حول «الأنا» ما بداخلها وما حولها (5)
من تراب الطريق (1040)
حول «الأنا» ما بداخلها وما حولها (5)
نشر بجريدة المال الاثنين 15/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الفطانة موجودة في أعمال الآدميين.. باستثناء الأطفال والمجانين.. تتزايد وتتناقص
بلا حدود معروفة ثابتة.. لدى كل منا نصيبه منها.. يتزايد النصيب كلما اتسع رصيد عقل الآدمي من تغذية محيطه ومن توقد ذكائه وحقيقة فطرته.
والاكتشافات البشرية كلها فطن.. وهي في زماننا عديدة جدًّا، والكثير منها قصير العمر لكثرة المحترفين المتكالبين على الاكتشافات الحقيقية أو الموهومة المدعاة، ولإغراق الفطانة الصادقة بالادعاءات في كل مكان في زماننا، ورسوخ اختلاط أمرها على الناس من حيث الصدق والكذب والجد والوهم والذمة والخبث.. هانت قيمة الفطانة، ولم يعد إعلان أمرها الذي لا يكاد ينقطع في الصحف والقنوات والإذاعات ـ لم يعد يهز أو يلفت الأنظار.. إذ لم يتحقق للفطانة بالفعل خط ثابت واضح صحيح الأساس صادق التفرعات ونتائجها وتطبيقاتها.. خط تستند إليه لغة العامة والخاصة معًا. وهكذا اختلط الفساد بفطانة البشر كما اختلط قبل ذلك بذممهم.. إذ كل من الذمة والفطانة قد كتب عليه الانحصار والضيق.. في أعيننا وفي قلوبنا وعقولنا، فاندس في أرضنا من أجل التوسعة والتنفيس والاقتصار والاحتكار ـــ الكذب والخداع والغش.. يسترها الادعاء والصفاقة والإصرار ما استطاع أي منها !.. فمعظم الناس مساكين جانون ــ صادقون كاذبون واعون ضالون خائفون طاغون.. وهذا المزج لا أول له ولا آخر في نسبه ومكانه وزمانه وظروفه وأحواله.. في داخل كل آدمي وخارجه.. فينا حتى الآن الأغلبية السطحية التي تعيش يومها حسنا في نظرها أو غير حسن، ثم تختفي لحلول غيرها محلها !.. وفينا البعض المتحيز معظم الوقت بينه وبين نفسه، لأنه قلق بطبعه، وهو المتأخر المتقدم بآماله وأحيانًا كثيرة بأحلامه.. يشعر بيقظته هو وبفطنته وبأمله في أن
يتغير ويغير غيره معه إلى ما يظن أنه بادٍ قريب في الأفق.. وغالبًا ما يكون بعيدًا !..
هكذا تحرك دنيانا ـــ دون أن نشعر ـــ دوافعنا الداخلية والخارجية إلى الأمام أو إلى الخلف دون أن تحسب ما عسى أن نكون نحن قد حسبناه !
هذا علمًا بأننا كلنا لا نهتم بكثرة الأجيال البشرية المتزايد باستمرار، ولا بتزاحم الأجيال من الأحياء في كل أسرة مع تعاقب الإخوة والأبناء وتقابل الجدود مع الآباء وانحناء الآباء على الأحفاد، وكل أولئك يلتفت أولاً إلى نفسه ثم إلى عقبه ثم إلى أبيه.. مع تكرار مثل ذلك في الفروع هبوطًا إلى الحفيد وصعودًا إلى الجد.. كل يدور على ( أناه ) هو!.. مهما ظن أنه يؤثر عقبه على نفسه أو فضل أبويه عليه! إذ كل جيل يمثل دون أن يشعر زمنًا مختلفًا عن زمن من سبقه وزمن من جاء بعده.. ومهما اشتدت القرابات يستحيل أن تلغى اختلاف الأزمنة ومعها الظروف في حياة الآدميين.. هذه الحياة التي لا يعيشها كل آدمي مهما امتدت إلاّ بقدر ما قدر له هو !
والظنون غير المحققة أي التصورات السائدة حسب كل زمان ومكان على الأرض، لا أول لها ولا آخر.. تحتاج إليها الخلايا الفارغة من الامتلاء في الوعي القلق لكل منا ـــ لسداد هذا الفراغ المتجدد دائمًا ـــ لأن الآدمي إلى اليوم عاش في عقبات الأرض ومكافحتها إلى أن ينتهي مكتفيًا أو غير مكتفٍ بما ذلـله منها، ولم يقابل فيها السلس المستقيم المقنع الشافي.. وللخالق سبحانه في ذلك حكمته.
والعقبات المادية التي ذللها البشر حتى الآن لا تحصى في نظرنا، لكنها أفسدت داخلنا أعنى داخل كل منا.. تمامًا فلم نعد نرى إلاّ ما كشفناه وابتكرناه وأحدثناه، ولم نعد نقدر ونعتز إلاّ بما أقمناه وبسطناه ونظمناه ووصلناه وفضلناه، ولم نعد نقوم ونقعد ونجري ونهدأ إلاّ في اتساع البر والبحر والجو.. لا نبالي إلاّ بالزيادة فيما معنا، أو بالحقد على من فاز وتمتع وهم محدودون أنانيون طاغون خائفون زائلون حتمًا! إذ الاحتمالات الماضية والحاضرة يغيرها المستقبل في حياة كل منا دون توقف إلى أن نموت.