء الوضع الجديد على أساس من افتراض رضاء المريض وموافقته. وإزاء هذه الإشكالية، استقر القضاء الفرنسي على أنه يجب على الطبيب أن يوقف العملية الجراحية انتظاراً لرضاء المريض، ما لم تقتض حالة الضرورة القيام بهذا التدخل الجراحي فوراً. وقد انتقد هذا القضاء بناء على أنه إذا كان الجراح واثقاً من ضرورة العملية، فيجب التساؤل عما يعد خطأ في حقيقة الأمر، هل هو الاستمرار في الجراحة دون رضاء المريض؟ أم إيقاف الجراحة ثم انتظار موافقة ورضاء المريض – وهو لا يملك الرفض إن كان عاقلاً – ثم إجراء عملية أخرى له. ومن ثم، يرى بعض الفقه استمرار الطبيب في إجراء العملية الجراحية على أساس ما تبين له أثناء العملية الجراحية التي حصل على موافقة المريض عليه، دون حاجة لإيقاف التدخل الجراحي والحصول على موافقة المريض على العملية الجراحية الجديدة. والسند القانوني لهذا الرأي بطبيعة الحال هو افتراض رضاء المريض (د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم العام، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة السادسة مطورة ومحدثة، 2015م، ص 701، هامش رقم 1).
استثناء الأمراض المعدية المهددة للصحة والسلامة العامة من شرط موافقة المريض
في دولة الإمارات العربية المتحدة، وطبقاً للمادة الخامسة من المرسوم بقانون اتحادي رقم (4) لسنة 2016 بشأن المسؤولية الطبية، «يحظر على الطبيب ما يلي: 1- معالجة المريض دون رضاه، فيما عدا الحالات التي تتطلب تدخلاً جراحياً طارئاً ويتعذر فيها الحصول على الموافقة لأي سبب من الأسباب، أو التي يكون مرضه معدياً ومهدداً للصحة أو السلامة العامة، …». وفي الإطار ذاته، فإن المادة الحادية عشرة من القانون الاتحادي رقم (14) لسنة 2014م في شأن مكافحة الأمراض السارية بدولة الإمارات العربية المتحدة تخول «للوزارة والجهة الصحية إصدار قرار للاستشفاء الإلزامي لإخضاع المصابين بالأمراض الواردة في الجدول رقم (1) المرفق بهذا القانون في حالة رفضهم مباشرة أو متابعة العلاج المقرر لهم رغم إخطارهم بضرورة ذلك، وعلى الجهات المعنية مراعاة تنفيذ ذلك كل فيما يخصه، ولها أن تستعين بالسلطة العامة لتنفيذ هذا القرار».
وهكذا، فإن المشرع يجيز علاج المريض دون رضاه، إذا كان مرضه معدياً ومهدداً للصحة أو السلامة العامة. ويبدو ذلك مفهوماً في ضوء المبدأ العام الحاكم للحقوق والحريات، والذي يقول إن حقوق الشخص وحرياته تقف عند حد الإضرار بالآخرين. ولعل ذلك ما استدعى النص في التشريعات الحاكمة للاحتياطات الصحية للوقاية من الأمراض المعدية على وجوب الإبلاغ عن المرضى المصابين بها. بيان ذلك أن المادة الثانية عشرة من القانون المصري رقم 137 لسنة 1958 بشأن الاحتياطات الصحية للوقاية من الأمراض المعدية تنص على أنه «إذا أصيب شخص أو اشتبه في إصابته بأحد الأمراض المعدية وجب الإبلاغ عنه خلال 24 ساعة إلى طبيب الصحة المختص وفي النواحي التي ليس بها طبيب صحة يكون الإبلاغ للسلطة الإدارية التي يقع في دائرتها محل إقامة المريض أما في أحوال الاشتباه في الإصابة أو المرض بالطاعون والكوليرا فيجب الإبلاغ على الوجه المتقدم خلال 12 ساعة». وتحدد المادة الثالثة عشرة من القانون ذاته المسئولين عن التبليغ المشار إليه بالمادة السابقة، مبينة أنهم على الترتيب الآتي: (أ) كل طبيب شاهد الحالة. (ب) رب أسرة المريض أو من يعوله أو يأويه أو من يقوم على خدمته. (ج) القائم بإدارة العمل أو المؤسسة أو قائد وسيلة النقل إذا ظهر المرض