حماية ضحايا الجرائم الجنسية

 بقلم: الدكتور أشرف نجيب الدريني

هل تكفي أقصى العقوبات لتحقيق العدالة في الجرائم الجنسية؟ وهل يمكن للمجني عليهم أن ينهضوا من تحت ركام الألم لمجرد أن القضاء أدان الجاني؟ بل، هل يُعقل أن تكتمل أركان العدالة بينما تظل ندوب الضحية النفسية موصومة بالصمت المجتمعي والوصم الاجتماعي؟ هذه الأسئلة، وغيرها، تفرض نفسها بإلحاح في مواجهة واحدة من أكثر الجرائم تعقيدًا في أثرها وأعمقها جرحًا في النفس الإنسانية: الجريمة الجنسية.

إن الجريمة الجنسية، بخلاف كثير من الجرائم الأخرى، لا تنتهي بانتهاء الفعل المادي، وإنما تُحدث شقًا غائرًا في وجدان الضحية، يصعب رتقه بعقوبة وحدها. قد يُدان الجاني وقد يُنفذ في حقه أقسى العقوبات، ولكن العدالة لا تُختزل في القصاص، بل تُستكمل بحماية الضحية وإعادة تأهيلها نفسيًا وسلوكيًا واجتماعيًا. فالضحية لا تعاني فقط من فعل الاعتداء، بل تعيش في ظله، وتُرهقها تداعياته اليومية في بيئة قد لا تعترف بجرحها، بل تُحمّلها عبئه، وتعيد إيذاءها بنظرات الشك، وعبارات الإدانة، وأحيانًا بالصمت.

ويزداد الأمر تعقيدًا حين يكون المجني عليه طفلًا، لا يملك من أدوات المواجهة شيئًا، ويُترك لذكريات لا ترحم، وأسرة مفجوعة لا تدري كيف تحميه من نظرات الآخرين، ولا كيف تعيده إلى حياة طبيعية وسط مجتمع لا ينسى، ولا يغفر. والمفارقة الأليمة أن بعض المجتمعات، بحكم الأعراف والوصم، تفضل التستر على الجريمة، خشية الفضيحة، فيظل الطفل أو الفتاة رهينة لصمت مُدمر، ويضيع الحق، ويُترك الجاني طليقًا، وقد يُكرر جريمته.

ولا أبالغ إذا قلت إن الكثير من حالات “الرقم الأسود” في عالم الجريمة – أي تلك الجرائم التي لا تُبلغ للسلطات – هي من هذا النوع؛ جرائم تمس العرض والشرف، يتغاضى المجتمع عنها، أو يُحجم الضحايا عن الإبلاغ بها، خشية الوصم أو تفكك الأسرة أو انهيار السمعة، فيُضاف إلى الجريمة جريمة أخرى، هي الإنكار والتجاهل.

من هنا، تبرز الحاجة الماسة إلى حماية تشريعية شاملة للضحايا، حماية لا تقتصر على الإجراءات الجنائية، بل تمتد إلى ما بعد المحاكمة. يجب أن يُدرج في منظومة العدالة الجنائية حق الضحية في العلاج النفسي المجاني، وتأهيلها في بيئة تراعي خصوصية الجرح، وتكفل سرية التعامل، مع توفير دعم قانوني واجتماعي متكامل. بل يجب التفكير في آليات أكثر حساسية تسمح بالإبلاغ دون خوف، وتضمن سرعة التحقيق في أجواء آمنة، وتُجنّب الضحية مواجهة مؤلمة مع الجاني.

كما يتعين على التشريعات الحديثة أن تُقر بحق الضحايا في عدم إعادة السرد المتكرر للتجربة في التحقيقات والمحاكمات، وأن تُدرج ضوابط إعلامية صارمة تحظر نشر ما قد يُفضي إلى كشف هوية المجني عليهم. ويجب أن تمتد الحماية لتشمل أسر الضحايا، لأن الألم يتسع ولا يتوقف عند الفرد، والمجتمع نفسه عليه واجب أخلاقي وتربوي في كسر ثقافة الصمت، وتجاوز خطاب الفضيحة إلى خطاب التضامن والوعي.

إن العدالة الحقة لا تكون بالردع فقط، بل بالرعاية، ولا تكتمل بإغلاق ملف القضية، بل بفتح ملف الدعم والاحتواء والتأهيل. وحين ننجح في جعل الضحية ترى في القانون حليفًا لا عبئًا، وفي المجتمع ملاذًا لا خطرًا، نكون قد اقتربنا من جوهر العدالة، لا في صورتها، بل في حقيقتها. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى