ذكريات قانونية أعلام القانون الجنائي (2) العلامة الدكتور محمود نجيب حسني
بقلم/ الأستاذ: وائل أنور بندق
من الأمور التي أعتز بها أيما اعتزاز في حياتي العلمية أنني قد جعلت من ضمن مشروعاتي الفكرية مشروعاً احتل النصيب الأكبر من حياتي، وهو المشروع الفكري لإعادة إحياء التراث القانوني لكبار الأساتذة، وأحمد الله تعالي على أنه قد ربطت بيني وبين أغلب رجال القانون الكبار روابط حب ومودة وتقدير علمي، جعلتني أتشرف بتنقيح مؤلفاتهم القانونية، وقد كان ذلك دافعاً لي من بعد ذلك لتوثيق وتأريخ السيرة العلمية والقانونية لكبار رجال الفقه القانوني، سواء ممن تعاملت معهم مباشرة، أو من غيرهم.
وأعترف أنني لم أتهيب الكتابة عن شخص مثلما تهيبت الكتابة عن الدكتور محمود نجيب حسني، بشكل ربما لم يحدث مع أي فقيه آخر باستثناء عميد الفقه القانوني عبد الرزاق السنهوري باشا، فكلما اقتربت من الكتابة عن نجيب حسني تراجعت، ربما للدور الكبير لهذا الرجل، وغزارة انتاجه، وتنوع اهتماماته، وهو ما جعلني أوثر التريث، واستقر رأيي في النهاية على الاستعداد لكتابة بحث علمي متعمق بعنوان “دور الفقيه الدكتور محمود نجيب حسني في تطوير الفقه الجنائي العربي”. وإلى أن يأذن الله بالانتهاء من هذا البحث فإنني أكتب هنا بعض الإضاءات على السيرة العلمية لهذا الرجل العظيم.
وقد ولد الفقيه الكبير عام 1928 وتوفاه الله عام 2004، وما بين هذين التاريخين حياة علمية وعملية حافلة، فقد حصل على ليسانس الحقوق عام 1948 ، وعلى الدكتوراه عام 1952، وتقلد عمادة كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ورئاسة جامعة القاهرة، وعضوية مجلس الشورى، كما حصل على جائزة الدولة التشجيعية وجائزة الدولة التقديرية، كما كان هو النجم الفاعل في أغلب مؤتمرات القانون الجنائي في مصر والعالم.
ورغم كل هذه المناصب والأعمال إلا أنها تتوارى جميعا أمام قيمته العلمية، فهو من طراز الرجال الذين وهبوا حياتهم للعلم، فبادلهم العلم عطاء بعطاء، وأضفى على مناصبه قيمة ، ولم تضف هي إليه شيئاً.
والواقع أن دور نجيب حسني في القانون الجنائي يوازي دور السنهوري في القانون المدني، ودور محسن شفيق في القانون التجاري، ودور هشام صادق في القانون الدولي الخاص، فكل منهم نقل الفرع القانوني محل تخصصه نقلة نوعية كبيرة، ففي القانون الجنائي يمكننا التمييز بين مرحلتين، مرحلة ما قبل نجيب حسني، ومرحلة ما بعد نجيب حسني.
وقد ثار نقاش بيني وبين أحد الزملاء حول تطور الفقه الجنائي فوجدته يعقد مقارنة بين رجال الفقه الجنائي و سألني عن رأيي فقلت له بشكل حاسم، أنه يجب مبدئياً إخراج الدكتور نجيب حسني خارج إطار المقارنة، فهو يقف منفرداً على قمة الفقه الجنائي العربي، وبعده بعدة خطوات يقف بقية الفقهاء، ولا أقول هذا الكلام بطبيعة الحال تقليلاً من دور بقية الفقهاء العظام، فقد أدوا رسالتهم على أكمل وجه، وإنما أقول ذلك لأن نجيب حسني تفرد عن أقرانه، فبينما نلحظ أن هناك من الفقهاء من ينتمي إلى مدرسة ” الكم” بحيث يصدر عدداً كبيراً من الكتب، ولكن لا تأتي كلها على ذات القيمة العلمية العالية، وهناك من ينتمي إلى مدرسة “الكيف”، بحيث يصدر عددا قليلاً من الكتب والأبحاث تتمتع بقيمة علمية عالية، نجد أن الدكتور نجيب حسني فقد جمع بين الحسنيين، فقد اهتم بالكم والكيف، فكتاباته تغطي كافة مسائل القانون الجنائي وتتميز بالغزارة الشديدة، لكنها في ذات الوقت تتمتع بالأصالة العلمية والابتكار، وهو ما نريد أن ندلل عليه هنا من خلال هذا العرض الموجز والمختصر.
