حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٤٥ لسنة ١٧ دستورية
حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٤٥ لسنة ١٧ دستورية
– – – ١ – – –
إن النص المطعون فيه ، تقرر أصلاً توقياً لهجر العائلة ، ولدعم الأواصر بين أفرادها ، فلا يمزقها الصراع ، ولا يهيمن عليها التباغض ، بل يكون التراحم بينهم . موطئاً لتعاونهم وفق القيم والتقاليد التى يمليها التضامن الاجتماعى ، فلا يتناحرون . ومن ثم كان هجر العائلة جريمة معاقباً عليها فى كثير من الدول المتحضرة ، لأنها تعنى التخلى عنها والامتناع عن الإنفاق عليها ، وتعريضها للضياع ، تقديراً بأن السلطة الأبوية التى يباشرها أصحابها على بنيهم لا تتمحض عن حقوق ، بل تقارنها واجباتهم التى لا يملكون التنصل منها ، وإلا وجب حملهم عليها بالجزاء الجنائى ، لا يتخلصون منه إلا بعودتهم إلى العائلة التى هجروها ، ومواصلتهم الحياة معها ، على أن تدل قرائن الحال على أن عودتهم إليها ، ليس ملحوظاً فيها أن تكون إجراء موقوتاً أو مرحلياً ، بل واشية بإرادة بقائهم فى محيطها ، إستئنافاً للحياة العائلية بين أفرادها .
– – – ٢ – – –
إن قضاء هذه المحكمة قد جرى ، على أنه وإن صح القول بأن علاقة الشخص بذوى قرباه ــ من غير أبنائه ــ تقوم فى جوهرها على مجرد الصلة ــ ولو لم تكن صلة محرمية ــ إلا أن الولد بعض أبيه ، أو هو جزؤه الذى لا ينفصل عنه ، وإليه ويكون منتسباً ، فلا يلحق بغيره . وهذه الجزئية أو البعضية مرجعها إلى الولادة ، وليس ثمة نفع يقابلها ليكون فيها معنى العوض . ومن ثم كان إختصاص الوالد دون غيره بالانفاق على عياله ثابتاً لا جدال فيه ، بل إدرار النفقة عليهم وبقدر كفايتهم ، أكفل لحياتهم وأحفظ لأعراضهم وعقولهم ، وهو كذلك أدخل إلى تربيتهم وتقويم إعوجاجهم بما يردهم دوماً إلى قيم الدين وتعاليمه . حمل الوالد على إيفاء النفقة التى حجبها ــ عناداً أو إهمالاً ــ عن أولاده ، هو إلزام بما هو لازم بعد أن منعهم منها دون حق ، وأهدر أصل وجوبها لأولاده المحتاجين بها . ومقابلة ظلم الوالد بالعدل ليس إعناتاً منطوياً على التضييق عليه ، بل حقاً مطلوباً ديانة ، و واجباً تقتضيه الضرورة ، محققاً لمصالح لها إعتبارها . كذلك فإن تقرير النفقة وفرضها من خلال حكم قضائى ، ليس سرفاً ، ذلك أن الوالد وإن علاً لا يحبس فى دين لولده وإن سفل ، إلا فى النفقة ، لأن الامتناع عنها مع وجوبها ضياع لنفس مستحقها ، مؤد إلى إتلافها .
– – – ٣ – – –
من المقرر كذلك شرعاً أن نفقة الزوجة تقابل إحتباسها لحق زوجها عليها ، وإمكان إستمتاعه بها إستيفاء للمعقود عليه ، وعملاً بقاعدة كلية مفادها أن من كان محبوساً بحق مقصود لغيره ، كانت نفقته عليه وقصر المرأة على زوجها ، يعنى أن منافعها التى أذن الله تعالى بها ، تعود إليه وحده . ومن ثم كان رزقها وكسوتها ، متطلباً معروفاً بعد أن أخذها زوجها وإستحلها بكلمة الله تعالى بها ، وهو ما تنص عليه المادة الأولى من المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٠ الخاص ببعض أحكام النفقة ومسائل الأحوال الشخصية بعد تعديلها بالقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥ بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية ، من أن نفقة الزوجة على زوجها تجب من تاريخ العقد الصحيح بتسليمها نفسها إليه ولو حكما ، حتى لو كانت موسرة أو مختلفة معه فى الدين ، على أن تشمل غذاءها وكسوتها وسكنها ,اجر علاجها ، وغير ذلك مما يقضى به الشرع .
