صناعة التشريعات الجنائية في عالم متغير.. الإثبات بواسطة الأقمار الصناعية
بقلم: الدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
تعليقاً على مقالنا المنشور في جريدة الوطن القاهرية، يوم الثلاثاء الموافق أبريل 2021م، بعنوان «حلم الفضاء»، وعلى صفحتي العامة على الفيس بوك، يتساءل الصديق العزيز المستشار الدكتور محمد أسعد العزاوي، المحامي العام في جمهورية العراق الشقيقة، عما إذا كان «بالإمكان استخدام الفضاء والأقمار الصناعية لغرض إثبات الجرائم خصوصاً في الجرائم التي تحصل على الأرضي التي لا يوجد فوقها غطاء أي سقف يحميها وكذلك لا توجد كاميرات للمراقبة قريبة منها ولا يوجد دليل واحد يثبت حالة الجريمة، وبذلك تكون هذه الجرائم مكشوفة جوياً فهل يستطيع هذا القمر الصناعي أن يرصد لنا هذه الجرائم إذا كانت مهمتهُ تقتضي أن يسافر إلى مسافات بعيدة، فإذا ما تم تطويره بشكل أكبر وتم تزويده بكاميرات رقمية ذات زوم عالي الدقة فهل سيصعب عليه ذلك، وسيكشف لنا الأحداث أول بأول وهل سنصل إلى تلك الغاية العظيمة قريباً، كما وأن هذا الأمر سيفتح لنا الأبواب بكل تأكيد حول دراسة قانونية جديدة، وهي الإثبات الجنائي عبر الأقمار الصناعية».
ولعل التعليق سالف الذكر يذكرنا بالرواية الإنجليزية (The Big Sleep)، الصادرة سنة 1939م، للكاتب الأمريكي البريطاني «رايموند تشاندلر» (Raymond Chandler)، حيث يقول المؤلف إنك «إذا ما عشت في منطقة رائعة تستمتع فيها بعاداتك السيئة، فعليك الحذر، فأنت لا تعرف مطلقا ما الذي يدور في الفضاء، أو مدى قوة الكاميرات هناك».
والواقع أنك عندما تكتب عبارة «استخدام الأقمار الصناعية» على محرك البحث جوجل، سوف تخرج لك النتائج الآتية: استخدام الأقمار الصناعية في رصد الطقس؛ استخدام الأقمار الصناعية في الأرصاد الجوية؛ استخدام الأقمار الصناعية في مجال الملاحة والمراقبة؛ استخدام الأقمار الصناعية في الاتصالات؛ استخدام الأقمار الصناعية في عمليات البث التليفزيوني؛ استخدام الأقمار الصناعية في المجال العسكري؛ استخدام الأقمار الصناعية في التعليم؛ استخدام الأقمار الصناعية في الاستشعار عن بعد. كذلك، يمكن أن تجد نتيجة أخرى، بعنوان «كيف أصبحت صور الأقمار الصناعية أداة ضرورية وسهلة الاستخدام للصحفيين». ولكن، تخلو المادة المنشورة باللغة العربية على الإنترنت من أي حديث عن استخدام الأقمار الصناعية في التحقيقات الجنائية، وذلك باستثناء مقال واحد مترجم عن اللغة الإنجليزية، ومنشور على موقع (BBC News) عربي، 26 أبريل/ نيسان 2016م، للصحفي العلمي «بول ماركس»، ويحمل عنوان «المحققون الذين يمكنهم مراقبتك عبر الفضاء». فهذا المقال مترجم عن اللغة الإنجليزية، والأصل الإنجليزي له هو:
Paul Marks, The detectives watching you from space, BBC Future, 5th April 2016.