أو اشتبه فيه أثناء وجود المريض في مكان منها. (د) العمدة أو الشيخ أو ممثل الجهة الإدارية. ويجب أن يتضمن الإبلاغ عن المريض ذكر اسمه ولقبه وسنه ومحل إقامته وعمله على وجه يمكن السلطات الصحية المختصة من الوصول إليه». وتخول المادة الرابعة عشرة «للسلطات الصحية المختصة عند تلقي بلاغ عن المريض أو المشتبه في إصابته أو الكشف عن وجود المرض أو احتمال ذلك أن تتخذ في الحال كافة الإجراءات التي تراها ضرورية لتجنب خطر انتشاره». بل إن المادة الخامسة عشرة تخول «لمأموري الضبط القضائي في تطبيق أحكام هذا القانون تفتيش المنازل والأماكن المشتبه في وجود المرض بها ولهم أن يأمروا بعزل المرضى ومخالطيهم وإجراء التطعيم، وتطهير المساكن والمفروشات والملابس والأمتعة ووسائل النقل وغير ذلك كما يجوز لهم إعدام ما يتعذر تطهيره ولهم أن يستعينوا برجال البوليس». وتنص المادة السادسة عشرة على أن «يعزل المرضى أو المشتبه في إصابتهم بأحد الأمراض الواردة بالقسم الأول من الجدول الملحق بالقانون. ويخضع المرضى أو المشتبه في إصابتهم بالمرض لإجراءات العزل في المكان الذي تخصصه السلطات الصحية المختصة لذلك، فإذا كانت حالة المريض لا تسمح لنقله إلى مكان العزل جاز للسلطة الصحية المختصة أن تأذن بعزله في منزله ولها أن تعزل هذا المريض في المحل الذي تخصصه لهذا الغرض متى سمحت حالته الصحية لنقله». وتنص المادة السابعة عشرة على أن «يجوز عزل المرضى أو المشتبه في إصابتهم بأحد أمراض القسمين الثاني والثالث ويتم العزل بالنسبة لأمراض القسم الثاني في منزل المريض أو في الأماكن التي تخصص لهذا الغرض متى توافرت فيها الشروط التي تقررها السلطات الصحية وبالنسبة إلى أمراض القسم الثالث فيترك للمريض اختيار مكان العزل ما لم تقرر هذه السلطات ضرورة عزله في مكان آخر».
وغني عن البيان أن الأحكام القانونية سالفة الذكر تنطبق على المرضى المصابين بفيروس كورونا باعتباره أحد الأمراض المعدية. ولكن، يثور التساؤل عن الحكم القانوني النسبة للأشخاص غير المصابين بالمرض المعدي، وما إذا كان جائزاً إلزامهم بأخذ اللقاح، ولاسيما في حالة تفشي الأوبئة، حرصاً على الصحة والسلامة العامة. والواقع أن هذا التساؤل ليس محض تساؤل نظري، وإنما يثور بشدة في الوقت الحالي، في ظل تفشي فيروس كورونا المستجد، ولاسيما مع بدء ظهور بعض اللقاحات واستخدامها كلقاحات معتمدة من قبل منظمة الصحة العالمية.
والسبب وراء إثارة هذا التساؤل أن البعض يرفض تلقِّى اللقاح لمبررات أقل ما يقال عنها – على حد وصف البعض – إنها تنتمي للكوميديا السوداء. فالكثيرون ممن قطعوا شوطاً طويلاً في التعليم يرفضون تلقى اللقاح لأنهم «لا يريدون أن يتم حقنهم بالفيروس». والبعض يخشى الأعراض الجانبية له، والتي لا تستمر لأكثر من يومين على أقصى تقدير!! وآخرون يريدون نوعاً محدداً ويرفضون تلقِّى أي نوع آخر. الفكرة أن تلقى اللقاح بشكل اختياري وغير ملزم يجعل الأمر خاضعاً للأهواء الشخصية، ويفتح الباب للكثير من اللغط والجدال من غير المتخصصين، وهو ما يؤثر بالسلب على الوضع الوبائي للدولة كلها. وقد حدث فعلاً أن قام أحد الأفراد بالتسجيل على موقع وزارة الصحة، وحين ذهب لتلقى اللقاح رفض، لأنه كان يريد أن يتلقى اللقاح الإنجليزي، وليس الصيني، وعندما اكتشف أنه غير متوفر، انصرف ورفض التطعيم من الأساس! (محمد صلاح البدري، لماذا لا يصبح اللقاح إلزامياً؟، جريدة الوطن، القاهرة، نافذة رأي، الأربعاء الموافق 14 أبريل 2021م).