– – – ٤ – – –
من المقرر كذلك شرعاً أن نفقة الزوجة تقابل إحتباسها لحق زوجها عليها ، وإمكان إستمتاعه بها إستيفاء للمعقود عليه ، وعملاً بقاعدة كلية مفادها أن من كان محبوساً بحق مقصود لغيره ، كانت نفقته عليه وقصر المرأة على زوجها ، يعنى أن منافعها التى أذن الله تعالى بها ، تعود إليه وحده . ومن ثم كان رزقها وكسوتها ، متطلباً معروفاً بعد أن أخذها زوجها وإستحلها بكلمة الله تعالى بها ، وهو ما تنص عليه المادة الأولى من المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٠ الخاص ببعض أحكام النفقة ومسائل الأحوال الشخصية بعد تعديلها بالقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥ بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية ، من أن نفقة الزوجة على زوجها تجب من تاريخ العقد الصحيح بتسليمها نفسها إليه ولو حكما ، حتى لو كانت موسرة أو مختلفة معه فى الدين ، على أن تشمل غذاءها وكسوتها وسكنها ,اجر علاجها ، وغير ذلك مما يقضى به الشرع .
– – – ٥ – – –
إن قضاء هذه المحكمة مطرد على أن حكم المادة الثانية من الدستور ــ بعد تعديلها فى ٢٢ مايو ١٩٨٠ ــ يدل على أن الدستور ــ وإعتباراً من تاريخ العمل بهذا التعديل ــ قد أتى بقيد على السلطة التشريعية مؤداها تقيدها ــ فيما تقره من النصوص القانونية ــ بمراعاة الأصول الكلية للشريعة الإسلامية ، إذا هى جوهر بنيانها وركيزتها ، وقد إعتبرها الدستور أصلاً ينبغى أن ترد إليه هذه النصوص ، فلا تتنافر مع مبادئها المقطوع بثبوتها ودلالتها ، وإن لم يكن لازماً إستمداد تلك النصوص مباشرة منها ، بل يكفيها ألا تعارضها ، ودون ما إخلال بالقيود الأخرى التى فرضها الدستور على السلطة التشريعية فى ممارستها لاختصاصاتها الدستورية . ومن ثم لا تمتد الرقابة على الشرعية الدستورية التى تباشرها هذه المحكمة ــ فى مجال تطبيقها للمادة الثانية من الدستور ــ لغير النصوص القانونية الصادرة بعد تعديلها . ولا كذلك نص المادة ٢٩٣ من قانون العقوبات المطعون عليها ، إذ أصدرها المشرع قبل نفاذ التعديل الصادر فى شأن المادة الثانية من الدستور فى ٢٢ مايو ١٩٨٠ . وقد ظل حكم النص المطعون عليه قائماً دون تعديل لفحواه بعد هذا التاريخ ، فلا تمتد إليه بالتالى الرقابة التى تباشرها المحكمة فى شأن الشرعية الدستورية .
– – – ٦ – – –
جواز حمل المدين بالنفقة ــ سواء كان مستحقها زوجته أو أولاده ــ وإقتضائها من الملتزم بها جبراً ــ ولو بطريق الإكراه البدنى ــ هو ما تقرر بقضاء المحكمة العليا فى الدعوى رقم ١ لسنة ٥ قضائية عليا ” دستورية ” الصادر فى ٢٩ من يونية ١٩٧٤ بمناسبة فصلها فى دستورية نص المادة ٣٤٧ من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية ، وكان ما خلص إليه قضاؤها من إتفاقها مع الدستور ، يعتبر قولاً فصلاً لا يقبل تعقيباً من أحد ــ على ما جرى به قضاء المحكمة الدستورية العليا ــ فإن الخوض من جديد فى جواز حبس المحكوم عليه بالنفقة ــ إذا إمتنع عن أدائها بعد أن أمر بدفعها وكان قادراً على إيفائها ــ يكون لغواً .