في المقابل، وإذا كتبت عبارة (Using Satellite in Criminal Investigations)، على محرك البحث جوجل، سوف تظهر لك النتائج الآتية:
Raed. S. A. Faqir, The use of Technology of Global Positioning System (GPS) in Criminal Investigation & Right to Privacy under the Constitution and Criminal Legislations in Jordan: Legal Analysis Study, Revue internationale de droit penal, 2013/3-4 (Vol. 84), pages 433 à 462.
Private Investigators Use Satellites for investigations, Keith Schafferius.
Satellite images as evidence in court: legal obstacles to their use in environmental investigations, Science for Environment Policy, European Commission, July 2016, Thematic Issue 56.
Kieron Monks, Spy satellites fighting crime from space, CNN Business, August 12, 2014.
Sophia Epstein, Satellite imagery is being used to solve crimes, Wired, 02.04.2015.
NASA Helps Cops Catch Criminals On Earth With Video Technology Invented By Space Scientists, Science Daily, September 7, 2000.
Alice B. Kelly & Nina Maggi Kelly, Validating the Remotely Sensed Geography of Crime: A Review of Emerging Issues, Remote Sens. 2014, 6, pages 12723-12751.
وغني عن البيان أن التحقيقات الجنائية المعاصرة غدت تعتمد في العديد من القضايا، وبشكل متزايد، على الأدلة التقنية أو الفنية، وبشكل يفوق كثيراً الأدلة القولية. وفي هذا الصدد، لا نغالي إذا قلنا إن العصر الحالي هو عصر التكنولوجيا الحديثة، وأن هذه التكنولوجيا ينبغي أن تجد طريقها إلى منظومة العدالة الجنائية، وبحيث يمكن استعمال التقنيات الحديثة في كشف وسبر أغوار الجرائم. وفيما يتعلق بموضوع بحثنا، فإن الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية يمكن أن تشكل عوناً لأجهزة البحث الجنائي والمحاكم في كشف غموض العديد من الوقائع الإجرامية، الأمر الذي يبدو جلياً من خلال العرض التالي:
أول وكالة خاصة للتحري عبر الأقمار الصناعية
في المملكة المتحدة، ثمة شركة للتحقيقات تعمد إلى تسخير أداة جديدة في عملها، وهي الأقمار الصناعية، حيث يتم استخدام هذه التقنية الفضائية في المراقبة. وهذه الشركة نشأت في شهر أكتوبر عام 2014م، واسمها هو «وكالة الأدلة الهوائية والفضائية» (Air & Space Evidence agency)، والتي تعد أول وكالة للتحري في العالم تعمل من خلال الاستعانة بالصور القادمة من الفضاء الخارجي. وقد أسس هذه الشركة المحققان «راي هاريس» (Ray Harris) و«راي بيردي» (Ray Purdy)، واللذين يعملان كعيون مراقبة من السماء. إذ يهدف هذان المحققان لاستعمال الصور الفوتوغرافية الملتقطة عبر الأقمار الصناعية في الدعاوى المقامة أمام المحاكم. ويعمل «بيردي» كمحامٍ في قضايا الفضاء، أما «هاريس» فهو عالم بالجغرافيا تخصص في صور الجغرافيا المكانية وقواعد البيانات. وقد أسس الاثنان وكالتهما الفضائية للتحري، لتوفير ما يمكن أن نطلق عليه «الأدلة الهوائية والفضائية». وقد تخرج الاثنان من كلية لندن الجامعية، ويعمل بيردي الآن في جامعة أوكسفورد. إن إلمام المحققين المذكورين بصور الأقمار الصناعية، وكيفية الاستفادة منها في تطبيق القانون، يمنحهما أفضلية وميزة نسبية مقارنة بأقرانهما، كما يمكن لهذه التقنية أن تكون مفيدة للغاية في كشف الحقيقة أو الفصل في المنازعات.