أولا: في نطاق علمي الإجرام والعقاب
علما الإجرام والعقاب ليسا من صميم القانون الجنائي، وإنما من العلوم المساعدة للقانون الجنائي، لذلك نجد أن أغلب الفقهاء لا يحبون الخوض فيهما كثيراً إلا من خلال مؤلفاتهم العامة المقررة على طلبة كلية الحقوق في الفرقة الأولى، وفي المقابل نجد أن الدكتور نجيب حسني قد أولاهما اهتماماً كبيراً، فقد قدم دروساً موجزة في علم العقاب عام 1959 وكانت هي النواة لكتابه الضخم المتميز في علم العقاب عام 1967، والذي يزيد على ستمائة صفحة وهو الكتاب الأكبر والمتميز في هذا المجال وقد حاز جائزة الدولة التشجيعية، كما كتاب دروساً موجزة في علم الإجرام، ثم نشر كتاباً موجزاً تضمن الأصول العامة لعلمي الإجرام والعقاب.
ولكنه بجوار هذه المؤلفات العامة كتب كتباً وأبحاثاً تناولت مسائل محددة في علمي الإجرام والعقاب، فكتب عن توحيد العقوبات السالبة للحرية عام 1961، وعن معاملة الأحداث المشردين عام 1963، وعن البيئة الإجرامية عام 1964، وعن رسالة السجن ووظيفته عام 1964، وعن حركة الدفاع الاجتماعي الحديث عام 1965، وعن الجزاءات غير الجنائية للجرائم الاقتصادية عام 1966، وعن المؤسسات العقابية المفتوحة عام 1966، وعن التهذيب في المؤسسات العقابية عام 1966، ومفهوم الدفاع الاجتماعي على الصعيد العربي عام 1985، هذا كله بالإضافة لكتاب هام جداً لم يسبقه إليه غيره، هو كتابه بعنوان” المجرمون الشواذ”.
والواضح من هذا العرض أن الدكتور نجيب حسني قد أسهم إسهاماً عميقاً في دراسة علمي الإجرام والعقاب علي صعيد المؤلفات العامة والأبحاث المتخصصة، وهو ما لم يفعله فقيه غيره من فقداء القانون الجنائي، اللهم إلا العلامة الدكتور رمسيس بهنام كتابه الهام عن علمي الإجرام والعقاب في ثلاثة أجزاء.
ثانيا: في مجال القسم العام من قانون العقوبات
بدأ الفقيه الكبير رحلته في القسم العام من قانون العقوبات عام 1957 حيث أصدر فيها كتاباً موجزاً، وظل يتابع إصدار هذا الكتاب ويغذيه وينقحه حتي أصبح الكتاب من كلاسيكيات الفقه الجنائي العربي، وصدرت منه الكثير والكثير من الطبعات حتى وفاته وبعد وفاته حتى وقتنا الحالي.
ولأن القسم العام من قانون العقوبات هو عماد هذا القانون وركنه الركين فقد كان بديهيا أن يهتم الدكتور نجيب حسني بكتابه مؤلفات خاصة وأبحاث متعمقة في مسائله الشائكة، فتعرض لمسائل لم يتعرض لها من قبله الفقه العربي في مؤلفات متعمقة، فكتب كتابه ذائع الصيت عن النظرية العامة للقصد الجنائي، والذي كتبه في البداية كمجموعة أبحاث في مجلة القانون والاقتصاد ثم جمعها في كتاب مستقل ليبهر به الفقه القانوني وينال جائزة الدولة التسجيعية الأولى في مطلع الستينات، ويظل هذا الكتاب هو من أهم الكتب في مجاله إن لم يكن الأهم على الإطلاق، وكتب كتابه ايضاً عن المساهمة الجنائية في التشريعات العربية، وكتابه الأهم والأخطر عن رابطة السببية في قانون العقوبات ( وهو موضوع رسالته للدكتوراة باللغة الفرنسية ترجمه إلى العربية مع بعض التعديلات)، وكتابه عن أسباب الإباحة في التشريعات العربية، وكتابه عن جرائم الامتناع والمسئولية الجنائية عن الامتناع، وبحثه عن الخطأ غير العمدي في قانون العقوبات، وبحثه عن الدور الخلاق لمحكمة النقض في تفسير وتطبيق قانون العقوبات، وبحثه عن حالة الضرورة في قانون العقوبات، وبحثه عن التدابير الاحترازية في قانون العقوبات.