– – – ٧ – – –
النعى بمخالفة نص المادة ٢٩٣ من قانون العقوبات للمادة ٩ من الدستور مردود بأن ما سعى إليه النص المطعون فيه ، ليس إلا توثيقاً لروابط الأسرة ، وأكفل لاتصال أفرادها ببعض ، ودعم وشائجهم ، وهو كذلك ضمان لوحدتها وتماسكها لا يناقض جوهر بنيانها ، بل يرسيها على الدين الحق والخلق القويم ، إعلاء لفضائلها ، فلا يكون أفرادها بعضهم لبعض خصيماً ، بل عوناً ونصيراً . وكلما كان المدين ممتنعاً مطلاً أو إعناتاً عن الإنفاق على أولاده وزوجه ، كان هادماً لصلة حرم الله قطعها ، فلا يقوم بكفايتهم ، بل يرهقهم من أمرهم عسراً . فإذا ما حمل على إيفائهم نفقتهم التى يستحقونها ، ولو بالحبس ، كان ذلك جزاءً وفاقاً .
– – – ٨ – – –
اللجوء لنص المادة ٢٩٣ من قانون العقوبات ــ المطعون عليها ــ يفترض إستنفاد التدابير التى حددتها المادة ٣٤٧ من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية لتحصيل النفقة المحكوم بها ، وأن من يستحقونها قد تضرروا من إستمرار إمتناع المدين بالنفقة عن دفعها مدة ثلاثة أشهر بعد التنبيه عليه بإيفائها ، مما حملهم على أن يتقدموا ضده بشكواهم إستنهاضاً لنص المادة ٢٩٣ المطعون عليها التى لا تربطها بالمادة ٣٤٧ من اللائحة واقعة واحدة يقوم بها جزاء الحبس ، بل يفترض إعمال النص المطعون فيه ، أن المدين بالنفقة لا زال مماطلاً حتى بعد أن حبس وفقاً لتلك اللائحة ، وأن الامتناع عن دفعها لازال بالتالى ممتداً من حيث الزمان ، بما مؤداه أن وقائع الامتناع ــ مع تعددها ــ لا تشكل مشروعاً إجرامياً واحداً ، بل يكون لكل منها ذاتيتها باعتبارها وقائع منفصلة عن بعضها البعض ، وإن كان هدفها واحداً ممثلاً فى إتجاه إرادة المدين بالنفقة إلى النكول عن أدائها .
– – – ٩ – – –
عدم جواز فرض أكثر من عقوبة على فعل واحد ، يفترض تتابعها وإستيفاء كل منها بكامله . ولا كذلك النص المطعون فيه ، ذلك أن مدة الإكراه البدنى التى تم تنفيذها فى حق المدين وفقاً لنص المادة ٣٤٧ من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية ، يجب إستنزالها من مدة الحبس المحكوم بها وفقاً للنص المطعون فيه . فإذا كان قد حكم عليه بغرامة ، جرى خفضها عند التنفيذ بمقدار عشرة قروش عن كل يوم من أيام الإكراه البدنى الذى سبق إنفاذه فيه .
– – – ١٠ – – –
ضمان الحرية الشخصية لا يعنى غل يد المشرع عن التدخل لتنظيمها ، ذلك أن صون الحرية الشخصية يفترض بالضرورة إمكان مباشرتها دون قيود جائرة تعطلها أو تحد منها ، وليس إسباغ حصانة عليها تعفيها من تلك القيود التى تقتضيها مصالح الجماعة ، وتسوغها ضوابط حركتها .
– – – ١١ – – –
القانون الجنائى وإن إتفق مع غيره من القوانين فى سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض ، وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم ، إلا أن هذا القانون يفارقها فى إتخاذه الجزاء الجنائى أداة لحملهم على إتيان الأفعال التى يأمرهم بها أو التخلى عن تلك التى يدعوهم لاجتذابها ، وهو بذلك يتغيا أن يحدد ــ ومن منظور إجتماعى ــ ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم ، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبرراً إلا إذا كان مفيداً من وجهة إجتماعية ، فإذا كان مجاوزاً حدود الدائرة التى ترسم الضرورة تخومها ، غدا مخالفاً للدستور . متى كان ذلك ، وكان النص المطعون فيه يتوخى أن يرتبط عائل الأسرة بها ، فلا يهجرها من خلال الامتناع عن الإنفاق عليها ، وكان التضييق عليه بالحبس يعتبر كافلاً لحقوقها ، فإن تقرير وإيقاع هذا الجزاء ، لا يكون مخالفاً للدستور .