لماذا نستخدم الأقمار الصناعية في التحقيقات الجنائية؟
منذ سبعينيات القرن الماضي، أصبح السفر البصري عبر الزمن ممكناً، لأن الصور الملتقطة من الفضاء تم حفظها في أرشيف لشركات الأقمار الصناعية. وفي البداية، كانت هذه الصور بدرجة وضوح متدنية، ولكنها تحسنت تدريجياً حتى توفرت في العام 1999م صور بدرجة قرب تبلغ أقل من متر واحد، وذلك فيما عدا ما يتعلق بالمواقع العسكرية. وفي الوقت الحالي، فإن الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية أكثر دقة وتصل إلى درجة قرب تتراوح بين خمسين وثلاثين سنتيمتراً. وهكذا، ومع الوضوح العالي للصور الذي يصل إلى درجة قرب تبلغ 30 سنتيمتراً، غدا ممكناً أن ترى من الفضاء صندوق بريد، أو غطاء قبو للصرف الصحي. ويتعين على الشركات المتخصصة في مجال الاستعانة بالصور الملتقطة بالأقمار الصناعية في التحقيقات الجنائية أن تبين للمحكمة أسباب استنادها على ما هو مقدم كدليل، ويتضمن ذلك البرهنة على أن الصور حُفظت بشكل صحيح ولم تُغيّر أو تحوّر بأي شكل من الأشكال. وفي جميع الأحوال، يمكن للصور الملتقطة من الفضاء أن تكون جزءاً من شبكة معقدة من الأدلة والبراهين. والمعضلة الكبرى في هذا الشأن هي في استخراج بيانات بوضوح عالٍ بما يكفي ليستفيد منها المحققون. ومن الواضح أن الاحتمالات المتعلقة بمثل هذا النوع من التحريات ستتضاعف كثيراً، إذ تتحسن درجة وضوح ودقة الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية ونقترب من الوصول إلى خيارات التصوير بالفيديو.
أوجه استخدام صور الأقمار الصناعية في الإثبات الجنائي والمدني
من خلال تجربة وكالة الأدلة الهوائية والفضائية، يمكن القول إن استخدام الصور الملتقطة بواسطة الأقمار الصناعية يمكن أن يكون دليل إثبات ناجع في العديد من القضايا الجنائية والمنازعات المدنية، ومنها ما يتعلق بالنزاعات حول حدود الملكيات العقارية، أو تحديد حقوق ارتفاق المرور والطرق بين العقارات، أو كشف أماكن المركبات المسروقة، أو المواقع غير المشروعة لمكبّات النفايات، أو التثبت من أضرار بيئية خطرة أصابت مستنقعات حيوية وغابات قديمة. إذ يمكن أن تكون الصور الملتقطة عبر أزمان مختلفة حاسمة في مثل هذه الحالات، ويمكن أن تسهم في تكوين عقيدة القاضي الجنائي في القضية، ولاسيما إذا كانت لدى المحقق الخاص خبرة باعتباره محامياً في الأمور المتعلقة بالفضاء، ومعرفة بالصور التي يمكن اعتبارها أدلة مقبولة.
وقد تضمنت أول دعوى مدفوعة الأجر لأحد المحققين في وكالة التحقيقات سالفة الذكر طلباً من أحد سكان كاليفورنيا يقول إن جاره يدعي أن إحدى خدمات رسم الخرائط على الإنترنت توضح حقه في المرور عبر حديقة منزله، بل وأراد ذلك الجار أيضاً أن يُوثّق ذلك بشكل رسمي، فلجأ صاحب المنزل إلى الشركة لإثبات عكس ذلك. وبالعودة إلى الصور الأصلية الملتقطة من الفضاء عبر فترة من الزمن، استطاعت الشركة تحديد عدم وجود أي مسلك أو ممر عبر عقار ذلك الرجل.
