دور المحكمة الدستورية العليا في المجالين القانوني والسياسي

 

بقلم: الروبي جمعة

لا غرو ونحن نطالع الإرث الدستوري الباذخ الذي أرست بنيانه المحكمة الدستورية العليا خاصة في ابراز مبدأ سيادة القانون باعتباره فرض عين على الدولة العصرية وفي تشكيل حاضنة قضائية دستورية مرموقة لنظرية حقوق وحريات الأفراد وتطويرها بشكل مذهل فاق في وتيرته مسيرة المحكمة العليا الأمريكية التي تعد أسطورة في بابها ناهيك عن مثيلاتها في الدول المتطورة فلها فضل السبق في ابتكار أساليب قانونية غاية في التطور توصلا لتقييد سلطة المشرع وتحجيمها بل والاستطالة عليها خاصة في ميدان الحريات.

ومن ثم يجب أن نعود إلى منابت الفكرة المبكرة في النظام القانوني المصري وكيفية نشوئها وتطورها في تربة لم تكن مهيئة أصلا لكي تنمو فيها أفكارا كتلك التي مهدت طريقا لم يكن معبدا من قبل على ضوء المذهب التي استقت منه التشريعات المصرية معينها الأول وهي بصدد الأخذ بالمصادر الحديثة في فلسفتها التشريعية هذه الفلسفة التي اتخذت من ينبوع الثقافة اللاتينية مصدرا لها منذ بزوغ فجر النهضة الحديثة واعتماد نابليون فرنسا مدونه شيشيرون كمرجع للقانون الطبيعي في النسيج الفرنسي النهضوي.

وللتفسير الخاص لمبدئي سيادة الأمة والفصل بين السلطات لم تعرف فرنسا فكرة الرقابة اللاحقة للعمل التشريعي واقعدها هذا التفسير عن السعي إلى إنشاء محكمة دستورية لها سلطان مراقبة القوانين وإلغائها واكتفت بتجربة المجلس الدستوري صاحب الأيد القاصرة عن ممارسة تجربة الرقابة القضائية اللاحقة كإحدى ضمانات الحرية الفردية أسمى ما بشرت به الثورة الفرنسية العظيمة، وهو ما لم تكتف به مصر رغم وحدة النسق القانوني والدستوري في خطوطه العريضة بيد أننا يمكننا أن نرجع الموقف الفرنسي الرافض لفكرة الرقابة القضائية اللاحقة على أعمال السلطة التشريعية إلى عوامل تاريخية خاصه بها وسوف نتعرض لها في المبحث الأول.

منذ بدأت مصر الحديثة تشب على قدميها في مطلع القرن الماضي وهي تضع نصب عينيها الإرث التشريعي الغربي ذي النزعة اللاتينية الذي تشربت فرنسا معالمه الرئيسية من مصادر شتى لكنها شكلت في النهاية كتلة متناسقة ومرنه وقادرة على التطور الحثيث متي تأتي لها هذا وهو ما اغتنمته مصر لظروف تتعلق بواقعها السياسي والاجتماعي والقضائي وكان إيذانا ببزوغ فجر الرقابة القضائية اللاحقة من بابها الوسيع.

وإذا كانت الثقافة الاسلامية في مجملها لم تلفظ هذا المنحى التشريعي الذي استشرى في البنيان القانوني المصري رغم مصدره الغربي وبالتحديد الفرنسي اللاتيني رغم الحساسية المفرطة التي تنتظم المشاعر الاسلامية ذات النزعة الفقهية المذهبية والتي كان يحمل الأزهر مفاتحها، فذلك مرجعه إلى الآباء الأولين الذين كان لهم فضل الاستعارة المبدعة التي حالت دون وقوع صدام لم يكن مؤتمن في ظل النسق القانوني الذي اعتمدته البلاد طول قرون ولا يمكن انكار دور الفقه القانوني الذي ضمن مباحثه المبكرة المقارنات الهامة والتي شكلت في مجملها مزاج وسمة الحالة التشريعية المصرية والتي أفضت إلى خليط بين الميراث المذهبي الاسلامي وبين الثقافة القانونية الغربية وكلاهما يرتكن إلى أساس فكري وفلسفي أصيل.