– – – ١٢ – – –
إدعاء مخالفة النص المطعون فيه للمادة ٤٠ من الدستور ، مردود بأن الدخول فى أسرة من خلال تكوينها ، يفترض تحمل أعبائها ، ولا كذلك غير المتزوجين الذين يختلفون مركزاً عن الأولين ــ القول بإهدار النص المطعون فيه لضوابط المحاكمة المنصفة المنصوص عليها فى المادة ٦٧ من الدستور ، مردود بأن هذا النص ــ وفق مضمونه ــ لا يخل بالحق فى إدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة على ضوء مستوياتها فى الدول المتحضرة ، ولا ينتقص من ضماناتها .
– – – المحكمة – – –
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة. حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن السيد ة / سامية إبراهيم عثمان – المدعى عليها السابعة – كانت قد حصلت علي حكم قضائي في الدعوى رقم ٣٠٢ لسنة ١٩٨٨ أحوال شخصية قسم أول المحلة الكبرى الجزئية، باستحقاقها نفقة لها ولصغيريها من المدعى، ثم حصلت علي حكم فى الدعوى رقم ٣٠ لسنة ١٩٩٣ – من ذات المحكمة – بحبس المدعي ثلاثين يوما لامتناعه عن أداء مبلغ ٩٦٠ جنيها من متجمد النفقة المحكوم بها. وقد تم تنفيذ هذا الحكم. وإذ استمر المدعى فى امتناعه عن الوفاء بما في ذمته من النفقة، فقد أقامت ضده بالطريق المباشر الجنحة رقم ٨٥٣٨ لسنة ١٩٩٣ – أمام محكمة جنح قسم أول المحلة الكبرى – بطلب الحكم بمعاقبته بمقتضى المادة ٢٩٣ من قانون العقوبات، وإلزامه بتعويض مؤقت. وقد قضت هذه المحكمة بتاريخ ٦ / ١١ / ١٩٩٣ – وغيابيا – بحبس المدعي ستة أشهر، وبأن يؤدى للمدعية بالحق المدنى مبلغ ٥١ جنيه على سبيل التعويض المؤقت، فعارض فى هذا الحكم، وقضى فى معارضته بإلغاء الحكم المعارض فيه، وبعدم قبول الدعويين الجنائية والمدنية، إلا أن النيابة العامة طعنت على هذا الحكم استئنافيا تحت رقم ٧٨٧٩ لسنة ١٩٩٤، وفيه قضت محكمة جنح مستأنف مأمورية المحلة الكبرى الابتدائية – غيابيا – بإلغاء الحكم المستأنف، وإعادة الدعوى إلي محكمة أول درجة للفصل فيها مجددا بهيئة مغايرة. وإذ دفع المدعي – أثناء نظر الدعوى الموضوعية بعد إعادتها إلي محكمة جنح قسم أول المحلة الكبرى – بعدم دستورية المادة ٢٩٣ من قانون العقوبات، وقدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، فقد أقام الدعوى الماثلة. وحيث إن المدعى ينعى على المادة ٢٩٣ من قانون العقوبات المطعون عليها، مخالفتها لمبادئ الشريعة الإسلامية التى اعتبرتها المادة الثانية من الدستور – بعد تعديلها – المصدر الرئيسى للتشريع ، والتى يعتبر صلاح العباد مرهونا باتباعها، تأسيسا على أن من غير المتصور أن يكون الابن سببا فى حبس أبيه وتقييد حريته. هذا فضلا عن أن الحبس للمرة الثانية وفقا للمادة ٢٩٣ المطعون عليها، يعطل أباه عن العمل طوال مدة احتجازه فى الحبس، وما ينشأ عن ذلك من انقطاع مورد الرزق الذي ينفق منه على الابن . فضلا عن أن النص في المادة ٣٤٧ من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية والإجراءات المتعلقة بها، ثم في المادة ٢٩٣ المطعون عليها، على حبس المدين بالنفقة المحكوم بها، مؤداه اجتماع عقوبتين عن فعل واحد، هو النكول عن أداء النفقة المقضى بها بحكم نافذ مع القدرة علي دفعها. وقد انبنى التجريم المقرر بالنص المطعون عليه على علة صون الروابط العائلية، ولكن تطبيقه يؤدى إلى قطعها. كذلك جاء هذا النص مخالفا الضوابط التى رسمها الدستور فى شأن المحاكمة المنصفة، ومنافيا مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، إذ ينطبق على الرجال المتزوجين دون سواهم، مما يؤدى إلي إحجامهم عن الزواج ، وشيوع الزنا. وحيث إن المادة ٣٤٧ من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية الصادر بها المرسوم بقانون رقم ٧٨ لسنة ١٩٣١، تنص على أنه إذا امتنع المحكوم عليه من تنفيذ الحكم الصادر فى النفقات أو فى أجرة الحضانة أو الرضاعة أو المسكن، ومتى ثبت لديها أن المحكوم عليه قادر علي القيام بما حكم به وأمرته ولم يمتثل، حكمت بحبسه. ولايجوز أن تزيد مدة الحبس عن ثلاثين يوما. أما إذا أدى المحكوم عليه ماحكم به، أو أحضر كفيلا، فإنه يخلى سبيله. وهذا لايمنع من تنفيذ الحكم بالطرق الاعتيادية. وصونا للعائلة من أن تهجر، نصت المادة ٢٩٣ من قانون العقوبات على مايأتى: – “كل من صدر عليه حكم قضائى واجب النفاذ بدفع نفقة لزوجه أو أقاربه أو أصهاره أو أجرة حضانة أو رضاعة أو مسكن، وامتنع عن الدفع مع قدرته عليه مدة ثلاثة شهور بعد التنبيه عليه بالدفع، يعاقب بالحبس مدة لاتزيد علي سنة وبغرامة لاتتجاوز خمسمائة جنيه مصرى أو بإحدى هاتين العقوبتين. ولاترفع الدعوى عليه إلا بناء على شكوى من صاحب الشأن. وإذا رفعت بعد الحكم عليه دعوى ثانية عن هذه الجريمة، فتكون عقوبته الحبس مدة لا تزيد علي سنة. وفى جميع الأحوال إذا أدى المحكوم عليه ما تجمد فى ذمته، أو قدم كفيلا يقبله صاحب الشأن فلا تنفذ العقوبة”. وقد جاء بالمذكرة الإيضاحية لمشروع هذه المادة، “أنها أضيفت للمعاقبة على جريمة هجر العائلة . وهى جريمة تعاقب عليها القوانين الحديثة. وقد أدخلت فى بلجيكا بالقانون الصادر في ١٩ مايو سنة ١٩١٢؛ وفى فرنسا بالقانونين الصادرين فى ٧ فبراير سنة ١٩٢٤ و٣ ابريل سنة ١٩٢٨؛ وفي إيطاليا بقانون العقوبات الصادر فى ١٩ اكتوبر سنة ١٩٣٠، وأن النص الجديد يعاقب كل من صدر عليه حكم قضائى واجب النفاذ بدفع نفقة لزوجه أو أقاربه أو أصهاره أو أجرة حضانة أو رضاعة أو مسكن وامتنع عن الدفع مع قدرته عليه مدة ثلاثة شهور بعد التنبيه عليه بالدفع، وأنه إذ كانت هذه الجريمة ممايمس نظام الأسرة ويؤثر فى الروابط العائلية، فقد رئى تعليق المحاكمة فيها على شكوى صاحب الشأن”. وحيث إنه عملا بنص المادة ٤١ من دستور مصر لعام ١٩٢٣، صدر المرسوم بقانون رقم ٩٢ لسنة ١٩٣٧ فى شأن الإجراءات التى تتخذ وفقا لنص المادة ٢٩٣ من قانون العقوبات، متوخيا فض التداخل بينها وبين المادة ٣٤٧ من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، وذلك بأن حدد لكل منهما مجال تطبيقها، وجهة الاختصاص بإعمال حكمها. ومن ثم كان هذا المرسوم بقانون متصلا بالتنظيم القضائي بعد إلغاء الدول الأجنبية لامتيازاتها في مصر. وفي نطاق هذا التنظيم، وإرساء لقواعده، تضمن هذا المرسوم بقانون مادتين؛ تنص أولاهما على امتناع اللجوء لنص المادة ٢٩٣ من قانون العقوبات، قبل أن يستنفد المحكوم لمصلحته بالنفقة – وفي الأحوال التي يطبق فيها نص المادة ٣٤٧ من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية – الإجراءات المنصوص عليها فيها. وتقضى ثانيتهما بأنه إذا نفذ الإكراه البدني على شخص وفقا لحكم المادة ٣٤٧ من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ثم حكم عليه بسبب الواقعة نفسها بعقوبة الحبس تطبيقا للمادة ٢٩٣ من قانون العقوبات، استنزلت مدة الإكراه البدنى الأولى من مدة الحبس المحكوم به، فإذا حكم عليه بغرامة، تم خفضها عند التنفيذ بمقدار عشرة قروش عن كل يوم من أيام