حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٣١ لسنة ١٦ دستورية
حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٣١ لسنة ١٦ دستورية
– – – ١ – – –
كل من غش أو شرع ن فى أن يغش شيئا من أغذية الإنسان، أو الحيوان، أو من العقاقير، أو النباتات الطبيعية، أو الأدوية، أو من الحاصلات الزراعية، أو المنتجات الطبيعية، أو من المنتجات الصناعية معدا للبيع، وكذلك كل من طرح، أو عرض للبيع، أو باع شيئا من هذه الأغذية، أو العقاقير، أو النباتات الطبية، أو الأدوية، أو الحاصلات، أو منتجات مغشوشة كانت أو فاسدة، أو انتهى تاريخ صلاحيتها مع عملة بذلك .
– – – ٢ – – –
من المقرر فى قضاء المحكمة الدستورية العليا، إن إلغاء المشرع لقاعدة قانونية بذاتها، لا يحول دون الطعن عليها بعدم الدستورية من قبل من طبقت عليه خلال فترة نفاذها، وترتبت بمقتضاها آثار قانونية بالنسبة إليه، تتحقق بأبطالها مصلحته الشخصية المباشرة ذلك أن الأصل فى القاعدة القانونية هو سريانها على الوقائع التي تنم خلال الفترة من تاريخ العمل بها، وحتى إلغائها، فإذا استعيض عنها بقاعدة قانونية جديدة، سرت الواقعة الجديدة من الوقت المحدد لنفاذها، ويقف سريان القاعدة القانونية القديمة من المراكز القانونية، وجرت آثارها خلال فترة نفاذها، يظل محكوما بها وحدها .
– – – ٣ – – –
مناط المصلحة الشخصية المباشرة _ وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية _ أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل فى المطاعن الدستورية لازما للفصل فى النزاع الموضوعي، وكان جوهر الطعن ينصب على تحديد المكلف بحمل عبء الإثبات فى جريمة عرض شيء من أغذية الإنسان مغشوشا أو فاسدا _ من زاوية دستورية ، فغن الفقرة الثانية من البند “١” من المادة الثانية المشار إليها _ قبل تعديلها بالقانون رقم ٢٨١ لسنه ١٩٩٤ آنف البيان – هي التي يتحدد بها نطاق الطعن بعدم الدستورية .
– – – ٤ – – –
اطرد قضاء المحكمة الدستورية العليا، على أن الدستور هو القانون الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحيتها، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها، بما يحول دون تدخل إي منها فى أعماق السلطة الأخرى، أو مزاحمتها فى ممارسة اختصاصاتها التي ناطها الدستور بها .
– – – ٥ – – –
اختص الدستور السلطة التشريعية بسن القوانين وفقا لأحكامه، فنص فى المادة ٨٦ منه على أن ” يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع ” ويقر السياسة العامة للدولة والخطة العامة للتنمية الاقتصادية _. كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله على الوجه المبين فى الدستور، فنص فى المادة ١٦٥ منه أن ” السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون ” .
واختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين _ طبقا للمادة ٨٦ من الدستور _ لا يخولها التدخل فى أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتا على ولايتها، وإخلالا بمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية .
– – – ٦ – – –
عنى الدستور فى مادته السابعة والستين، بضمان الحق فى المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من ان المتهم بريء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فى مادتيه العاشرة والحادية عشره، والتي تقرر أولاهما أن لكل شخص حقا مكتملا ومتكافئا مع غيره فى محاكمة علنية ومنصفة، تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة، تتولى الفصل فى حقوقه والتزاماته المدنية، أو فى التهمة الجنائية الموجهة إليه . وتردد ثانيتهما فى فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية، فى أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه وهذه الفقرة، هي التي تستمد منها المادة ٦٦ من الدستور حكمها وهى تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها فى الدول الديمقراطية، وتقع فى إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة، يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها فى الدول المتحضرة . وهى بذلك تتصل بتشكيل المحكمة، وقواعد تنظيمها ، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية كما أنها تعتبر فى نطاق الاتهام الجنائي وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي قضى الدستور فى المادة ٤١ منه بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه ولا يجوز بالتالي تفسير هذه القاعدة تفسيرا ضيقا، إذ هي ضمان مبدئي لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية وهى التي تكفل تمتعه بها فى إطار من الفرص المتكافئة ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائي، وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوما فى الدعوى الجنائية، وذلك ايا كانت طبيعة الجريمة ، وبغض النظر عن درجة خطورتها .
