“سراي الحقانية” أقدم محاكم الإسكندرية.. افتتحت عام 1875 كمختلطة..ومطالب بجعلها متحف قضائي
تقرير :أشرف زهران
سراي الحقانية في الإسكندرية تعد كنز تاريخي نادر وهي تبلغ من العمر 131 عاما وتسمي محكمة الحقانية أو سراي الحقانية وهي تقع في منطقة من أشهر مناطق الإسكندرية وهي منطقة المنشية التي أطلق فيها الرصاص علي الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في شهر يوليو عام 1954م أثناء إلقائه خطاب بمناسبة الذكرى الثانية لثورة 23 يوليو عام 1952م ويوجد بها مبني البورصة القديم والإتحاد الاشتراكي وتمثال محمد علي باشا وقد بدأ تشييدها عام 1869م في عهد الخديوى إسماعيل علي يد المهندس المعمارى الإيطالي لازروف وتم الإنتهاء من بنائها وإفتتاحها رسميا عام 1875م وقد أقام الخديوى إسماعيل حفل ضخم بسراى رأس التين يوم 28 يونيو عام 1875م بمناسبة هذا الإفتتاح وقال كلمة أثناء الحفل جاء فيها إنه واثق بأنه بعناية الله وحسن توفيقه سيكون مستقبل هذه المحكمة وطيد الأركان وبعد خلع الخديوى إسماعيل عن عرش مصر عام 1879م وإعطاء الأجانب في مصر الكثير من الإمتيازات منها عدم المثول أمام القضاء المصرى ومن هنا تقرر إنشاء المحاكم المختلطة وهي المحاكم المختصة بمحاكمة الأجانب المقيمين بالبلاد وذلك نظرا لكثرة أعداد الأجانب المقيمين بالإسكندرية فكان من الضرورى إنشاء تلك المحكمة بها فتم إخنيار سراى الحقانية لتكون مقرا لتلك المحكمة وكانت تلك المحاكم موجودة بالقاهرة والإسكندرية والمنصورة فقط وهي المدن الثلاثة التي كان يسكنها عدد كبير من الأجانب وبعد ذلك تم تجديدها وإفتتاحها مرة أخرى عام 1886م في عهد الخديوى توفيق علي يد المهندسين المعماريين الإيطاليين ألفونسو مانيسيكالكو وأوجستو سيزارياس وتعد من أقدم المحاكم المصرية علي الإطلاق .
ومن الأمور الطريفة التي حدثت أثناء الإستعداد لإعادة إفتتاح سراى الحقانية عام 1886م أنه تم توجيه وثيقة من مجلس النظار وهو يماثل مجلس الوزراء حاليا إلى وزارة الأشغال العمومية فى شهر سبتمبر عام 1886م تحدد أنه من ضمن إستعدادات مدينة الإسكندرية لإعادة إفتتاح سراى الحقانية أن يتم تجهيز الشوارع المحيطة بها وتبليطها ليصبح المكان لائقا ببيت العدل وبالمناسبة وعليه فقد ورد من مجلس النظار إلى نظارة الأشغال العمومية بخصوص الجلسة التى إنعقدت يوم الخميس 23 سبتمبر عام 1886م والتي تم فيها إعتماد لتبليط الأرض الواقعة حول سراى الحقانية وقد أوضح سعادة ناظر المالية أن وزارته قد وافقت على إجراء هذه العملية وإحتساب تكاليفها من أصل العشرة بالمائة المصرح بها علاوة على مصروفات إعادة بناء سراى الحقانية ومن هذه الوثيقة يتضح لنا أن تجديد بناء سراى الحقانية كان إنتهى قبل نهاية عام 1886م وأن نظارة الأشغال العامة كانت تقوم فى هذه الأيام بوضع اللمسات الأخيرة تمهيداً للإفتتاح وهى تشمل تبليط وتجميل المحيط الذى تقع به السراى فى ميدان المنشية أو ميدان القناصل كما كان يطلق عليه حينذاك بوسط المدينة والذى كان يضم البنوك وأفخم الفنادق والمحال والمطاعم ومساكن الأوروبيين حيث كان هذا الميدان جزءا مهما من الحى الأوروبى ويضم أهم المنشآت والمتاجر بالمدينة.
وسراي الحقانية الكائنة في ميدان المنشية تضم العديد من الوثائق والمخطوطات حتي تكاد أن تنافس نظيراتها في دار القضاء العالي بالقاهرة والتي تحكي تاريخ حقبة مهمة وخطيرة من تاريخ القضاء المصري وتضم مكتبة سراي الحقانية ملفات وسجلات مهمة تكشف خبايا في تاريخ مصر القديم والحديث وتحديدا منذ عام 1825م في عهد محمد علي باشا ربما كان من أهمها تلك الملفات الخاصة بالقضاء المختلط منذ إنشاء السراي وحتى عام 1945م وتضم هذه الملفات سجلات رؤساء المحكمة المتعاقبين والموظفين الذين عملوا فيها ورواتبهم ودرجاتهم الوظيفية وسجلات بأهم أحكام القضايا الشهيرة مثل حادث دنشواى وقضية ريا وسكينة وقضية سفاح الإسكندرية فضلا عن الأختام الخاصة بالمحكمة والتي تعد قطع فنية نادرة ومنها السيف والميزان رمز العدالة وخاتم الملك فؤاد الأول إلى جانب عدد من الساعات النادرة واللوحات الفنية الخاصة بكبار فناني العالم وإلى جانب مقاعدها ذات الطابع التاريخي القديم تضم سراي الحقانية ست خزائن حديدية ضخمة ربما كانت مخصصة للأحراز التي كان يتم التحفظ عليها في الكثير من القضايا ومما يثير العجب والفضول أن هذه الخزائن الست لم يتم فتحها حتى الآن .
ومن أهم المقتنيات النادرة التي تضمها السراي لوحة زيتية ضخمة من أعمال الفنان العالمي تروجيه بول تعبر عن الديانة المسيحية ويرجع تاريخ اللوحة المرسومة داخل إطار من الذهب الفرنسي الأصلي إلى أوائل القرن الثامن عشر الميلادى فهي موقعة ومؤرخة من الفنان في عام 1749م والمعروف أن تروجيه عاش في الفترة ما بين عام 1689م وحتي عام 1762م وهو أحد كبار الرسامين العالميين الذين جابت أعمالهم العديد من المتاحف الكبرى وتوجد أعماله الفنية بمتاحف برلين وروما وسالزبورج وفيينا وقد قام الخديوى إسماعيل بإهدائها إلى سراي الحقانية عند إفتتاحها ويضم أرشيف سراي الحقانية بالإسكندرية نحو 1200 فرمان صادر عن الباب العالي في الآستانة عاصمة الخلافة العثمانية منذ أواخر القرن السادس عشر الميلادى وتحديدا عام 1597م وهي فرمانات تروي فصولا غير معلومة من تاريخ مصر السياسي في عهد السلاطين العثمانيين وتضم هذه النماذج توقيعات لعدد كبير من المماليك كما تتضمن سجلات سراي الحقانية النادرة معلومات تفصيلية عن الثروة الزراعية والحيوانية في مصر بإعتبار أنها كانت المكان الوحيد الذي يتم فيه حفظ أسرار الدولة كما تضم مكتبتها نحو 25 ألف كتاب أهديت إلى مصر من جميع دول العالم تمثل في مجملها مجموعات قانونية نادرة ومن بينها مجموعات لوزان التي لا توجد في فرنسا ذاتها بشهادة الوفود الفرنسية وطلبة جامعة السوربون الذين زاروا المبنى وإطلعوا على المراجع القانونية الموجودة فيه ومن المقتنيات النادرة أيضا في سراى الحقانية عدد 50 لوحة لحكام مصر من الأسرة العلوية أبرزهم الملك فاروق وتمثال نصفي للخديوى عباس حلمي الثاني وصور لأعضاء ورؤساء المحكمة المختلطة منها صورة جون جاكسون أول رئيس لهذه المحكمة من عام 1886م وحتي عام 1894م وصورة موريس بيليه الرئيس الثاني لها من عام 1894م حتي عام 1902م ومن أطرف الأمور في نظام هذه المحكمة فى هذا الزمان أنه كان يتم صرف مبلغ مالي للشهود الذين يتم إستدعاؤهم للشهادة بالمحكمة نظير تعبهم ووقتهم الضائع بموجب إيصال رسمي يوقع عليه الشاهد يسمي إيصال أتعاب مدون فيه إسم الشاهد وإسم المحضر التابع لقلم محضرى محكمة مصر المختلطة مع توضيح أن هذا المبلغ نظير تأدية الشهادة فى المكان المحدد فى القضية رقم كذا وأسماء المتخاصمين والتاريخ وكان هذا المبلغ يصل أحيانا الى عشرين قرش وهو مبلغ لايستهان به في هذا الزمان.
هذا ويطالب عدد كبير من قضاة الإسكندرية بتحويل المبنى التاريخي للمحكمة إلى متحف قضائي خاصة أن المبنى سجل كأثر منذ عام 2001م وقامت هيئة الآثار بالفعل بإنتداب فريق لتنفيذ عمليات الحصر وتسجيل المقتنيات قبل أن يبدأ بعمليات ترميم الوثائق والكتب واللوحة الزيتية بتكلفة بلغت حوالي 100 ألف جنيه ويواجه ذلك المبنى التاريخي العريق مخاطر جمة خلال السنوات الأخيرة بعد أن زحفت إليه المياه الجوفية ودفع ذلك جهات الإختصاص إلى الإستعانة بعدد من الطلمبات التابعة لشركة الصرف الصحي لشفط المياه وطردها بعيدا عن جدران المبنى الذي لا يزال منذ سنوات ينتظر أن تمتد إليه يد الترميم قبل أن ينهار على مقتنياته القانونية والتاريخية النادرة.