الإكراه البدنى الذى سبق إنفاذه فيه. وحيث إن النص المطعون فيه، تقرر أصلا توقيا لهجر العائلة، ولدعم الأواصر بين أفرادها، فلايمزقها الصراع، ولايهيمن عليها التباغض، بل يكون التراحم بينهم. موطئا لتعاونهم وفق القيم والتقاليد التى يمليها التضامن الاجتماعى، فلا يتناحرون. ومن ثم كان هجر العائلة جريمة معاقبا عليها فى كثير من الدول المتحضرة، لأنها تعنى التخلى عنها والامتناع عن الإنفاق عليها، وتعريضها للضياع، تقديرا بأن السلطة الأبوية التى يباشرها أصحابها على بنيهم لاتتمحض عن حقوق، بل تقارنها واجباتهم التي لايملكون التنصل منها، وإلاوجب حملهم عليها بالجزاء الجنائي، لايتخلصون منه إلا بعودتهم إلى العائلة التى هجروها، ومواصلتهم الحياة معها، على أن تدل قرائن الحال على أن عودتهم إليها، ليس ملحوظا فيها أن تكون إجراء موقوتا مرحليا، بل واشية بإرادة بقائهم فى محيطها، استئنافا للحياة العائلية بين أفرادها . وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى، على أنه وإن صح القول بأن علاقة الشخص بذوى قرباه – من غير أبنائه – تقوم فى جوهرها على مجرد الصلة – ولو لم تكن صلة محرمية – إلا أن الولد بعض أبيه، أو هو جزؤه الذى لاينفصل عنه، وإليه يكون منتسبا، فلايلحق بغيره، وهذه الجزئية أو البعضية مرجعها إلى الولادة، وليس ثمة نفع يقابلها ليكون فيها معنى العوض. ومن ثم كان اختصاص الوالد دون غيره بالإنفاق على عياله ثابتا لاجدال فيه، بل إن إدرار النفقة عليهم وبقدر كفايتهم، أكفل لحياتهم وأحفظ لأعراضهم وعقولهم، وهو كذلك أدخل إلي تربيتهم وتقويم اعوجاجهم بما يردهم دوما إلى قيم الدين وتعاليمه. وحمل الوالد علي إيفاء النفقة التى حجبها – عنادا أو اهمالا – عن أولاده، هو إلزام بما هو لازم بعد أن منعهم منها دون حق، وأهدر أصل وجوبها لأولاده المحتاجين بها. ومقابلة ظلم الوالد بالعدل ليس إعناتا منطويا على التضييق عليه، بل حقا مطلوبا ديانة، وواجبا تقتضيه الضرورة، محققا لمصالح لها اعتبارها. كذلك فإن تقرير النفقة وفرضها من خلال حكم قضائى، ليس سرفا، ذلك أن الوالد وإن علا لايحبس فى دين لولده وإن سفل، إلا فى النفقة، لأن الامتناع عنها مع وجوبها ضياع لنفس مستحقها، مؤد إلى إتلافها. وحيث إن من المقرر كذلك شرعا، أن نفقة الزوجة تقابل احتباسها لحق زوجها عليها، وإمكان استمتاعه بها استيفاء للمعقود عليه، وعملا بقاعدة كلية مفادها أن من كان محبوسا بحق مقصود لغيره، كانت نفقته عليه. وقصر المرأه علي زوجها، يعنى أن منافعها التى أذن الله تعالى بها، تعود إليه وحده. ومن ثم كان رزقها وكسوتها، متطلبا معروفا بعد أن أخذها زوجها واستحلها بكلمة الله، وهو ماتنص عليه المادة الأولى من المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٠ الخاص ببعض أحكام النفقة ومسائل الأحوال الشخصية بعد تعديلها بالقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥ بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية، من أن نفقة الزوجة على زوجها تجب من تاريخ العقد الصحيح بتسليمها نفسها إليه ولوحكما، حتى لوكانت موسرة أو مختلفة معه فى الدين، على أن تشمل غذاءها وكسوتها وسكنها وأجر علاجها، وغير ذلك مما يقضى به الشرع. وحيث إن ما ينعاه المدعي من مخالفة نص المادة ٢٩٣ من قانون العقوبات المطعون عليها للمادة الثانية من الدستور، مردود بأن قضاء هذه المحكمة مطرد على أن حكم هذه المادة – بعد تعديلها فى ٢٢ مايو ١٩٨٠ – يدل على أن الدستور – واعتبارا من تاريخ العمل بهذا التعديل – قد أتى بقيد على السلطة التشريعية مؤداها تَقَيدها – فيما تقره من النصوص القانونية – بمراعاة الأصول الكلية للشريعة الإسلامية، إذ هى جوهر بنيانها وركيزتها، وقد اعتبرها الدستور أصلا ينبغى أن ترد إليه هذه النصوص، فلا تتنافر مع مبادئها المقطوع بثبوتها ودلالتها، وإن لم يكن لازما استمداد تلك النصوص مباشرة منها، بل يكفيها ألا تعارضها، ودون ما إخلال بالقيود الأخرى التى فرضها الدستور على السلطة التشريعية فى ممارستها لاختصاصاتها الدستورية. ومن ثم لاتمتد الرقابة على الشرعية الدستورية التى تباشرها هذه المحكمة – فى مجال تطبيقها للمادة الثانية من الدستور – لغير النصوص القانونية الصادرة بعد تعديلها . ولا كذلك نص المادة ٢٩٣ من قانون العقوبات المطعون عليها، إذ أصدرها المشرع قبل نفاذ التعديل الصادر فى شأن المادة الثانية من الدستور فى ٢٢ مايو ١٩٨٠. وقد ظل حكم النص المطعون عليه قائما دون تعديل لفحواه بعد هذا التاريخ، فلاتمتد إليه بالتالى الرقابة التى تباشرها المحكمة فى شأن الشرعية الدستورية. وحيث إن جواز حمل المدين بالنفقة – سواء كان مستحقها زوجته أو أولاده – واقتضائها من الملتزم بها جبرا – ولو بطريق الإكراه البدنى – هو ماتقرر بقضاء المحكمة العليا فى الدعوى رقم ١ لسنة ٥ قضائية عليا “دستورية” الصادر فى ٢٩ من يونيه ١٩٧٤ بمناسبة فصلها فى دستورية نص المادة ٣٤٧ من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية؛ وكان ماخلص إليه قضاؤها من اتفاقها مع الدستور، يعتبر قولا فصلا لايقبل تعقيبا من أحد – على ماجرى به قضاء المحكمة الدستورية العليا – فإن الخوض من جديد فى جواز حبس المحكوم عليه بالنفقة – إذا امتنع عن أدائها بعد أن أُمر بدفعها وكان قادرا على إيفائها – يكون لغوا. وحيث إن ما ينعاه المدعى من مخالفة النص المطعون فيه للمادة ٩ من الدستور التى تقضى بأن الأسرة قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وأن على الدولة أن تعمل صون طابعها الأصيل – بما يقوم عليه من القيم والتقاليد – مردود، بأن ماسعى إليه النص المطعون فيه، ليس إلا توثيقا لروابط الأسرة، وأكفل لاتصال أفرادها ببعض، ودعم وشائجهم، وهو كذلك ضمان لوحدتها وتماسكها لايناقض جوهر بنيانها، بل يرسيها على الدين الحق والخلق القويم، إعلاء لفضائلها، فلا يكون أفرادها بعضهم لبعض خصيما، بل عونا ونصيرا. وكلما كان المدين ممتنعا مطلا أو إعناتا عن الإنفاق على أولاده وزوجه، كان هادما لصلة حرم الله قطعها، فلا يقوم بكفايتهم، بل يرهقهم من أمرهم عسرا. فإذا ما حمل على إيفائهم نفقتهم التي يستحقونها، ولو بالحبس، كان ذلك جزاءً وفاقا. وحيث إن قضاء هذه المحكمة مطرد على أن استيفاء العقوبة التى فرضها المشرع فى شأن الجريمة، مؤداه أن القصاص من مرتكبها قد اكتمل، فلايجوز أن يلاحق جنائيا أكثر من مرة عن الجريمة ذاتها وإلا ظل قلقا مضطربا، مهددا من الدولة بنزواتها، تمد إليه بأسها حين تريد، ليغدو محاطا بألوان من المعاناة لاقبل له بها، مهدرا لموارده في غير مقتض، متعثر الخطى، بل إن إدانته – ولوكان بريئا – تظل أكثر احتمالا، كلما كان الاتهام الجنائى متتابعا عن الجريمة ذاتها. وما ينعاه المدعى من انطواء النص المطعون فيه على فرض أكثر من عقوبة عن جريمة واحدة، مردود: أولا: بما هو مقرر من أن اللجوء لنص المادة ٢٩٣ من قانون العقوبات – المطعون عليها – يفترض