وفي إحدى الدعاوى، طُلب من المحققين النظر في تجريف أرض ما بشكل غير شرعي من إحدى البحيرات المحمية ضمن القانون الأوروبي باعتبارها من الأراضي الرطبة. وتمكّنا من العثور على صور تبين عدد وحجم عمليات التجريف، وقدّما أدلة على كمية الرمل الذي جرى تجريفه وتخزينه بالقرب من البحيرة وحتى كيفية تغير الكميات بشكل مؤثر عبر السنين. ويمكن أيضاً أن تبلغنا الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية عما إذا جرى توسيع منزل أو بناء ما، ويتم تسجيل الشكل المختلف فوراً على شاشة جهاز الرادار.
وفيما يتعلق بجرائم السرقة وإخفاء الأشياء المسروقة، وحيث إنه يمكن الحصول على صور ملتقطة عبر الأقمار الصناعية المزودة بأجهزة الرادار، وبما أن هذه الأجهزة تكشف إشارات الرادار الدقيقة المنعكسة عن سطح ما، بدلاً من التقاط أشعة الشمس المنعكسة عنها، لذا يمكن استخدامها في مهمات مختلفة تماماً، مثل الأماكن التي نُقلت إليها أشياء ثقيلة مسروقة.
كما تساعد الأقمار الصناعية المخصصة لنظام التموضع العالمي في التحري أيضاً، بفضل خدمات التتبع التي تستعمل نظام تحديد هوية السفن. وطُلب من الوكالة إذا كان بمقدورها، من خلال صور الفضاء، تحديد السفينة التي ارتطمت بأحد توربينات الرياح المولدة للكهرباء والمثبتة قرب أحد السواحل. ومع أن من المستحيل تقريباً رؤية لحظة الارتطام، فإن عملية ملاحقة مسالك السفن يمكنها أن تحدد أي منها كان في تلك المنطقة في ذلك الوقت. وعندئذ، وعلى سبيل المثال، يمكن لعيّنات طلاء جسم السفينة المأخوذ من موقع الحادث أن يكون من الأدلة الجنائية المساعدة في تحديد هوية السفينة المرتطمة بالتوربين.
وبالإضافة إلى ما سبق، يمكن استعمال الصور الملتقطة بواسطة الأقمار الصناعية في تحديد مرتكبي الجرائم البيئية. فعلى سبيل المثال، وفي إحدى القضايا بجمهورية إيرلندا، أثار قطع أشجار غابة قديمة بعض التساؤلات عما إذا كانت عملية قطع الأشجار قبل زمن طويل لا يطال العقاب بموجبه أحد، أم أنه وقع مؤخراً.
ومن خلال الصور الملتقطة من الفضاء في أوقات زمنية مختلفة، تمكنت «وكالة الأدلة الهوائية والفضائية» من تحديد أن الأشجار المقطوعة قد اختفت خلال فترة بضعة أسابيع من عام 2014م، وذلك على نحو دقيق. كذلك، وبالنظر لأن مكبّات النفايات المحظورة أصبحت مشكلة متفاقمة، لذا يتوقع من الصور الملتقطة من الفضاء أن تصبح مورداً رئيسياً لأدلة المستقبل في إدانة المذنبين، لاسيما وأن هذه المكبات توجد دائماً في أماكن مفتوحة. وأحد الأمثلة الحديثة على ذلك هو مكبّ غير مشروع للنفايات في شمال إيرلندا ألقي فيه ما يقرب من واحد ونصف مليون طن من النفايات، كان معظمه من نفايات مواد البناء. كذلك، يمكن تحديد أماكن التربة المرفوعة أو أعمال الحفر، وذلك من خلال التصوير الفضائي، والذي بإمكانه أن يساعد قوات الشرطة في تحديد وإيجاد بقايا بشرية مدفونة.
استشراف مستقبل استخدام الأقمار الصناعية في العدالة الجنائية
في ظل الوضع الحالي، وفي أغلب الأحيان، يمكن أن تساعد الصور الملتقطة بواسطة الأقمار الصناعية في تحديد صاحب الحق. غير أن ذلك ليس ممكناً على الدوام؛ فالسُحب والظلال والأحراش وأغصان النباتات المتسلقة قد تقع بين الكاميرا والهدف المطلوب في بعض الصور التاريخية المصيرية، مثل وجود سياج في موقع ما قبل عقد من الزمن.