– – – ٧ – – –
عنى الدستور فى مادته السابعة والستين، بضمان الحق فى المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من ان المتهم بريء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فى مادتيه العاشرة والحادية عشره، والتي تقرر أولاهما أن لكل شخص حقا مكتملا ومتكافئا مع غيره فى محاكمة علنية ومنصفة، تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة، تتولى الفصل فى حقوقه والتزاماته المدنية، أو فى التهمة الجنائية الموجهة إليه . وتردد ثانيتهما فى فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية، فى أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه وهذه الفقرة، هي التي تستمد منها المادة ٦٦ من الدستور حكمها وهى تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها فى الدول الديمقراطية، وتقع فى إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة، يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها فى الدول المتحضرة . وهى بذلك تتصل بتشكيل المحكمة، وقواعد تنظيمها ، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية كما أنها تعتبر فى نطاق الاتهام الجنائي وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي قضى الدستور فى المادة ٤١ منه بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه ولا يجوز بالتالي تفسير هذه القاعدة تفسيرا ضيقا، إذ هي ضمان مبدئي لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية وهى التي تكفل تمتعه بها فى إطار من الفرص المتكافئة ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائي، وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوما فى الدعوى الجنائية، وذلك ايا كانت طبيعة الجريمة ، وبغض النظر عن درجة خطورتها .
– – – ٨ – – –
إدانة المتهم بالجريمة، إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية، وأكثرها تهديدا لحقه فى الحياة وهى مخاطر لا سبيل إي توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية، توازن بين حق الفرد فى الحرية من ناحية، وحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الساسية من ناحية أخرى ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائي معرفا بالتهمة، مبينا طبيعتها، مفصلا أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها، وبمراعاة أن يكون الفصل فى هذا الاتهام، عن طريق محكمة مستقلة محايدة ينشئها القانون، وأن تجرى المحاكمة علانية _ وخلال مدة معقولة _ وان تستند المحكمة فى قرارها بالإدانة _ إذا خلصت إليها – إلى تحقيق موضوعي آجرته بنفسها، وإلى عرض متجرد للحائق، وإلى تقدير سائغ للمصالح المتنازعة، وازنة بالقسط الأدلة المتنابذة ن وتلك جميعها من الضمانات الجوهرية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها ومن ثم كلفها الدستور فى المادة ٦٧ منه، وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها، وتندرجان تحت مفهومها، هما افتراض البراءة من ناحية وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائي من ناحية أخرى وهو حق عززته المادة ٦٩ من الدستور بنصها على ان حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة مكفول .
– – – ٩ – – –
إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها فى صلبة، الحماية من جوا بنها العملية، وليس من معطياتها النظرية، ولا يعدوا استيثاق المحكمة الجنائية _ عند فصلهما فى الاتهام الجنائية – من مراعاة القواعد المنصفة الآنف بيانها تحقيقا لمفاهيم العدالة حتى فى أكثر الجرائم خطورة، أن يكون ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية _ التي كفلها الدستور لكل فرد – بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه .
– – – ١٠ – – –
إذ كان افتراض براءة المتهم، يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وينسحب إلى الدعوى الجنائية فى جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، فقد صار من الحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة، عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص التي تخلص إليها المحكمة، وتتكون من جماعها عقيدتها ولازم ذلك أن تطرح مفهوما محددا لدليل بعينه، وأن يكون مرد الأمر دائما إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى، وحصلته من أوراقها، غير مقيدة فى ذلك بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها .
– – – ١١ – – –
تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة، فى مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاما متكاملا الملامح، يتوخى بالأسس التي يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية، ولضمان أن تتقيد السلطة التشريعية عند مباشرتها لمهمتها فى مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعي، بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصورا لذاته، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية، التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها وهذه القواعد _ وإن كانت إجرائية فى الأصل _ إلا أن تطبيقها فى مجال الدعوى الجنائية _ وعلى امتداد مراحلها _ يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تمليها الفطرة، وتفرضها مبادئ الشريعة الإسلامية فى قولة عليه السلام [ ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فأخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ] وهى بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها فى المادة ٦٧ منه، مؤكدا بمضمونها ما قررته المادة الحادية عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة السادسة من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان .
– – – ١٢ – – –
أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء كان مشتبها فيه أو متهما، باعتباره قاعدة أساسية فى النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها، لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين، وإنما لتدرأ بموجبها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة المنسوبة إليه قد أحاطتها الشبهات، بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للجريمة محل الاتهام ذلك أن الاتهام الجنائي _ فى ذاته _ لا يزحزح أصل البراءة الذى يلازم الفرد دوماً
ولا يزايله، سواء فى مرحلة ما قبل المحاكمة، أو أثناءها، وعلى امتداد حلقاتها، وأيا كان الزمن الذى تستغرقه إجراءاتها ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين، بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا .
– – – ١٣ – – –
افتراض البراءة لا يمتحض عن قرينه قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية، تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي _ ممثلا فى الواقعة مصدر الحق المدعى به _ إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها، وهذه الواقعة البديلة هي التي يعتبر إثباتها للواقعة الأولى بحكم القانون وليس المر كذلك بالنسبة إلى افترضها الدستور ، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلا عنها Innocence is more properly called an assumption as opposed to a presumption : it does not rest on any other proved facts , it is assumed . وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها فقد ولد حرا مبرئا من الخطيئة أو العصية ويفترض على امتداد مراحل حياته، أن أصل البراءة، لازال كامنا فيه، مصاحبا له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض المحكمة بقضاء جازم لا رجعه فيه هذا الافتراض، على ضوء الأدلة التي تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التي نسبتها إليه فى كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما فى ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبا فيها وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور، ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر فى ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية وتعتبر إنفاذها مفترضا أوليا لإدارة العدالة الجنائية ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية فى مجالاتها الحيوية ، ليوفر من خلالها لكل فرد الأمن فى مواجهة التحكم والتسلط والتحامل ، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونيا ينشئها .
– – – ١٤ – – –
إن النص المطعون فيه، بعد أن أفصح عن أن جريمة غش الأغذية، أو عرض أغذية مغشوشة، أو فسادها، نص على ان هذا العلم يفترض فى جانب المشتغلين بالتجارة أو الباعة الحائلين ما لم يثبت المخالف حس نيته، ومصدر الأشياء موضوع الجريمة وبذلك احل المشرع توافر صفة معينه فى المتهم، محل واقعة عمله بغش أو فساد ما يعرضه من أغذية، منشئا بذلك قرينة قانونية يكون ثبوت الواقعة البديلة بموجبها، دليلا على ثبوت واقعة العلم بغش أو فساد السلعة، والتي كان ينبغي أن تتولى النيابة العامة بنفسها مسئولية إثباتها فى إطار التزامها الأصيل بإقامة الأدلة المؤيدة لإسناد الجريمة بكامل أركانها إلى المتهم، وبوجه خاص ” القصد الجنائى العام ” ممثلا فى إرادة إتيان الفعل، مع العلم بالوقائع التي تعطيه دلالته الإجرامية .
– – – ١٥ – – –
إن القرينه القانونية التي تضمنها النص المطعون فيه على النحو المتقدم، لا تعتبر من القرائن القاطعة، إذا الأصل فى القرائن القانونية بوجه عام هو جواز إثبات عكسها، ولا تكون القرينه قاطعة إلا بنص خاص يقرر عدم جواز هدمها وقد التزم قانون قمع التدليس والغش الأصل العام فى القرائن القانونية بما قررته المذكرة الإيضاحية لكل من القوانين رقمي ٨٠ لسنه ١٩٦١ و ١٠٦ لسنه ١٩٨٠ المعدلين له منه أن ” افتراض العلم بالغش والفساد إذا كان المخالف من المشتغلين بالتجارة أو من الباعة الجائلين ينفيه إثبات حسن النية ومصدر الأشياء موضوع الجريمة، وأن من المسلم أن إثبات حسن النية، هو إثبات أن المتهم قد اتبع القواعد المقررة قانونا، أو التي يجرى بها العرف التجاري فى التحقق من أن الأشياء المضبوطة ليسة مغشوشة أو فاسدة _ اعتبارا بان هذا الثبات سهل ميسور على التجارة الذين يراعون واجب الذمة فى معاملاتهم ” .
وبذا أضحت النيابة العامة غير مكلفة بإقامة الدليل على هذا العلم، وغدا نفيه عبئا ملقى على عاتق المتهم، مثلما هو الشأن فى القرائن القانونية، ذلك أن المشرع هو الذى تكفل باعتبار الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرينة القانونية، أعفى النيابة العامة بالتالي من تقديم الدليل عليها وإذا كان الأصل فى القرائن القانونية بوجه عام هي أنها من عمل المشرع _ على التفصيل السابق إيراده _ وهو لا يؤسسها أو يحدد مضمونها، إلا على ضوء ما يكون فى تقديره، غالبا أو راجحا فى الحياة العملية، وكانت القرينة القانونية التي تضمنها النص المطعون فيه _ وحتى بافتراض جواز إعمال القرائن القانونية فى المجال الجنائي _ تنافى واقع الحياة العملية، وما يتم فيها فى الأغلب، ذلك أن هذه القرينة تتعلق ببضائع شتى متنوعة المصادر، يجرى التعامل فيها عبر حلقات متعددة منذ خروجها من يد منتجها أو جالبها إلى أن تصل يد عارضها الأخير، ويتم تداولها والتعامل فيها على امتداد حلقاتها هذه، وبافتراض خضوعها لنظم الفحص والرقابة التي تفرضها التشريعات المختلفة، وتقوم على تنفيذها الجهات الحكومية المختصة فى منابعها، سواء داخل مصادر إنتاجها المحلية، أو قبل تجاوزها الدائرة الجمركية حال جلبها ولازم ما تقدم، أن عدم إثبات عارض السلعة الغذائية، وما جرى مجراها لمصدرها، لا يفيد بالضرورة عملة بغشها أو بفسادها، كما أن تكلفة بإثبات حسن النية باعتباره من المواطنين الشرفاء الذين يتعاملون فى تلك السلع وفق أصول المهنة ومقتضياتها، لا يعدو ان يكون أمرا عسرا ومتميعا فى آن واحد ومن ثم ترشح الواقعة البديلة التي اختارها النص المطعون فيه _ وفى الأعم الأغلب من الأحوال – لاعتبار واقعة العلم بغش السلعة أو فسادها ثابتة بحكم القانون، ولا تربطها علاقة منطقية بها، وتغدو هذه القرينة بالتالى مقحمة لإهدار افتراض البراءة، ومفتقرة إلى أسسها الموضوعية، وجازة لضوابط المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور .
– – – ١٦ – – –
لما كانت جريمة عرض أغذية مغشوشة أو فاسدة من الجرائم العمدية التى يعتبر القصد الجنائى ركنا فيها، فإن الأصل هو أن تتحقق المحكمة بنفسها، وعلى ضوء تقديرها للأدلة التى تطرح عليها، من علم المتهم بحقيقة المر فى شأن كل واقعة تقوم عليها الجريمة، وان يكون هذا العلم يقينيا لا ظنيا ولا افتراضيا .
– – – ١٧ – – –
الاختصاص المقرر دستوريا للسلطة التشريعية فى مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها _ وعلى ما جرى عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا _ لا يخولها التدخل بالقرائن التى تنشئها لغل يد المحكمة الجنائية عن القيام بمهمتها الأصلية فى مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التى عينها المشرع، إعمالا لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية، متى كان ذلك وكان النص المطعون فيه قد حدد واقعة بذاتها جعل ثبوتها بالطريق المباشر دالا بطريق غير مباشر على العلم بالواقعة الإجرامية، مقحما بذلك وجهة النظر التى أرتاها فى مسألة يعود الأمر فيها بصفة نهائية إلى محكمة الموضوع، لاتصالها بالتحقيق الذى الذى تجرية بنفسها، تقصيا للحقيقة الموضوعية عند الفصل فى الاتهام الجنائى، وهو تحقيق لا سلطان لسواها عليه، ومآل ما يسفر عنه إلى العقيدة التى تتكون لديها من جماع الأدلة المطروحة عليها إذ كان ذلك، فإن المشرع إذا أعفى النيابة العامة – بالنص المطعون فيه _ من إثباتها لواقعة بذاتها تتصل بالقصد الجنائى، وتعتبر من عناصره، هي واقعة علم المتهم بغش السلعة التى يعرضها أو فسادها، حاجبا بذلك محكمة الموضوع عن تحقيقها، وعن أن تقول كلمتها بشأنها، بعد أن افترض النص المطعون عليه هذا العلم بقرينة لا محل لها، ونقل عبء نفيه إلى المتهم، فإن عمله هذا يعد انتحالا لاختصاص كفله الدستور للسلطة القضائية، وإخلالا بمبدأ الفصل بينها وبين السلطة التشريعية، ومناقضا كذلك لافتراض براءة المتهم المنسوبة إليه فى كل وقائعها وعناصرها .
– – – ١٨ – – –
إن افتراض براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه يقترن دائما من الناحية الدستورية _ ولضمان فعاليته _ بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر وثيقة الصلة بالحق فى الدفاع وتتمثل فى حق المتهم فى مواجهة الأدلة التى قدمتها النيابة العامة إثباتا للجريمة والحق فى دحضها بأدلة النفى التى يقدمها لما كان ذلك، وكان النص المطعون علية _ وعن طريق القرينة القانونية التى أفترض بها ثبوت القصد الجنائى _ قد أخل بهذه الوسائل الإجرائية، بأن جعل المتهم مواجها بواقعة أثبتتها القرينة فى حقه بغير دليل، ومكلفا بنفيها خلافا لأصل البراءة، ومسقطا عملا كل قيمة أسبغها الدستور على هذا الأصل، ووقع من تم مخالفا لأحكام المواد، و٤١ و٩٦ و ٨٦ و ١٦٥ من الدستور .