ويلاحظ أن كل هذا الإسهامات كتبها الفقيه الكبير في وقت لم يكن القسم العام من قانون العقوبات قد ازدهرت كتاباته، فبدا وكأنه ينحت في الصخر لبناء هذا الجانب الهام من القانون.
ثالثا: في مجال القسم الخاص من قانون العقوبات
كان بداية القسم الخاص مع الفقيه الكبير عام 1955 بإصدار مؤلفه في هذا الشأن والذي تعهده بالرعاية والتنقيح حتي وفاته، وتعرض فيه لكامل مسائل القسم الخاص من جرائم للإعتداء على المصلحة العامة ، وجرائم الاعتداء على الأشخاص، وجرائم الاعتداء على الأموال، وظل هذا الكتاب الضخم يصدر حتي وقتنا الراهن.
وبطبيعة الحال كان اهتمام الفقيه الكبير بالقسم العام أكبر وأهم من اهتمامه بالقسم الخاص، وكل رجل متمكن في القانون يعلم بأن الكتابة في القسم العام هي الأدق والأخطر والأهم لأنه ينبني عليه القسم الخاص فيما بعد ذلك.
ومع ذلك قدم نجيب حسني بعض الكتب والأبحاث بجوار مؤلفه السابق، فكتب كتابه الهام عن الاعتداء على الحق في الحياة في التشريعات العربية، وكتابه عن الجرائم المضرة بالمصلحة العامة، وبحثه عن الحق في سلامة الجسد ومدى الحماية التي يكفلها له قانون العقوبات، وبحثه عن المسئولية الجنائية للأطباء، وبحثه عن القصد الجنائي في جريمة السرقة، وبحثه عن الحق في صيانة العرض، وبحثه عن مدلول الشيك في تطبيق المادة 337 من قانون العقوبات، وبحثه عن جرائم السب والقذف في القانون الإماراتي.
رابعا: في مجال الإجراءات الجنائية
بدأ الدكتور نجيب حسني كتابه في الإجراءات الجنائية في وقت متأخر عن بقية كتاباته، حيث بدأه في الثمانينات، وظل يصدر الطبعة تلو الأخرى حتي أصبح من أهم الكتب في الإجراءات الجنائية، وقد صدرت منه طبعة حديثة في ثوب علمي قشيب بتنقيح زوجته العلامة الجليلة الدكتورة فوزية عبد الستار.
وبجوار ذلك قدم كتابه الهام والمتفرد عن قوة الحكم الجنائي في انهاء الدعوى الجنائية، وكتابه الهام عن القبض على الأشخاص، وبحثه عن النيابة العامة ودورها في الدعوى الجنائية.
خامسا: في المجالين الدولي والعربي.
لم يكتف الدكتور نجيب حسني بالكتاب في القانون الجنائي المصري الداخلي، وإنما بجوار ذلك كان هو أول من كتب عن القانون الجنائي الدولي كتابا عام 1960.
وبجواز ذلك كتب في كل موضوعات القانون الجنائي اللبناني، فكتب عن شرح قانون العقوبات اللبناني القسم العام، وعن جرائم الاعتداء على الأموال في القانون اللبناني، وكذلك عن جرائم الاعتداء على الأشخاص في القانون اللبناني، ودروساً عن القسم الخاص من قانون العقوبات اللبناني، والنظرية العامة للقصد الجرمي، والسجون اللبنانية.
وبالإضافة لذلك فقد كتب مقارنة بين تشريعات الدول العربية في بعض الكتب التي أشرنا لها من قبل مثل المسئولية الجنائية، والمساهمة الجنائية، والحق في الحياة.