بالإضافة إلى ما سبق، خرج علينا من يزعم أنّ اللقاحات لها على المدى البعيد آثار جانبية مدمّرة، وبالتالي لا يستوجب أخذها! ولأنّ الخرافة تنتعش في المجتمعات، التي أقفلت عقلها بالأصفاد والمتاريس، فإنّ الفتوحات العلمية، وعبقرية المختبرات، وبراعة الجامعات العالمية، لا تعني شيئاً، لاسيما إذا لم يتم التعامل بحزم مع هؤلاء الذين أرادوا أن ينشقوا عن السياق العام، مستنكفين عن أخذ اللقاحات، التي جرّبها زعماء الدول ورؤساؤها وملوكها، في رسالة مفادها أنها آمنة، ولا سبيل أمام البشرية لاجتياز هذه القنطرة المرعبة إلا باللقاحات. الأدهى من ذلك أن يتم ربط الممانعة ضد أخذ اللقاح، بمزاعم دينية أو ثقافية، حيث يتم عبر الـ «واتس آب» خصوصاً، تداول معلومات مضلّلة بأن اللقاحات تحتوي على الكحول أو مشتقات حيوانية، ما يجعل جماعات دينية أو عرقية تتخذ مواقف متطرّفة ضد تلقي اللقاحات. وعلى الرغم من أن ثمة إجماعاً علمياً بخلو هذه اللقاحات مما يزعمه المعارضون لها، وأن لا آثار جانبية لها، كما يروّج أصحاب نظرية المؤامرة، إلا أن هناك من يتعامل مع الشائعات والأخبار المفبركة باعتبارها حقائق وثوابت علمية جازمة (موسى برهومة، إلزامية اللقاح والسؤال الأخلاقي، جريدة البيان، دبي، اتجاهات، 26 يناير 2021م).
ولا شك أن ذلك يستوجب رفع مستوى الوعي المجتمعي، ونشر الثقافة والتوعية المجتمعية اللازمة بشأن اللقاحات. ولكن، هل يتم التوقف عند حد التوعية، أم أن الأمر يحتاج إلى تدخل قانوني وتشريعي لجعل تلقي اللقاح إلزامياً؟
وللإجابة عن هذا التساؤل، نرى من الضروري أن نبحث أولاً في مدى إلزامية تلقي اللقاحات بوجه عام، وذلك قبل أن نتناول الحكم القانوني بالنسبة للقاح كوفيد 19 على وجه الخصوص.
مبدأ إلزامية تلقي اللقاحات
باستقراء الحكم القانوني في التشريعات العربية الصادرة في شأن الأمراض السارية والأوبئة، يغدو سائغاً القول بإلزامية التحصين. فعلى سبيل المثال، وطبقاً للمادة الثانية من القانون المصري رقم 137 لسنة 1958 بشأن الاحتياطات الصحية للوقاية من الأمراض المعدية بالإقليم المصري، «يجب تطعيم الطفل بالطعم الواقي من مرض الجدري خلال ثلاثة أشهر على الأكثر من يوم ولادته وذلك بمكاتب الصحة أو بالوحدات الصحية الأخرى أو بواسطة المندوب الصحي الذي تسند إليه السلطات الصحية المختصة هذا العمل». وتضيف المادة الثالثة من القانون ذاته أنه «في المناطق التي تحدد بقرار من وزير الصحة العمومية يجب تحصين الطفل ضد الدفتريا باللقاح الواقي من هذا المرض خلال شهرين على الأكثر من تاريخ بلوغه سن ستة أشهر وذلك بواسطة الجهات الصحية المختصة التي يعهد إليها إجراء هذا التحصين». وتنص المادة الرابعة من القانون ذاته على أن «يقع واجب تقديم الطفل لتطعيمه ضد الجدري أو تحصينه بالحقن الواقي من الدفتريا على عاتق والده أو الشخص الذي يكون الطفل في حضانته ويجوز تطعيم الطفل أو تحصينه بواسطة طبيب مرخص له بمزاولة المهنة بشرط أن تقدم للجهات الصحية المختصة شهادة تثبت إتمام التطعيم أو التحصين قبل انتهاء الميعاد المحدد لذلك». وبوجه عام، وطبقاً للمادة الخامسة من القانون ذاته، «يخضع كل شخص لعمليات التطعيم الدوري الذي تجريه السلطات الصحية المختصة ضد أي مرض من الأمراض