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة. حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوي وسائر الأوراق – تتحصل في أن النيابة العامة قدمت المدعي إلي المحاكمة الجنائية أمام محكمة جنح الساحل في قضية الجنحة رقم ١٢٠١ لسنة ١٩٩٤ بوصف أنه في يوم ٢٠ / ١١ / ١٩٩٣ بدائرة قسم الساحل: عرض شيئا من أغذية الإنسان غير مطابق للمواصفات علي النحو المبين بالأوراق، وطلبت عقابة بالمواد ٢ / ١، ٧، ٨، ٩ من القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٤١ بقمع التدليس والغش، وكذلك مواد القانون رقم ١٠ لسنة ١٩٦٦بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها . وبجلسة ٢٣ / ٤ / ١٩٩٤ قضت محكمة جنح الساحل حضورياً بتغريم المدعي مائتي جنيه والمصادرة، ونشر الحكم في جريدتين واسعتي الانتشار. استأنف المدعي ذلك الحكم أمام محكمة شمال القاهرة الابتدائية في قضية الجنحة المستأنفة رقم ٦٧١٩ لسنة ١٩٩٤ س. شمال. وبجلسة ٢٣ / ٦ / ١٩٩٤ دفع المدعي بعدم دستورية نص المادة الثانية من القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٤١ – المشار إليه؛ وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه، فقد صرحت له برفع دعواه بعدم الدستورية، وحددت لنظر الدعوي الموضوعية جلسة ١ / ١٢ / ١٩٩٤، فأقام الدعوى الماثلة. وحيث إن المادة الثانية من القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٤١ بقمع التدليس والغش – المشار إليه – كانت تنص – قبل تعديلها بالقانون رقم ٢٨١ لسنة ١٩٩٤ – علي مايأتي: “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز ألف جنيه أو بإحدي هاتين العقوبتين: ١) من غش أو شرع في أن يغش شيئاً من أغذية الإنسان أو الحيوان أو من العقاقير أو من الحاصلات الزراعية أو الطبيعية معداً للبيع، أو من طرح أو عرض للبيع أو باع شيئاً من هذه الأغذية أو العقاقير أو الحاصلات، مغشوشة كانت أو فاسدة، مع علمه بذلك. ويفترض العلم بالغش أو الفساد إذا كان المخالف من المشتغلين بالتجارة، أو من الباعة الجائلين، ما لم يثبت حسن نيته، ومصدر الأشياء موضوع الجريمة”. وحيث إنه بتاريخ ٢٩ من ديسمبر سنة ١٩٩٤ نشر بالجريدة الرسمية القانون رقم ٢٨١ لسنة ١٩٩٤ بتعديل بعض أحكام القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٤١ بقمع التدليس والغش مستعيضاً عن نص المادة الثانية السالف بيانها بالنص الآتى: “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تجاوز خمس سنوات، وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه، ولا تجاوز ثلاثين ألف جنيه، أو ما يعادل قيمة السلعة موضوع الجريمة أيهما أكبر: ١) كل من غش أو شرع، في أن يغش شيئاً من أغذية الإنسان أو الحيوان، أو من العقاقير أو النباتات الطبية، أو الأدوية أو من الحاصلات الزراعية، أو المنتجات الطبيعية، أو من المنتجات الصناعية معداً للبيع، وكذلك كل من طرح أو عرض للبيع أو باع شيئاً من هذه الأغذية أو العقاقير أو النباتات الطبية أو الأدوية أو الحاصلات، أو منتجات مغشوشة كانت أو فاسدة، أو انتهي تاريخ صلاحيتها مع علمه بذلك”. وحيث إن من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا، أن إلغاء المشرع لقاعدة قانونية بذاتها، لا يحول دون الطعن عليها بعدم الدستورية من قبل من طبقت عليه خلال فترة نفاذها، وترتبت بمقتضاها آثار قانونية بالنسبة إليه تتحقق بإبطالها مصلحته الشخصية المباشرة؛ ذلك أن الأصل في القاعدة القانونية هو سريانها علي الوقائع التي تتم خلال الفترة من تاريخ العمل بها وحتي إلغائها؛ فإذا استعيض عنها بقاعدة قانونية جديدة، سرت الواقعة الجديدة من الوقت المحدد لنفاذها؛ ويقف سريان القاعدة القديمة من تاريخ إلغائها؛ وبذلك يتحدد النطاق الزمني لسريان كل من القاعدتين؛ فما نشأ في ظل القاعدة القانونية القديمة من المراكز القانونية؛ وجرت آثارها خلال فترة نفاذها؛ يظل محكوماً بها وحدها. وحيث إن مناط المصلحة الشخصية المباشرة – وهي شرط لقبول الدعوي الدستورية – أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوي الموضوعية؛ وذلك بأن يكون الفصل في المطاعن الدستورية لازماً للفصل في النزاع الموضوعي، وكان جوهر الطعن ينصب علي تحديد المكلف بحمل عبء الإثبات في جريمة عرض شئ من أغذية الإنسان – مغشوشاً أو فاسداً – من زاوية دستورية، فإن الفقرة الثانية من البند (١) من المادة الثانية المشار إليها – قبل تعديلها بالقانون رقم ٢٨١ لسنة ١٩٩٤ آنف البيان – هى التى يتحدد بها نطاق الطعن بعدم الدستورية. وحيث إن المدعى ينعى على النص المطعون فيه أنه إذ أقام قرينة قانونية افترض بمقتضاها علم التاجر أو البائع الجائل بغش الأغذية التى يعرضها للبيع أو فسادها إذا لم يثبت حسن نيته ومصدر الأشياء موضوع الجريمة، يكون قد خالف افتراض البراءة المنصوص عليه في المادة ٦٧ من الدستور. وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد اطرد علي أن الدستور هو القانون الأعلي الذي يرسى القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها بما يحول دون تدخل أي منها في أعمال السلطة الأخري، أو مزاحمتها في ممارسة اختصاصاتها التي ناطها الدستور بها. وحيث إن الدستور اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقاً لأحكامه فنص في المادة ٨٦ منه علي أن “يتولي مجلس الشعب سلطة التشريع؛ ويقر السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية ….. كما يمارس الرقابة علي أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله علي الوجه المبين بالدستور”. كما اختص السلطة القضائية بالفصل في المنازعات والخصومات علي النحو المبين في الدستور؛ فنص في المادة ١٦٥ منه على أن “السلطة القضائية مستقلة؛ وتتولاها المحاكم علي اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون”. وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين – طبقاً للمادة ٨٦ من الدستور – لا يخولها التدخل في أعمال أسندها الدستور إلي السلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتا علي ولايتها، وإخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية. وحيث إن الدستور عنى فى مادته السابعة والستين بضمان الحق في المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من أن المتهم برىء حتي تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه العاشرة والحادية عشرة التي تقرر أولاهما أن لكل شخص حقاً مكتملاً ومتكافئاً مع غيره في محاكمة علنية ومنصفة تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة، تتولي الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه. وتردد ثانيتهما في فقرتها الأولي حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية في أن تفترض براءته إلي أن تثبت إدانته في محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه. وهذه الفقرة هى التي تستمد منها المادة ٦٧ من الدستور أصلها، وهي تردد قاعدة استقر العمل علي تطبيقها فى الدول الديمقراطية، وتقع في إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها فى الدول المتحضرة وهى بذلك تتصل بتشكيل المحكمة وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية. كما أنها تعتبر فى نطاق الاتهام الجنائي وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى قضى الدستور في المادة ٤١ منه بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه. ولا يجوز بالتالي تفسير هذه القاعدة تفسيراً ضيقاً، إذ هي ضمان مبدئى لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية. وهي التي تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة. ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر علي الاتهام الجنائى، وانما يمتد إلي كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوماً في الدعوي الجنائية، وذلك أيا كانت طبيعة الجريمة، وبغض النظر عن درجة خطورتها. وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود علي حريته الشخصية، وأكثرها تهديداً لحقه في الحياة. وهى مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد فى الحرية من ناحية، وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى. ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائي معرفاً بالتهمة مبيناً طبيعتها، مفصلاً أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها، وبمراعاة أن يكون الفصل في هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة محايدة ينشئها القانون، وأن تجري المحاكمة علانية – وخلال مدة معقولة – وأن تستند المحكمة في قرارها بالإدانة – إذا خلصت إليها – إلى تحقيق موضوعي أجرته بنفسها، وإلى عرض متجرد للحقائق؛ وإلي تقدير سائغ للمصالح المتنازعة، وازنة بالقسط الأدلة المتنابذة؛ وتلك جميعها من الضمانات الجوهرية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها. ومن ثم كفلها الدستور في المادة ٦٧ منه وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها، وتندرجان تحت مفهومها، هما افتراض البراءة من ناحية؛ وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائي من ناحية أخرى، وهو حق عززته المادة ٦٩ من الدستور بنصها علي أن حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة مكفول. وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلبه، الحماية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية، وكان استيثاق المحكمة الجنائية من مراعاة القواعد المنصفة الآنف بيانها عند فصلها في الاتهام الجنائي تحقيقاً لمفاهيم العدالة حتي فى أكثر الجرائم خطورة، إنما هو ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية – التي كفلها الدستور لكل فرد – بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه، وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلاً ثابتاً يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها؛ وليس بنوع العقوبة المقررة لها؛ وينسحب إلي الدعوي الجنائية في جميع مراحلها، وعلي امتداد إجراءاتها، فقد كان من الحتم أن يرتب الدستور علي افتراض البراءة؛ عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة، وتتكون من جماعها عقيدتها. ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أية جهة أخري مفهوماً محدداً لدليل بعينه؛ وأن يكون مرد الأمر دائماً إلي ما استخلصته هي من وقائع الدعوي، وحصلته من أوراقها غير مقيدة في ذلك بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها. وحيث إنه علي ضوء ما تقدم، تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاماً متكامل الملامح يتوخي بالأسس التي يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقاً من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية؛ ولضمان أن تتقيد السلطة التشريعية عند مباشرتها لمهمتها في مجال فرض العقوبة صوناً للنظام الاجتماعي، بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفاً مقصوداً لذاته، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته علي ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة . بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدني من الحماية، التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها. وهذه القواعد – وإن كانت إجرائية في الأصل – إلا أن تطبيقها في مجال الدعوي الجنائية – وعلى امتداد مراحلها – يؤثر بالضرورة علي محصلتها النهائية. ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تمليها الفطرة؛ وتفرضها مباديء الشريعة الإسلامية في قوله عليه السلام “ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فاخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطيء في العفو خير من أن يخطيء في العقوبة”؛ وهي بعد قاعدة حرص الدستور علي إبرازها فى المادة ٦٧ منه، مؤكداً بمضمونها ما قررته المادة الحادية عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ والمادة السادسة من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان . وحيث إن أصل البراءة يمتد إلي كل فرد سواء كان مشتبها فيه أو متهما، باعتباره قاعدة أساسية فى النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين؛ وإنما لتدرأ بموجبها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة المنسوبة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للجريمة محل الاتهام . ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لايزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دوماً، ولايزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءها وعلي امتداد حلقاتها؛ وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها. ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين بما لا يدع مجالاً معقولاً لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتاً. وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم علي تحويل للإثبات من محله الأصلي ممثلاً في الواقعة مصدر الحق المدعي به، إلي واقعة أخري قريبة منها متصلة بها، وهذه الواقعة البديلة هي التي يعتبر إثباتها إثباتاً للواقعة الأولي بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلي البراءة التي افترضها الدستور؛ فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخري وأقامها بديلاً عنهاInnocence is more properly called an assumption as opposed to a presumption: it does not rest on any other proved facts, it is assumed. وإنما يؤسس افتراض البراءة علي الفطرة التي جبل الإنسان عليها . فقد ولد حراً مبرءاً من الخطيئة أو المعصية. ويفترض علي امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة، لازال كامنا فيه، مصاحباً له فيما يأتيه من أفعال، إلي أن تنقض المحكمة بقضاء جازم لارجعة فيه هذا الافتراض، على ضوء الأدلة التى تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلباً فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور؛ ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية علي الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية. ويعتبر إنفاذها مفترضاً أولياً لإدارة العدالة الجنائية. ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية فى مجالاتها الحيوية، ليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل؛ بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل؛ وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشئها. وحيث إن النص المطعون فيه بعد أن أفصح عن أن جريمة غش الأغذية أو عرض أغذية مغشوشة أو فاسدة للبيع جريمة عمدية، باشتراطه العلم بغش المادة موضوعها أو فسادها، نص علي أن هذا العلم يفترض في جانب المشتغلين بالتجارة أو الباعة الجائلين ما لم يثبت المخالف حسن نيته ومصدر الأشياء موضوع الجريمة . وبذلك أحل المشرع توافر صفة معينة في المتهم محل واقعة علمه بغش أو فساد ما يعرضه من أغذية، منشئا بذلك قرينة قانونية يكون ثبوت الواقعة البديلة بموجبها، دليلاً علي ثبوت واقعة العلم بغش أو فساد السلعة التي كان ينبغي أن تتولي النيابة العامة بنفسها مسئولية إثباتها في إطار التزامها الأصيل بإقامة الأدلة المؤيدة لإسناد الجريمة بكامل أركانها إلي المتهم؛ وبوجه خاص “القصد الجنائي العام” ممثلاً فى إرادة إتيان الفعل، مع العلم بالوقائع التي تعطيه دلالته الإجرامية . وحيث إن القرينة القانونية التي تضمنها النص المطعون فيه علي النحو المتقدم لا تعتبر من القرائن القاطعة؛ إذ الأصل في القرائن القانونية بوجه عام هو جواز إثبات عكسها؛ ولا تكون القرينة قاطعة إلا بنص خاص يقرر عدم جواز هدمها. وقد التزم قانون قمع التدليس والغش الأصل العام في القرائن القانونية بما قررته المذكرة الإيضاحية لكل من القانونين رقمى ٨٠ لسنة ١٩٦١ و١٠٦ لسنة ١٩٨٠ المعدلين له من أن “افتراض العلم بالغش والفساد إذا كان المخالف من المشتغلين بالتجارة أو من الباعة الجائلين، ينفيه اثبات حسن النية ومصدر الأشياء موضوع الجريمة، وأنه من المسلمات أن إثبات حسن النية هو إثبات أن المتهم قد اتبع القواعد المقررة قانونا أو التي يجري بها العرف التجاري في التحقق من أن الأشياء المضبوطة ليست مغشوشة أو فاسدة”، “اعتباراً بأن هذا الإثبات سهل ميسور على التجار الذين يراعون واجب الذمة