صناعة التحكيم
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر- أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
في يوم الأربعاء الموافق السادس عشر من شهر مارس الحالي، وبرعاية وحضور صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور بندر بن سلمان بن محمد آل سعود، الرئيس الفخري لمركز التحكيم لدول مجلس التعاون الخليجي، تعقد الجامعة الأمريكية في الإمارات منتدى «النظام القانوني للتحكيم: التحديات والحلول». وقد تفضل الصديق العزيز الأستاذ الدكتور أحمد مصطفى الدبوسي، أستاذ القانون التجاري بالجامعة الأمريكية في الإمارات بتوجيه دعوة كريمة لي بتسجيل فيديو لمدة دقيقة ونصف أو دقيقتين عن التحكيم، وبحيث يتم إذاعته في بداية أعمال المؤتمر. وكما كان حرصي بالغاً على إلقاء كلمة قصيرة عبر الفيديو إلى السيدات والسادة المشاركين في أعمال المؤتمر، ولكن لظروف خارجة عن الإرادة اضطررت معها للسفر خارج الإمارات العربية المتحدة، لم أتمكن من تسجيل الفيديو المطلوب. ومن ثم، ومن قبيل الاعتذار عن تلبية الدعوة الكريمة، ارتأت من المناسب أن أكتب هذا المقال، للتعريف بالمؤتمر وفي الوقت ذاته بيان العناصر التي كنت أود الحديث عنها في كلمتي للمشاركين في المؤتمر، ونصها كما يلي:
في عالم اليوم، غدا مألوفاً أن نسمع بعض المصطلحات الهجين التي تربط بين عالم القانون وبين عالم المال والأعمال، مثل «صناعة المحاماة»، «سوق الخدمات القانونية»، «سوق الاستشارات القانونية»، «تسويق الخدمات القانونية» و«تسويق التشريعات». واتساقاً مع ذلك، أرى من الملائم أن أشير إلى أحد المصطلحات التي بدأ استخدامها مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ألا وهو «صناعة التحكيم»، متسائلاً عن حجم هذه الصناعة المتعاظمة، ونصيب الدول العربية منها، وعن آليات تطويرها وتعظيم المردود الناجم عنها في بلادنا.
وفي ظل العولمة، غدا العالم عبارة عن قرية صغيرة، وبحيث صار ممكناً الانتقال من أقصاه إلى أدناه في ساعات معدودة، وبدأت الدول كافة تعمل على جذب رؤوس الأموال الأجنبية. ولا شك أن «التحكيم» هو أحد الوسائل الأساسية لتوفير بيئة جاذبة لرؤوس الأموال العابرة للحدود. كذلك، غدا مألوفاً أن تعمد الدول إلى إنشاء مراكز دولية للتحكيم، بحيث تعمل كمنصة عالمية لفض المنازعات التي تثور بين أطراف لا توجد علاقة بينهم وبين الدول التي يقع بها مركز التحكيم.
وبالإضافة إلى ما سبق، أود القول إن التحكيم قد ارتبط في أصل نشأته بالتجارة الدولية، الأمر الذي أدى إلى اقتران لفظ «التحكيم» في الغالب بوصف «التجاري»، وبحيث نسمع كثيراً عن «التحكيم التجاري الدولي». ومن هنا، ارتبطت دراسة التحكيم بتخصص القانون التجاري، وتنازع معه في اقتسام الكعكة أقسام القانون الدولي الخاص والقانون المدني على استحياء. أما فقه القانون الجنائي، فقد بقي بعيداً عن دراسة موضوع التحكيم، وذلك على الرغم من الدور الحيوي والمهم الذي يمكن أن يلعبه القانون الجنائي في هذا الصدد من خلال بيان سبل وآليات «الحماية الجنائية لخصومة التحكيم». كذلك، وعلى الرغم من أن القرآن الكريم قد أشار إلى آلية التحكيم في فض الشقاق بين الزوجين، فإن التحكيم كآلية مستقلة عن القضاء في مسائل الأحوال الشخصية ما زال نسياً منسياً.
وأخيراً، أريد أن أطرح نقطة على قدر كبير من الأهمية، وهي أن اللجوء إلى التحكيم قد فرض نفسه تقريباً على جميع المنازعات التي تنشأ بين أصحاب رؤوس الأموال الأجنبية وبين الدولة المضيفة، ويرجع ذلك أساساً إلى ما يرد غالباً في الاتفاقيات الدولية الثنائية والجماعية بشأن حماية الاستثمار الأجنبي من النص على اللجوء إلى آلية التحكيم، لحل ما قد ينشأ من منازعات. بل لقد فرضت اتفاقيات حماية الاستثمار ما يمكن تسميته «أتوماتيكية التحكيم»، بصورة لم تكن معهودة من قبل. ووصل الأمر إلى أن يلجأ المستثمر إلى إحدى مؤسسات التحكيم غير المنصوص عليها في العقد المبرم بينه وبين الدولة المضيفة، استناداً إلى ما قد يكون وارداً في اتفاقية ثنائية لحماية الاستثمار بين الدولة المضيفة ودولة المستثمر الأجنبي. ومن ثم، فقد أثار بعض الفقه التساؤل عن ماهية القواعد التي يستند عليها الاختصاص في التحكيم الدولي مع تزايد حالات لجوء المستثمر لمؤسسات تحكيم غير منصوص عليها في عقد الاستثمار وإعلان هذه المؤسسات اختصاصها رغماً عن ذلك (راجع: أستاذنا الدكتور أحمد فتحي سرور، العالم الجديد بين الاقتصاد والسياسة والقانون، نظرات في عالم متغير، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 2005م، ص 306 وما بعدها).
وفي الختام، أود القول إن التحكيم مجال خصب. ورغم عديد الدراسات التي صدرت عنه، ورغم عديد المؤتمرات التي عقدت في شأنه، لا زالت هناك العديد من الإشكاليات التي تستحدث وتحتاج إلى حل، ومن هنا تأتي أهمية عقد الندوات والمؤتمرات التي تلقي الضوء على صناعة التحكيم، آملاً وراجياً ومتمنياً أن يحدث ذلك بشكل منتظم ومستمر. والله الموفق والمستعان.