المعدية ويجوز تقديم شهادة من طبيب مرخص له في مزاولة المهنة بإجراء هذا التطعيم أو بالإعفاء منه ويخضع للتحصين ضد الدفتريا الأطفال في مراحل التعليم المختلفة في الأحوال التي تحددها السلطات الصحية المختصة». وتخول المادة السادسة من القانون ذاته «للسلطات الصحية أن تأمر بتطعيم أو تحصين سكان أي جهة من جهات الجمهورية بالإقليم المصري ضد أي مرض من الأمراض المعدية». ولمراعاة حالة بعض الأشخاص، تنص المادة الثامنة من القانون ذاته على أن «يجوز تأجيل عمليات التحصين ضد أي مرض معد إذا رأى الطبيب المختص لزوما لذلك أو بناء على شهادة من طبيب مرخص له في مزاولة المهنة على أن يجرى هذا التحصين بعد زوال أسباب التأجيل». وفيما يتعلق بالمسافرين لأداء فريضة الحج، تنص المادة الحادية عشرة من القانون ذاته على «يخضع الحجاج للتطعيم والتحصين ضد الأمراض المعدية قبل مغادرتهم الأراضي المصرية وفقاً للإجراءات التي يصدر بها قرار من وزير الصحة العمومية وله أن يتخذ كافة الإجراءات اللازمة لمنع دخول أي مرض من الأمراض المعدية عن طريق الحجاج».
وفي الإطار ذاته، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، ووفقاً للمادة العشرين من القانون الاتحادي رقم (14) لسنة 2014 في شأن مكافحة الأمراض السارية، «1. يجب تحصين المواليد ضد الأمراض السارية المستهدفة وفق البرنامج الوطني للتحصين الذي تضعه الوزارة، على أن يحصل المشمولون ببرنامج التحصين الوطني على التحصين والخدمات المقدمة بشأنه مجاناً. 2. يصدر الوزير القرارات والجداول المنظمة للتحصين المجاني ضد الأمراض المستهدفة ضمن البرنامج الوطني للتحصين». وطبقاً للمادة الحادية والعشرين من القانون ذاته، «1. يجب على ولي الطفل أو من يقوم بكفالته تقديمه لمراكز التحصين لتلقي جرعات التحصين اللازمة وفقًا لبرنامج التحصين المقرر. 2. يجب على أطباء الصحة المدرسية بالتنسيق مع مديري المدارس تحصين الأطفال الذين تحت إشرافهم وفقًا للبرنامج الوطني للتحصين». وتنص المادة الثانية والعشرون من القانون ذاته على أنه «1. مع عدم الإخلال بما هو منصوص عليه في المادة (18) من هذا القانون، يجوز للوزير بالتنسيق مع الجهة الصحية أن يصدر قراراً – ينشر في الجريدة الرسمية ووسائل الإعلام المختلفة – يحدد فيه المناطق التي يظهر فيها الوباء، أو يحتمل ظهوره فيها، ويمكن السيطرة عليه بالتحصين، أو بأي تدبير وقائي آخر، ويلزم بموجبه أي شخص بالتحصين للوقاية من هذا المرض. 2. تتحمل الجهة الصحية تكلفة الإجراءات الوقائية والعلاجية بما فيها التحصين والتشخيص ودفن الموتى». وفيما يتعلق بالراغبين في أداء مناسك الحج والعمرة، تنص المادة الثالثة والعشرون البند الثاني من القانون ذاته على «يخضع الراغبون في أداء مناسك الحج أو العمرة للتحصين ضد الأمراض السارية ولغير ذلك من التدابير الصحية قبل مغادرتهم الدولة وعند عودتهم، وذلك وفقاً للإجراءات الصحية الوقائية اللازمة التي تحددها الجهات الصحية المختصة». ووفقاً للمادة الرابعة والعشرين من القانون ذاته، لا يستثنى من التحصين والإجراءات الوقائية سوى الأشخاص الذين لا تسمح حالتهم الصحية بإجراء التحصين أو غيره من الإجراءات الوقائية النوعية، وفقاً لما يقرره الطبيب المختص.
