حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ١٠٥ لسنة ١٢ دستورية
حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ١٠٥ لسنة ١٢ دستورية
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت ١٢ فبراير سنة ١٩٩٤ الموافق ٢رمضان سنة ١٤١٤ه
برئاسة السيد المستشار الدكتور / عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين : الدكتور محمد ابراهيم ابو العينين ومحمد ولى الدين جلال وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض وعدلى محمود منصور اعضاء
وحضور السيد المستشار نجيب جمال الدين علما المفوض
وحضور السيد / رأفت محمد عبد الواحد أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
في القضية المقيدة بجدول
المحكمة الدستورية العليا
برقم ١٠٥ لسنة ١٢ قضائية دستورية
المقامة من
السيد / محمد رضا داود حسن
ضد
السيد / رئيس الجمهورية
السيد / رئيس مجلس الوزراء
السيد / وزير المالية
السيد / رئيس مصلحة الجمارك
الإجراءات
بتاريخ ٢٧ من ديسمبر سنة ١٩٩٠ أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى ، طالباً الحكم – وعلى مايبين منها – بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة (١٢١) من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم ٦٦ لسنة ١٩٦٣ المعدل بالقانون رقم ٧٥ لسنة ١٩٨٠، وذلك فيما تضمنته من النص على أو أى فعل آخر.
أودعت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فى ختامها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها القانونى .
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
وحيث أن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن النيابة العامة كانت قد أقامت الدعوى الجنائية فى القضية رقم ٧٧ لسنة ١٩٨٩ جنح مالية ضد المدعى بوصف أنه فى يوم ١٧ من مارس سنة ١٩٨٧ بدائرة قسم عابدين هرب البضائع المبينة وصفاً وقيمة بالأوراق من أداء الرسوم الجمركية المستحقة عليها، وكان ذلك بقصد الإتجار، بأن قام بإدخالها إلى البلاد بنظام الإعفاءات الجمركية لأغراض السياحة وتصرف فيها على خلاف الغرض الذى خصص لها، وطلبت عقابه بالمواد (٥، ١٣، ٢٨، ١٢١، ١٢٢، ١٢٤، ١٢٤ مكرراً) من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم ٦٦ لسنة ١٩٦٣ المعدل بالقانون رقم ٧٥ لسنة ١٩٨٠، وبالمادتين (٦، ٢٢) من القانون رقم ٧ لسنة ١٩٧٣ بشأن المنشآت الفندقية والسياحية ، وبجلسة ٣٠ من يناير سنة ١٩٩٠ قضت محكمة الجرائم المالية الجزئية غيابياً بحبس المدعى سنتين مع الشغل وكفالة خمسمائة جنيه وغرامة ألف جنيه وإلزامه بدفع مبلغ ثمان مائة وواحد وثمانين ألف وثمان مائة وستة عشر جنيهاً وسبعين مليماً كتعويض للجمارك متضمنة بدل مصادرة والمصروفات الجنائية ، ومستندة – ضمن النصوص القانونية التى أقامت عليها حكمها – على النص التشريعى المطعون فيه، وقد عارض المدعى فى هذا الحكم، ودفع – أثناء نظر معارضته بجلسة ٤ من ديسمبر سنة ١٩٩٠ – بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة (١٢١) من قانون الجمارك المشار إليه، وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع فقد أجلت نظر المعارضة لجلسة الأول من يناير سنة ١٩٩١ مع الترخيص للمدعى بإقامة دعواه الدستورية، فأقام الدعوى الماثلة، وبجلسة ٢٦ من فبراير سنة ١٩٩١ قررت المحكمة المذكورة وقف الدعوى الجنائية تعليقاً لحين الفصل فى الطعن الراهن بعدم الدستورية .