وربما لا يعرف الكثيرون أن الدكتور نجيب حسني قد اشترك مع العلامة السنهوري في وضع قانون العقوبات البحريني، كما كانت له بصمات واضحة في الكثير من التشريعات الجنائية العربية.
سادساً: القانون الجنائي الدستوري
قدم الدكتور نجيب حسني كتابه الهام عن القانون الجنائي الدستوري بعنوان الدستور والقانون الجنائي عام 1992، وهو كتاب نحسب أنه من الكتب الرائدة في هذا المجال، ولا يضاهيه أي كتاب آخر في مجال إلا كتاب الأستاذ الدكتور أحمد فتحي سرور عن القانون الجنائي الدستوري.
سابعا: القانون الجنائي الإسلامي
كان الاهتمام بالقانون الجنائي الإسلامي حلماً من أحلام الفقيه الكبير، وهذا الحلم هو تعبير عن الجانب الأخلاقي المحافظ في سيرة هذا الرجل العظيم وحياته، وقد بدأ اهتمامه بذلك بمحاضرات نشرت في كتيب صغير بعنوان ” دور الرسول الكريم في إرساء الفقه الجنائي الإسلامي”، وقد تم كتابته باللغتين العربية والفرنسية، وقد حرص عندما دعي لإلقاء محاضرة في جامعة السوربون أن يكون موضوعها هذا الكتاب، وكأنه يريد أن يبرز للغرب مدى تفرد القانون الإسلامي وأصالته.
كما قدم الفقيه الكبير كتيباً هاماً عام 1985 عن المدخل للفقه الجنائي الإسلامي، وأوقف أيامه الأخيرة على كتابة كتاب متعمق في الفقه الجنائي الإسلامي، وتوفي إلى رحاب الله تعالى قبل أن يكمله، وقامت من بعد ذلك رفيقة حياته المرحومة الجليلة الدكتورة فوزية عبد الستار بطبع الكتاب بعد وفاته وأوضحت في المقدمة أسباب نشرها للكتاب وقالت ما نصه ” أنني أردت أن أحقق حلماً نبيلاً للعالم الجليل الذي شاء لي االله أن أشاركه الحياة، وأن أرقب عن كثب مدى شغفه بالبحث العلمي ومدى مثابرته عليه، ومدى دقته في استقاء المعلومة من جذورها. والذي وفقه الله إلى أن ينتج لنا وللأجيال القادمة رصيداً ضخماً من المؤلفات القانونية تزخر به وتفخر المكتبة الجنائية العربية . فقد كان في السنوات العشر الأخيرة السابقة على رحيله يراوده أمل براق في أن يتوج إنتاجه العلمي الكبير بمؤلف في الفقه الجنائي الإسلامي، وعكف على البحث في هذا الموضوع – في صمت – سنوات طويلة، كتب خلالها في موضوع الفقه الجنائي الإسلامي أغلبه”.
هذه نظرة عامة على مجمل كتابات الراحل الجليل، ويلاحظ أن له مؤلفات وأبحاث أخرى باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية، كما يلاحظ حرصه الشديد على ترجمة ماكتبه عن الفقه الجنائي الإسلامي لهذه اللغات الثلاث.
لقد حاولت في كل السطور السابقة أن أكتب بعضا مما يتعلق بسيرة الفقيه العظيم وأعماله، والحق أن هناك كلام كثير ينبغي أن يقال، وكتباً وأبحاثاً ينبغي أن تعرض له، لكن صفحات الفيس بوك لا تتسع لكل ذلك لا سيما وأننا نلحظ عزوف القراء عن المنشورات الطويلة الجادة.
لكن ينبغي أن يكون قد تبين من كل ما كتبته لماذا قلت بأن نجيب حسني هو خارج أي مقارنة، وهو يقف على قمة الفقه الجنائي وبعده بخطوات يقف بقية الفقهاء، أنا أعلم أن كلامي هذا سوف يغضب البعض ممن نكن لهم الحب والتقدير، لكن الولاء للحقيقة العلمية أفضل بكثير من الولاء للحب.
رحم الله العالم الجليل الدكتور نجيب حسني وجعل علمه النافع شفيعاً له في يوم المشهد العظيم.