وعلى هذا النحو، يبدو جلياً أن المبدأ القانوني المقرر في التشريعات المعاصرة هو إلزامية التحصين أو إلزامية اللقاح. وهذا المبدأ واجب التطبيق فيما يتعلق بالعديد من الأمراض الوبائية، مثل الدفتريا والجدري وشلل الأطفال. فهل يسري المبدأ ذاته فيما يتعلق باللقاحات المعتمدة لمواجهة تفشي فيروس كورونا؟ والسبب وراء إثارة التساؤل فيما يتعلق بلقاحات فيروس كورونا على وجه الخصوص أن هذه اللقاحات ما زالت في بدايتها، ولم يصل العلم إلى نتائج قاطعة في شأنها. وعلى حد قول أحد المتخصصين في الشأن الطبي، «لا أعتقد أن أكثر المتفائلين على ظهر هذا الكوكب كان يتخيل أن عاماً واحداً فقط كان يكفي ليخرج للنور هذا العدد المتاح من اللقاحات للوقاية من طاعون العصر الحديث المسمى (كوفيد 19).. كل الأوساط العلمية كان أقصى أمنياتها أن يظهر اللقاح بعد عامين أو يزيد على أقل تقدير.. ولكن البعض نجح في الإسراع من تلك المهمة الشاقة، لتمتلك البشرية ما يمكنها أن تواجه به هذه الأزمة». ومن ثم، يستطرد صاحب العبارات سالفة الذكر، قائلاً: «ينبغي أن يستوعب الجميع أن أفضل لقاح في العالم هو ذلك الذي سيتاح لك في أقرب فرصة ممكنة.. وأنه ليس هناك أي ضمانة لأفضلية اللقاح الإنجليزي على الصيني أو العكس.. لا توجد ضمانات، فما زلنا حديثي العهد بها جميعاً. كل اللقاحات تختلف في نسب الحماية التي تقدمها.. ولكنها – كلها – تحمى من المضاعفات الخطيرة، التي هي الخطر الحقيقي الذي يهدد النظام الصحي بسبب هذا الكوفيد اللعين.. لذا ففكرة انتظار لقاح ما ورفض المتاح حالياً تبدو أقرب لمن يرفض أن يسكن في فيلا انتظاراً لقصر. والكارثة أنه يبيت حالياً في الشارع!!» (محمد صلاح البدري، لماذا لا يصبح اللقاح إلزامياً؟، جريدة الوطن، القاهرة، نافذة رأي، الأربعاء الموافق 14 أبريل 2021م).
مدى ملاءمة تقرير إلزامية لقاح كورونا
يذهب البعض إلى وجوب أن تكون هناك قوة إلزام؛ لدفع الجميع لتلقّي اللقاح، حيث تتوخى هذه القوة الغايات المقاصدية النبيلة، التي تحول دون تمكين أفراد أو جماعات أقلويّة من خرق السفينة الجمعيّة الكبرى في عُرض البحر. وباعتبارها مالكة قوة الإلزام، لا القسر، فإن على الدول أن تفكر في جعل لقاح «كورونا» إلزامياً، ما دامت تؤمن بأن هذا الإجراء غايته الخير، الذي يصبّ في خدمة الكائن الإنساني المنتسب إلى الجماعة الأخلاقية، التي تتعالى على أفكارها ومعتقداتها الخاصة، لمصلحة حماية البشرية من الأذى والشرّ. وفي ظني أنّ هذا الأمر لا يتعارض مع الدين أو الشرائع، ولا يتصادم مع الحرية، التي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، الذين هم، في هذا السياق، الجماعة الإنسانية، التي ترى أنّ اللقاح هو خشبة الخلاص الوحيدة الممكنة، للتحرر من شبح الموت والبطالة ومكابدات الفقدان وغياب الأمان النفسي والاجتماعي (موسى برهومة، إلزامية اللقاح والسؤال الأخلاقي، جريدة البيان، دبي، اتجاهات، 26 يناير 2021م).
وعلى حد قول البعض الآخر، «لا أعرف السبب في جعل اللقاح اختيارياً حتى الآن.. كل طبيب حديث التخرج يعرف أن حالة إصابة واحدة تكفي ليستمر الكابوس لفترة طويلة.. وأن الحصول على اللقاح بشكل إلزامي هو السبيل الوحيد للقضاء على هذا الفيروس اللعين. أعتقد أن دراسة أن يكون التطعيم «إلزامياً» بشكل ما – على الأقل للمستحقين له طبقاً لاستراتيجية تلقِّى اللقاح – قد يكون مطلوباً في هذا التوقيت. فترك الأمر للهوى الشخصي يهدر الكثير من الوقت والجهد» (محمد صلاح البدري، لماذا لا يصبح اللقاح إلزامياً؟، جريدة الوطن، القاهرة، نافذة رأي، الأربعاء الموافق 14 أبريل 2021م).