ولكن، ومع تطور التكنولوجيا والاتصالات وشبكة الإنترنت، بات ممكناً أن تقوم الأقمار الصناعية بتصوير ما يحدث داخل غرف المنازل والبنايات، ليلاً ونهاراً. وبحسب موقع (Futurism)، أطلقت شركة تدعى (Capella Space) قمراً صناعياً قبل بضعة أشهر يستطيع أن يلتقط صوراً رادارية واضحة لأي مكان في العالم، بدقة لا تصدق حيث يمكن أن يتغلغل لما بعد جدران بعض المباني. وخلافاً لمعظم المجموعة الضخمة من أقمار الاستطلاع والمراقبة التي تدور حول الأرض، يمكن للقمر الصناعي (Capella 2) التقاط صورة واضحة أثناء الليل أو النهار وأثناء هطول الأمطار أو تحت أشعة الشمس وللاستفادة من الإمكانيات العالية لهذه الصور في أداء العديد من الوظائف، أطلقت شركة (Capella) منصة تسمح للعملاء الحكوميين أو الخاصين بطلب صور لأي شيء في العالم، وهي القدرات التي ستزداد قوة بمجرد أن يكتمل نشر ستة أقمار صناعية إضافية في العام 2021م.
إن ثمة مجموعة من الثغرات في الطريقة التي يتم من خلالها رصد الأرض حالياً من الفضاء، حيث إن غالبية المستشعرات المستخدمة لمراقبة الأرض هي أجهزة استشعار للتصوير البصري. وإذا كان الجو غائماً، فستشاهد السحب، وليس ما يحدث تحت السحب. وإذا لم يكن هناك الكثير من الضوء، فستواجه الأقمار الصناعية صعوبة في الحصول على صورة مفيدة. أما القمر الصناعي (Capella 2)، فيمكن أن ينظر مباشرة من خلال الغطاء السحابي، وأن يرى في وضح النهار كما هو الحال في الظلام الدامس، لأنه بدلاً من التصوير البصري، يستخدم رادار الفتحة الاصطناعية الذي يشار إليه اختصاراً بـ (SAR). ويعمل (SAR) بشكل مشابه لكيفية تنقل الدلافين والخفافيش باستخدام تحديد الموقع بالصدى. ويرسل القمر الاصطناعي إشارة لاسلكية قوية تبلغ 9.65 جيجاهرتز نحو هدفه، ثم يجمع الإشارة ويفسرها أثناء ارتدادها مرة أخرى إلى المدار. ولأن القمر الصناعي يرسل إشاراته الخاصة بدلاً من التقاط الضوء بشكل سلبي، فإن هذه الإشارات في بعض الأحيان يمكن أن تخترق مباشرة من خلال جدار المباني، وتحدق في الداخل مثل رؤية «سوبرمان» للأشعة السينية. وعند هذا التردد، تكون الغيوم شفافة إلى حد كبير. ويمكن اختراق الغيوم والضباب والرطوبة والدخان والضباب. وسيبدو الأمر كما لو كان شخص يحمل مصباحاً يدوياً، فلا يهم إذا كان الوقت نهاراً أو ليلاً.
وفيما يتعلق بمدى دقة الصور التي تقوم الأقمار الصناعية التي تعمل بتقنية (SAR)، إن كل بكسل في إحدى صورها يمثل مساحة 50 سم في 50 سم مربع، في حين أن صور الأقمار الصناعية الأخرى يمكن أن تصل إلى حوالي خمسة أمتار. لذا فإنه عندما يتعلق الأمر بالحاجة إلى التمييز الفعلي لما يتم النظر إليه من الفضاء، فإن تقنية (SAR) تحدث فرقاً كبيراً. كذلك، فإن صور القمر الصناعي (Capella 2) مفصلة للغاية، بحيث يمكن من خلالها التحقق من الغرف الفردية، فضلاً عن أن تلك الأقمار الصناعية الجديدة يمكنها تصوير أي جزء من العالم – بناء على طلب العميل – حتى من الناحية الفنية داخل المنزل.
