رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة (1)

من تراب الطريق (993)

رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة (1)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 8/12/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

هل يمكن في وقت آت من الزمان.. قريب أو بعيد.. أن يستغنى البشر عن توالى الطعام والشراب واليقظة والنوم والشهيق والزفير ؟!

يبدو أن هذه الأضداد وأمثالها ـ ما عرفناه أو لم نعرفه حتى الآن ـــ من لوازم حياة الأحياء على الأرض بقدر ما يعقل الآدمي المفكر. فكل حي عرفناه ـــ مكون من أضداد من العناصر والاتحادات والتراكيب والطاقات والقوى بنسب محددة لازمة لحياته.. إن زادت عن الحد أو نقصت عن اللازم ـ تنتهي حياته! وكل من هذه العناصر والاتحادات والتراكيب والطاقات والقوى خالٍ من الحياة فيما نعلم حتى الآن. فالأحياء توجد وتنتهي ـــ في حدود ـــ على هذه الأرض.. على أساس هائل خالٍ مما نسميه الحياة.. تبدو فيه حياة الأحياء بأجناسها وأنواعها التي نعرفها ــــ هامشية بالغة الضآلة والهوان والعرضية بالقياس إلى ذلك الأساس الهائل الأرضي.. هذا الأساس الذي يبدو لعلمائنا منذ قرنين أو ثلاثة بالغ الضآلة والهوان والعرضية هو الآخر ــــ بالنسبة إلى الكون العظيم !

ويبدو أن الكون العظيم لا يبالي كثيرًا بنا وفقًا لتصوراتنا، ولا باصطلاحاتنا وأعرافنا ولغاتنا وحركاتنا وسكناتنا وأقوالنا وأفعالنا وقراراتنا وأحكامنا وموداتنا وعداواتنا وما نسميه صدقنا وكذبنا وفضائلنا ورذائلنا ورشدنا وحماقاتنا!!

ونحن نحاول باستمرار في كل لحظة في الماضي والحاضر والمستقبل أن نفرض أنفسنا ( أعنى كلا منا منفردًا وكلنا جماعات ) بميولنا وآرائنا وآمالنا وأوهامنا وأحلامنا ومخاوفنا ومتاعبنا وبلايانا ـــ على الكون لا على أنفسنا ـ تارة بما نسميه المقادير وطورًا بما نصفه بالحظوظ.. لأن كلنا يتخيل دائمًا أن « أناه » أي ذاته ـ هي التي تكافح الوجود في دنيانا بوجودها هي.. وهذا قد قاوم ويقاوم ــ ما دمنا في قبضة الأرض ــ الشعور الدائم لدينا بقصر وتفاهة الحياة.. فلا يستمتع أي منا باستقبال أمنه ولا باستعداده ونشوته واهتمامه بطفولته وصباه وشبابه ونضجه في رجولته أو أمومته.. لأن البشر منذ وجدوا يتردد كل منهم تارة مع الأمل والاستبشار والعزيمة لما يفعله أو يعزم عليه، وتارة أخرى مع التشاؤم والتردد والهبوط واليأس لما يقابله أو ينتظره.. وغالبًا ما يتعرضون لكل من الأمل واليأس في الحياة إن امتد بهم العمر. فهل يمكن أن تتخلص أغلبية البشر في مستقبل قريب أو بعيد من هذين الاحتمالين أو من التأرجح بينهما تأرجحًا يستعصى على القطع أو حتى على الترجيح ؟!

قد نتصور شيئًا كهذا التخلص ـــ أو بعضه على الأقل ـــ إن استطاعت أغلبية البشر أن تحصل ــ بيسر وسهولة ــ على رزقها الواسع من سعة علاقاتها المطردة بالفضاء الخارجي وبالملكوت العظيم . ستكون نقلة عظيمة بل نقلة غير مسبوقة هائلة للبشرية تكاد تجاوز نقل بداية الآدمي الحيوانية الهمجية الأولى لظهوره ـــ إلى النقلة التي بدأت بإشعاره بتميزه وانفصاله عن الحيوان ــ ستكون هذه النقلة الهائلة باختراق الفضاء سبيلاً للالتفات الواعي إلى « الأنا » وعيًا عنيفًا كاسحًا مازالت بقيته متسلطة فينا جميعًا برغم الحضارات، تسلطًا مستحكمًا إلى يومنا هذا بما معها من الجهالة الباقية في الأنا.. وهذه النقلة غير المسبوقة الهائلة للبشرية إن حدثت ــ فسوف تغير حتمًا الجهالة الباقية المترسبة للآن في ذات كل منا.. تتحول بها « الأنا » إلـى « أنا » أو« ذات » رشيدة وعاقلـة تمامًا.. لا تخدم الأهواء أو الأطماع أو الأحقاد، وإنما تعاون العقل في رشاده ويعاونها العقل في إقبالها عليه وثقتها فيه والتجائها إليه في كل ما تحتاج إليه من مشورة صحيحة وعمل نافع .

هـذا رجاء لم نرجه بعد ـــ رجاءً صادقًا ـــ حتى الآن.. قد يرجوه ويحققه ـــ إن شاء الله ـــ آدميون غيرنا وبعدنا أفضل تهذيبا « للأنا » التي تمتزج بلا تكلف أو تشدق بالعقل الذي تركناه حين جعلناه في خدمة « الأنا » الجاهلة، فيصير العقل لديهم هو الوزير الأول المسموع الكلمة لدى « أنا » عاقلة فطنة تبحث عن الفطن لتتعلق دائمًا بها .

وهذا يبدو الآن مبالغة أو إمعانا في الرجاء ربما جاوز الحد إزاء أنانية البشر التي تفشت واستشرت ولم تعد للأسف تؤمن بشيء : لا بصدق ولا بحق ولا بسلامة عقل.. ولا بحرص جاد على بقاء واستمرار عمار أو ازدهار أو تماسك أو تعاون أو زيادة فهـم وإدراك !!

زر الذهاب إلى الأعلى