ومن حسن الحظ أن الفقه الإسلامي لم يكن خالي الوفاض من معالم الفكرة التي تسوغ اخضاع أوامر الخليفة أو الحاكم ذات الصفة التشريعية لقانون أعلى وفق نظرية تدرج النصوص واختلاف مرتبتها وهو الفكر الذي نجد ملامحه عند المعتزلة وفي رسائل إخوان الصفا ومن سار على منهجهم العقلي ومذهبهم في الإصلاح السياسي، فكان لزاما بعد ذلك أن تتهيئي الظروف وأن تصلح التربة لنبتها الجديد وزرعها المثمر.

ولعل هذه النقلة الجبارة تعد من القفزات التي اعادت صياغة مصر بالمفهوم العصري واسبغت عليها صفة جديدة يمكن أن نسميها مصر القانونية وهذه الصفة كانت أسرع وسائل التطور الاجتماعي التي واكبت عصر التنوير وكانت إشارة عليه.

وإن كان لهذه الصفة الجديدة التي اكتسبتها مصر بعبقرية فريدة يعود فضلها إلى البعثات المبكرة إلى أوروبا والتي بدأت في عصر محمد علي الكبير مؤسس مصر الحديثة والتي كانت استجابة لرغبة حقيقية في الاغتراف من معين الفكر الإنساني وتمصيره لكي يصبح العماد في إدارة العلاقات بين الأفراد وبعضهم البعض وبين الدولة العصرية وهو ما أشار إليه الكاتب شكيب أرسلان في كتابه المعنون النهضة العربية في العصر الحاضر والذي يصف فيه محمد علي بأنه أول من لاحظ الخطر المحدق بالشرق نتيجة الجمود فأوفد البعثات إلى أوروبا والتي حملت مشاعل التنوير ليس في مصر فقط بل في الشرق بأثره.

المبحث الأول: نشأة فكرة الرقابة على دستورية القوانين وتطورها

كما يقرر الدكتور محمد عبدالحميد أبوزيد في مؤلفه سيادة الدستور وضمان تطبيقه دراسة مقارنه طبعة 1989م دار النهضة العربية بأن النقاش كان محتدما بين الفقهاء الفرنسيين إزاء صمت الدستور عن مدى اعتناق فكرة القضاء لدستورية القوانين وهو الكلام الذي أشار إليه كوكبة من الشراح المصريين وفي طليعتهم الدكتور كمال أبو المجد في رسالته الشهيرة والتي نال بها درجة الدكتوراه وموضوعها الرقابة على دستورية القوانين والدكتور ثروت بدوي في مؤلفه العمدة في بابه والمعنون بالقانون الدستوري عام 1982م وأيضا الدكتور عثمان خليل في المبادئ الدستورية العامة 1943م والدكتور يحيى الجمل وكامل ليلة وثروت بدوي …إلخ.

ولقد سجل هؤلاء الشراح العظام باكورة الصراع الفقهي منذ بزوغ فجره وكان لهم فضل التبشير بميلاد فجر القضاء الدستوري في مصر ولقد بدأت كتاباتهم  تشير إلى الانقسام الفقهي الفرنسي بين أكثر من رأي كانت الغلبة فيها للرأي الذي يحظر علي المحاكم التصدي لدستورية القوانين منتصرا لدستور 1791م الذي نص في مادته الثالثة علي حظر تدخل المحاكم في أعمال السلطة التشريعية ورغم سقوط هذا الدستور في فرنسا منذ آمد بعيد إلا أن هذا القيد ظل ساريا فيما بعد بل أن قانون العقوبات الفرنسي يعاقب القضاة الذين يتدخلون في أعمال السلطة التسريعية ولعل هذه النزعة الفرنسية ترجع إلى سوابق تاريخية، فضلا عن انحياز بعض قضاة المحكمة العليا إلى الرأي العام مثل القاضي ستون والذي انشق علي المحكمة ولم يؤازرها فيما ذهبت إليه وقضت به وذلك  بوضع حد لنشاطها المتسلط كما أشار الدكتور محمد عبدالحميد أبو زيد في مؤلفه سيادة الدستور وضمان تطبيقه دراسة مقارنة طبعة دار النهضة 1989م صــــ 166.