ومع ذلك، وعلى الرغم من الدعوات سالفة الذكر، فإن الدول كافة لم تلجأ إلى الإلزام بتلقي اللقاحات، تاركة ذلك لمحض إرادة واختيار الأفراد. ورغم يعود السبب في ذلك إلى عدم توافر العدد الكافي لتلقيح وتحصين المواطنين والمقيمين كافة. بل إن العديد من الدول النامية والفقيرة لم تستطع أن تبدأ عملية التلقيح حتى الآن، رغم مرور أكثر من ستة أشهر على اكتشاف اللقح، وذلك بسبب ضعف امكانياتها، الأمر الذي دفع البعض إلى المناداة باقتسام اللقاحات. فالإلزام إذن يقتضي توفير اللقاح لكل المواطنين ولكل من يقيم في إقليم الدولة إقامة دائمة. وما دام اللقاح غير متوافر على نطاق واسع، أو غير كاف، فمن الطبيعي أن يكون الأمر متروكاً لمن يرغب في تلقيه. ومع ذلك، ولخلق الحافز على تلقي اللقاح، لجأت العديد من الدول إلى تقرير تدابير تحفيزية في هذا الشأن.
تقرير تدابير تحفيزية لتلقي اللقاح
تبنت معظم الدول نهج التدابير التحفيزية لتلقي اللقاح، من خلال منح الأشخاص الذين تلقوا اللقاحات مزايا تفضيلية مقارنة بغيرهم ممن لم يسبق لهم تلقي اللقاح. فعلى سبيل المثال، وفي يوم الخميس الموافق الثالث عشر من مايو 2021م، أعلنت السلطات الصحية في الولايات المتحدة الأمريكية أن الأميركيين الذين تم تطعيمهم ضد كوفيد-19 لم يعودوا في حاجة إلى وضع كمامات في الأماكن المغلقة. وأكدت السلطات الصحية الأمريكية أنه «يمكن لأي شخص تم تطعيمه بالكامل المشاركة في الأنشطة الداخلية والخارجية، صغيرة كانت أم كبيرة، دون ارتداء كمامة أو احترام التباعد الجسدي». وفي مراجعة سابقة للتدابير المتخذة في مواجهة فيروس كورونا، أعلنت مراكز السيطرة على الأمراض أن الأشخاص الذين تم تطعيمهم بالكامل ضد فيروس كورونا، يمكنهم ممارسة الرياضة وحضور التجمعات الصغيرة في الهواء الطلق دون ارتداء الكمامة، لكنهم ألزمتهم بارتدائها في كل الأماكن المغلقة.
وفي الإمارات العربية المتحدة، يمكن أن نستشف بوضوح فلسفة التحفيز على تلقي اللقاح في القرارات الصادرة عن الجهات المعنية بشأن التدابير الاحترازية والإجرائية الوقائية للحفاظ على الصحة والسلامة العامة. فعلى سبيل المثال، وللتدليل على ذلك، يكفي الإشارة إلى التعميم الصادر عن المجلس التنفيذي لإمارة أبو ظبي – اللجنة التنفيذية رقم (4) لسنة 2021 بشأن تحديث إجراءات التصدي لجائحة كوفيد – 19 في الجهات والشركات الحكومية. إذ يميز التعميم المشار إليه بين الحاصلين على اللقاح وغيرهم، سواء فيما يتعلق بالمدة الإلزامية لإجراء الفحص الدوري (PCR) أو فيما يتعلق بالسماح بتطبيق نظام العمل عن بعد للموظفين العائدين من السفر خارج الدولة أو المخالطين لمرضى مصابين بالفيروس. ففيما يتعلق بالمدة الإلزامية لتلقي اللقاح، تكون هذه المدة شهر بالنسبة لمن تلقي اللقاح، بينما تكون سبعة أيام فقط لمن لم يسبق لهم تلقي اللقاح. وفيما يتعلق بتطبيق نظام العمل عن بعد من عدمه، يلاحظ أن هذا النظام يطبق فقط بالنسبة لمن سبق لهم تلقي اللقاح. أما غيرهم ممن لم يسبق له تلقي اللقاح، فلا يتم السماح لهم بالعمل عن بعد، وتخصم مدة الحجر الصحي من رصيد إجازاتهم السنوية أو تحتسب إجازة خاصة بدون راتب.