استنفاد التدابير التى حددتها المادة ٣٤٧ من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية لتحصيل النفقة المحكوم بها، وأن من يستحقونها قد تضرروا من استمرار امتناع المدين بالنفقة عن دفعها مدة ثلاثة أشهر بعد التنبيه عليه بإيفائها، مما حملهم على أن يتقدموا ضده بشكواهم استنهاضا لنص المادة ٢٩٣ المطعون عليها التى لاتربطها بالمادة ٣٤٧ من اللائحة واقعة واحدة يقوم بها جزاء الحبس، بل يفترض إعمال النص المطعون فيه، أن المدين بالنفقة لازال مماطلا حتى بعد أن حبس وفقا لتلك اللائحة، وأن الامتناع عن دفعها لازال بالتالي ممتدا من حيث الزمان، بما مؤداه أن وقائع الامتناع – مع تعددها – لاتشكل مشروعا إجراميا واحدا، بل يكون لكل منها ذاتيتها باعتبارها وقائع منفصلة عن بعضها البعض ، وإن كان هدفها واحدا ممثلا فى اتجاه إرادة المدين بالنفقة إلى النكول عن أدائها. ومردود ثانيا: بأن عدم جواز فرض أكثر من عقوبة على فعل واحد، يفترض تتابعها واستيفاء كل منها بكامله. ولا كذلك النص المطعون فيه، ذلك أن مدة الإكراه البدنى التى تم تنفيذها في حق المدين وفقا لنص المادة ٣٤٧ من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، يجب استنزالها من مدة الحبس المحكوم بها وفقا للنص المطعون فيه. فإذا كان قد حكم عليه بغرامة، جرى خفضها عند التنفيذ بمقدار عشرة قروش عن كل يوم من أيام الإكراه البدنى الذى سبق إنفاذه فيه. وحيث إن ما ينعاه المدعى من إخلال النص المطعون فيه بالحرية الشخصية المنصوص عليها في المادة ٤١ من الدستور، مردود: أولا: بأن ضمانها لايعنى غل يد المشرع عن التدخل لتنظيمها، ذلك أن صون الحرية الشخصية يفترض بالضرورة إمكان مباشرتها دون قيود جائرة تعطلها أو تحد منها، وليس إسباغ حصانة عليها تعفيها من تلك القيود التى تقتضيها مصالح الجماعة، وتسوغها ضوابط حركتها. ومردود ثانيا: بما جرى به قضاء هذه المحكمة من أن القانون الجنائى وإن اتفق مع غيره من القوانين فى سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض، وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم، إلا أن هذا القانون يفارقها في اتخاذه الجزاء الجنائى أداة لحملهم على إتيان الأفعال التى يأمرهم بها أو التخلى عن تلك التى يدعوهم لاجتنابها، وهو بذلك يتغيا أن يحدد – ومن منظور اجتماعى – ما لايجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لايكون مبررا إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإذا كان مجاوزا حدود الدائرة التى ترسم الضرورة تخومها، غدا مخالفا للدستور . متى كان ذلك، وكان النص المطعون فيه يتوخى أن يرتبط عائل الأسرة بها، فلا يهجرها من خلال الامتناع عن الإنفاق عليها، وكان التضييق عليه بالحبس يعتبر كافلا لحقوقها، فإن تقرير وإيقاع هذا الجزاء، لايكون مخالفا للدستور. وحيث إن ادعاء مخالفة النص المطعون فيه للمادة ٤٠ من الدستور، مردود بأن الدخول في أسرة من خلال تكوينها، يفترض تحمل أعبائها. ولاكذلك غير المتزوجين الذين يختلفون مركزا عن الأولين. وحيث إن القول بإهدار النص المطعون فيه لضوابط المحاكمة المنصفة المنصوص عليها فى المادة ٦٧ من الدستور، مردود بأن هذا النص – وفق مضمونه – لايخل بالحق فى إدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة على ضوء مستوياتها في الدول المتحضرة، ولاينتقص من ضماناتها. وحيث إن النص المطعون فيه لا يتعارض مع أى حكم آخر فى الدستور من أوجه أخرى.