ومن ناحية أخرى، وفي الوقت الذي يزداد فيه إطلاق الأقمار الصناعية المخصصة للتصوير، وخاصة من قبل دول ناشئة في مجال الفضاء، مثل الصين والهند، سيصبح التحري عن الجرائم من الفضاء أسهل بكثير من السابق. ويعود ذلك إلى وجود مجاميع تصوير قليلة التكاليف من أجهزة (CubeSats) من شركة، مثل (Terra Bella) و (Planet Labs)، والتي ستعمل جنباً إلى جنب مع شركات التصوير العريقة، مثل (Digital Globe) و (SPOT satellite imagery) العائدة لشركة «إيرباص». وعلى سبيل المثال، فإن شركة (Planet Labs) تعد بأنها ستكون قادرة على تزويد المتعاملين معها من الجهات الحكومية والخاصة بصور يصل وضوحها إلى 50 تريليون بِكسِل لكامل الكرة الأرضية، كل يوم، عندما يصل عدد أجهزة (CubeSats) الدائرة في مدار أرضي إلى 100 جهاز.
ومن ناحية أخرى، قد يعتقد البعض أن بالإمكان في الوقت الحالي الحصول على فيديوهات فضائية للوقائع الإجرامية. فعلى سبيل المثال، كان هناك شخص ما يلاحق امرأة، فطلبت من الشركة محاولة التعرف على المشتبه به من الفضاء، ولكن لم يكن ذلك ممكناً.
وأرادت عميلة أخرى أن تعرف من دقّ مساميراً في إطارات سيارتها. وأراد عملاء آخرون التعرف على مركبات استعملت في حوادث سطو أو سرقة مقتنيات أحد البنوك، بما في ذلك توقع رؤية لوحات أرقام السيارات من الفضاء. وهكذا، اعتقد هؤلاء أن ثمة تسجيلات فيديو يمكن الحصول عليها من خلال الأقمار الصناعية، وليس فحسب صوراً ملتقطة. ورغم أن ذلك غير متوافر حالياً، فإن التقنيات تتطور بسرعة، ويمكن أن يحدث ذلك في المستقبل القريب. والواقع أن تسجيلات الفيديو الملتقطة بالأقمار الصناعية موجودة فعلاً، لكنها ليست بدرجة وضوح الصور الملتقطة عن طريق أفضل الكاميرات التي تدور في مدار حول الأرض، بالإضافة إلى أنه لا يمكنها توفير تغطية كاملة. فعلى سبيل المثال، تبني شركة (Terra Bella) المملوكة لجوجل، وكانت تدعى سابقاً (Skybox Imaging)، أسطولاً من أجهزة التصوير التي تعرف باسم (CubeSats)، والتي تدور حول الأرض في مدار منخفض، وبإمكانها تزويدنا بمقاطع فيديو مدتها تسعين ثانية لمكان معين من الكرة الأرضية.
ويريد القائمون على الشركة في نهاية الأمر أن يكرروا ذلك على بقعة محددة من الأرض عدة مرات خلال اليوم الواحد، حتى يقترب عدد أجهزة (CubeSats) في الأسطول من العدد المطلوب، وهو 24 قمراً صناعياً. لكن ذلك قد لا يكون بالضرورة في الوقت المحدد الذي يريده شخص ما بالضبط.