أما في مصر فقد طرحت مسألة رقابة القضاء لدستورية القوانين على المستويين الفقهي والقضائي كما أسلفنا بفارق زمني كبير عن المستوي التشريعي فبجانب التأييد الفقهي المبكر لحق المحاكم في الرقابة على دستورية القوانين التي تطرح عليها وذلك بالامتناع عن تطبيقها في النزعة المعروضة عليها دون التعرض للقانون ذاته او القضاء ببطلانه و لقد اشار المستشار برنتون رئيس الاستئناف المختلط في محاضرة ألقاها عام 1920م بعنوان مهمة السلطة القضائية في المسائل الدستورية بالولايات المتحدة ومصر وقد أثار هذا البحث جدلا فقهيا واسعا انتصر فيه أصحاب الرأي المؤيد للرقابة على القوانين على سند من القول بأن هذه الرقابة من صميم عمل القاضي وتأكيد لمبدأ سمو الدستور علي ما عداه من التشريعات والقوانين ولقد شرعت المحاكم المصرية في السعي الحثيث نحو إعمال هذا المبدأ وكانت محكمة جنايات الاسكندرية أول محكمة أثير أمامها مسألة الدستورية عام 1924م في الدعوى العمومية ضد محمود حسن العرابي وانطوان مارون وآخرين بتهمة نشر أفكارا ثورية بغرض تغيير الأنظمة الأساسية للهيئة الاجتماعية وقد طعن على حكم المحكمة القاضي بالسجن بمقتضي المادة 101 فقرة 2/3  باعتبار المادة المذكورة مقيدة لحرية الرأي المكفولة بنص المادة 14 من دستور 1923م.

ومرة أخرى أثار المحامون هذا الدفاع أمام محكمة تلا الجزئية عام 1926م بعد قيام حكومة زيور باشا بتعديل قانون الانتخابات فرفض بعض العمد استلام دفاتر الانتخاب وأضربوا عن العمل فقدمتهم النيابة للمحاكمة بتهمة الامتناع عن تنفيذ الأوامر الصادرة اليهم من رؤسائهم وقد قضي عليهم بعقوبة الغرامة رغم ما أثاره دفاعه بمخالفة مواد الاتهام للدستور  وإن كانت المحكمة قد نوهت في حيثياتها إلى الدفاع مؤكدة على حقها في الرقابة على دستورية القوانين حسبما انتهي رأي الغالبية من الفقهاء  ويعد هذا الحكم باكورة الأحكام التي اعترفت بهذا الحق ثم تلاه حكم محكمة مصر الأهلية الصادر أول مايو سنة 1941م فقد قررت فيه بصراحة ووضوح لا لبس فيهما على حق المحاكم في ممارسة الرقابة بالامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور على سند من القول بأن القاضي ملزم بإيجاد الحل القانوني للمنازعات المعروضة عليه وهو مقيد في ذلك بالقوانين العادية كما أنه مقيد بالدستور باعتباره الأسمى فإذا وقع تعارض بينهما وجب ترجيح الدستور كما أن هذه الرقابة هي نتيجة حتمية لمبدأ فصل السلطات  ورغم أن هذا الحكم قد ألغى أمام محكمة الاستئناف عندما طعن عليه إلا أنه يظل علامة فارقة في هذا الطريق.

ثم تلا ذاك وهذا حكم النقض في 7 فبراير عام 1957 فقد قطعت المحكمة ترددها وأخذت بمبدأ الرقابة بالامتناع وهي بصدد نص في قانون الاجراءات يصادم مبدأ عدم الرجعية التي تضمنه دستور 1923م.

غير أن العلامة الفاصلة ونقطة التحول الحقيقي في موقف المحاكم المصرية بالنسبة لهذه المسألة كان في القضية رقم 65لسنة 1ق الصادر من محكمة القضاء الاداري وكانت حجج وبراهين المحكمة تدور حول خلو القانون من ما يمنع المحاكم من الرقابة وأن دور المحاكم في الترجيح بين القواعد القانونية يلزمها الأسمى منها إذا وقع الخلاف ويستتبع ذلك أنه إذا نشب خلاف أو تعارض قانون عادي مع الدستور وجب تطبيق الدستور.

رقابة دستورية القوانين على المستوي التشريعي في مصر

لم ترد نصوص في الدساتير المصرية المتعاقبة ابتداء من دستور 1923م  تسمح للمحاكم أو تمنعها من ممارسة هذا النوع من الرقابة.

زر الذهاب إلى الأعلى