في معاملاتهم”. وبذا أضحت النيابة العامة غير مكلفة بإقامة الدليل علي هذا العلم؛ وغدا نفيه عبئاً ملقي علي عاتق المتهم مثلما هو الشأن في القرائن القانونية؛ ذلك أن المشرع هو الذي تكفل باعتبار الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرينة القانونية؛ وأعفي النيابة العامة بالتالى من تقديم الدليل عليها. إذ كان ذلك؛ وكان الأصل في القرائن القانونية بوجه عام هى أنها من عمل المشرع – علي التفصيل السابق إيراده – وهو لا يؤسسها أو يحدد مضمونها إلا علي ضوء ما يكون في تقديره غالباً أو راجحاً في الحياة العملية، وكانت القرينة القانونية التي تضمنها النص المطعون فيه – وحتي بافتراض جواز إعمال القرائن القانونية في المجال الجنائي – تنافي واقع الحياة العملية، وما يتم فيها في الأغلب، ذلك أن هذه القرينة تتعلق ببضائع شتي متنوعة المصادر، يجري التعامل فيها عبر حلقات متعددة منذ خروجها من يد منتجها أو جالبها إلي أن تصل يد عارضها الأخير؛ ويتم تداولها والتعامل فيها علي امتداد حلقاتها هذه؛ وبافتراض خضوعها لنظم الفحص والرقابة التي تفرضها التشريعات المختلفة؛ وتقوم علي تنفيذها الجهات الحكومية المختصة في منابعها سواء داخل مصادر إنتاجها المحلية؛ أو قبل تجاوزها الدائرة الجمركية حال جلبها. ولازم ما تقدم؛ أن عدم إثبات عارض السلعة الغذائية وما جري مجراها لمصدرها، لا يفيد بالضرورة علمه بغشها أو بفسادها، كما أن تكليفه بإثبات حسن نيته باعتباره من المواطنين الشرفاء الذين يتعاملون في تلك السلع وفق أصول المهنة ومقتضياتها، لا يعدو أن يكون أمراً عَِسراً ومُتميعاً في آن واحد. ومن ثم لا ترشح الواقعة البديلة التي اختارها النص المطعون فيه – وفى الأعم الأغلب من الأحوال – لاعتبار واقعة العلم بغش السلعة أو فسادها ثابتة بحكم القانون؛ ولا تربطها علاقة منطقية بها؛ وتغدو هذه القرينة بالتالي مقحمة لإهدار افتراض البراءة، ومفتقرة إلي أسسها الموضوعية؛ ومجاوزة لضوابط المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور. وحيث إنه لما كانت جريمة عرض أغذية مغشوشة أو فاسدة من الجرائم العمدية التي يعتبر القصد الجنائي ركنا فيها، وكان الأصل هو أن تتحقق المحكمة بنفسها، وعلي ضوء تقديرها للأدلة التي تطرح عليها، من علم المتهم بحقيقة الأمر في شأن كل واقعة تقوم عليها الجريمة، وأن يكون هذا العلم يقينياً لاظنياً ولا افتراضياً، وكان الاختصاص المقرر دستورياً للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها – وعلي ماجرى عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا – لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها لغل يد المحكمة الجنائية عن القيام بمهمتها الأصيلة في مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التي عينها المشرع إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية؛ وكان النص المطعون فيه قد حدد واقعة بذاتها جعل ثبوتها بالطريق المباشر دالاً بطريق غير مباشر علي العلم بالواقعة الإجرامية مقحماً بذلك وجهة النظر التي ارتآها في مسألة يعود الأمر فيها بصفة نهائية إلي محكمة الموضوع لاتصالها بالتحقيق الذي تجريه بنفسها تقصياً للحقيقة الموضوعية عند الفصل في الاتهام الجنائي؛ وهو تحقيق لا سلطان لسواها عليه، ومآل ما يسفر عنه إلي العقيدة التي تتكون لديها من جماع الأدلة المطروحة عليها. إذ كان ذلك؛ فإن المشرع إذ أعفي النيابة العامة – بالنص المطعون فيه – من إثباتها لواقعة بذاتها تتصل بالقصد الجنائي وتعتبر من عناصره، هي واقعة علم المتهم بغش السلعة التي يعرضها أو فسادها، حاجباً بذلك محكمة الموضوع عن تحقيقها؛ وعن أن تقول كلمتها بشأنها؛ بعد أن افترض النص المطعون عليه هذا العلم بقرينة لا محل لها، ونقل عبء نفيه إلي المتهم، فإن عمله هذا يعد انتحالاً لاختصاص كفله الدستور للسلطة القضائية، وإخلالاً بمبدأ الفصل بينها وبين السلطة التشريعية؛ومناقضاً كذلك لافتراض براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه فى كل وقائعها وعناصرها . وحيث إن افتراض براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه يقترن دائماً من الناحية الدستورية – ولضمان فعاليته – بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر وثيقة الصلة بالحق في الدفاع. وتتمثل في حق المتهم في مواجهة الأدلة التي قدمتها النيابة العامة إثباتاً للجريمة، والحق في دحضها بأدلة النفي التي يقدمها. لما كان ذلك؛ وكان النص المطعون عليه – وعن طريق القرينة القانونية التي افترض بها ثبوت القصد الجنائى – قد أخل بهذه الوسائل الإجرائية بأن جعل المتهم مواجهاً بواقعة أثبتتها القرينة في حقه بغير دليل؛ ومكلفاً بنفيها خلافاً لأصل البراءة، ومسقطاً عملاً كل قيمة أسبغها الدستور علي هذا الأصل؛ وكان النص المطعون عليه – وعلى ضوء ما تقدم جميعه – ينال من مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية؛ ومن الحرية الشخصية؛ كما يناقض افتراض البراءة، ويخل بضوابط المحاكمة المنصفة، وما تشتمل عليه من ضمان الحق في الدفاع، فإنه بذلك يكون مخالفاً لأحكام المواد ٢، ١٤، ٦٧، ٦٩، ٨٦، ١٦٥ من الدستور. فلهذه الأسباب حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من البند (١) من المادة الثانية من القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٤١ بقمع التدليس والغش قبل تعديلها بالقانون رقم ٢٨١ لسنة ١٩٩٤، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.