تساؤلات حول مدى مشروعية الأدلة المتحصلة بواسطة الأقمار الصناعية
أثارت الزيادة في عدد الأقمار الصناعية المخصصة للتصوير، والتي تدور حول الأرض، التساؤلات عن أثر ذلك على الحياة الخاصة في المستقبل. وبعبارة أخرى، ومع قمر صناعي يستطيع أن يصور ليل نهار ما يحدث داخل غرف المنازل والبنايات، يرى البعض أن ثمة حاجة لإطار قانوني وأخلاقي يواكب هذا التطور المثير للجدل. وإذا كان بإمكان الأقمار الصناعية تركيز قدراتها لتتخطى الحدود المرسومة وتكشف نمط الحياة الخاص بمجموعات من الناس، أو استعمالها لتتبع وملاحقة أشخاص معينين، فإن هذا القطاع التجاري بحاجة إلى تنظيم وضوابط دقيقة. ومع ازدياد درجة وضوح الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية إلى حد 30 سنتيمتر، فإنها تقرب من عالم المراقبة والتصوير لأغراض عسكرية.
وبالتالي، يبدو مستساغاً ومقبولاً أن تتزايد الأصوات التي تعبر عن قلقها فيما يتعلق بحقوق الإنسان وخصوصية البيانات، وتدعو بالتالي إلى حمايتها عند التقاط هذه الصور. وتبدو الحاجة ملحة إلى بيان الحد الفاصل الذي تنتهك فيه صورة ملتقطة عبر الأقمار الصناعية قانون حماية البيانات الشخصية.
وانطلاقاً مما سبق، انتهجت «المفوضية الأوربية» سياسات لحماية البيانات عن طريق مراقبة الأرض من الفضاء، من بينها أنه على أي صورة ملتقطة تبين ما هو أقل من مسافة 2.5 متر أن تُفحص بدقة قبل نشرها. ولكن، تم رفض مشروع المفوضية الأوربية باعتباره عائقاً أمام الشركات العاملة في هذا القطاع التجاري، فهو يحد من المنافسة.
وعلى كل حال، وأياً كانت الانتقادات والمخاوف المثارة من التطور الهائل في التصوير بواسطة الأقمار الصناعية، فإن هذا التطور صار أمراً واقعاً، ولا يمكن لدول العالم الثالث أن تمنع هذه التكنولوجيا أو تحد من إمكانياتها وقدرتها على التصوير. وكل ما يمكننا القيام به هو وضع إطار قانوني وأخلاقي يحدد الأدلة المقبولة أمام القضاء الجنائي في الإثبات.
وفي اعتقادي أن مصطلحات «رجال مباحث الفضاء» و«الأدلة الهوائية أو الفضائية» ستجد طريقها قريباً إلى منظومة العدالة الجنائية في عالمنا العربي. ونعتقد أن استعمال الصور الملتقطة من الأقمار الصناعية يبدو ضرورياً في كشف أسباب جنوح سفينة الحاويات العملاقة «إيفر جرين» أو «إيفر جيفن» في قناة السويس، والتي تسببت في تعطيل حركة الملاحة في قناة السويس، وصولاً لتحديد ما إذا كان ذلك عملاً تخريبياً متعمداً من ربان السفينة أم أن ذلك قد حدث على سبيل الخطأ أم أنه قد حدث نتيجة الرياح الشديدة والظروف الطبيعية.
وتجدر الإشارة في هذه الصدد أن هذه السفينة العملاقة قد جنحت في الممر الملاحي لقناة السويس، وكان ذلك في الثالث والعشرين من مارس 2021م، وأدت إلى تعطيل حركة الملاحة لمدة ستة أيام، حيث لم تنجح جهود القناة في تعويمها سوى في التاسع والعشرين من مارس 2021م. ويبدو من الضروري استعمال الصور الملتقطة بواسطة الأقمار الصناعية في هذا الحادث، لاسيما وأن العديد من وسائل الإعلام المصرية والعربية والأجنبية ذكرت أن الأقمار الصناعية قد رصدت صوراً ومقاطع فيديو لتحركات غريبة في مسار سفينة «إيفر جيفن» العملاقة قبل دخولها قناة السويس، وجنوحها.