وحيث أن المادة (١٢١) من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم ٦٦ لسنة ١٩٦٣ – وبعد أن قضت هذه المحكمة بجلسة ٢ من فبراير سنة ١٩٩٢ فى الدعوى رقم ١٣ لسنة ١٢ قضائية دستورية بعدم دستورية هذه المادة فيما تضمنته فقرتها الثانية من افتراض العلم بالتهريب إذا لم يقدم من وجدت فى حيازته البضائع بقصد الإتجار المستندات الدالة على أن الضرائب الجمركية المقررة قد سددت عنها – غدت تنص على مايآتى : –
فقرة أولى يعتبر تهريباً إدخال البضائع من أى نوع إلى الجمهورية وإخراجها منها بطرق غير مشروعة بدون أداء الضرائب الجمركية المستحقة كلها أو بعضها أو بالمخالفة للنظم المعمول بها فى شأن البضائع الممنوعة .
فقرة ثانية ويعتبر فى حكم التهريب حيازة البضائع الأجنبية بقصد الإتجار مع العلم بأنها مهربة .
….كما يعتبر فى حكم التهريب تقديم مستندات أو فواتير مزورة أو مصطنعة أو وضع علامات كاذبة أو اخفاء البضائع
أو العلامات أو إرتكاب أى فعل آخر يكون الغرض منه التخلص من الضرائب الجمركية المستحقة كلها أو بعضها أو بالمخالفة للنظم المعمول بها فى شأن البضائع الممنوعة ، كما تنص المادة (١٢٢) من القانون ذاته – ووفق القواعد المبينة فيها – على معاقبة التهريب أو الشروع فيه بالحبس والغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين، وذلك دون الإخلال بأية عقوبة أشد يقضى بها قانون آخر، فضلا عن مصادرة البضائع موضوع التهريب فى جميع الأحوال.
وحيث أن المدعى ينعى على الفقرة الثانية من المادة (١٢١) من القانون الجمركى فيما تضمنته من النص على أو إرتكاب أى فعل آخر… مضمونه غير المحدد وغموضه وإمكان تأويله، وانطوائه بالتالى على مخالفة مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون – الذى قررته المادة (٦٦) من الدستور – بما يقتضيه من ضرورة تحديد الجرائم تحديداً دقيقا فى نصوص قانونية واضحة تبين أركان كل منها والعقوبات المقررة لها.
وحيث أن الجزاء الجنائى كان عبر أطوار قاتمة فى التاريخ أداة طيعة للقهر والطغيان، محققاً للسلطة المستبدة أطماعها، ومبتعداً بالعقوبة عن أغراضها الاجتماعية ، وكان منطقياً وضرورياً أن تعمل الدول المتمدينة على أن تقيم تشريعاتها تها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة فى جوانبها الموضوعية والإجرائية ، لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية عاصفة بها بالمخالفة للقيم التى تؤمن بها الجماعة فى تفاعلها مع الأمم المتحضرة واتصالها بها، وكان لازماً – فى مجال دعم هذا الاتجاه وتثبيته – أن تقرر الدساتير المعاصرة القيود التى ارتأتها على سلطان المشرع فى مجال التجريم تعبيراً عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها فى غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافاً منها بأن الحرية فى أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وان الحقائق المريرة التى عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها تفرض نظاماً متكاملاً يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون – فى إطار أهدافه – حقوق الفرد وحرياته الأساسية بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة تشويها لأغراضها، وقد تحقق ذلك بوجه خاص من خلال ضوابط صارمة ومقاييس أكثر إحكاماً لتحديد ماهية الأفعال المنهى عن إرتكابها، بما يزيل غموضها، وعلى نحو يجرد المحكمة من السلطة التقديرية التى تقرر بها قيام جريمة أو فرض عقوبة بغير نص، كى تظل المصلحة الاجتماعية – فى مدارجها العليا – قيداً على السلطة التشريعية تحرياً للشرعية فى أعماق منابتها.
وحيث أن الدستور أعلى قدر الحرية الفردية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة فى النفس البشرية والتى لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيداً لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق فى تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجزائية قد تفرض على هذه الحرية – بطريق مباشر أو غير مباشر – أخطر القيود وأبلغها أاثراً. وينبغى بالتالى – وضماناً لتلك الحرية وإرساء لأبعادها التى تمليها طبيعتها – أن تكون درجة اليقين التى تكشف أحكام هذه القوانين عنها – وكقاعدة مبدئية لا تقبل الجدل – فى أعلى مستوياتها، وأظهر فيها منها فى غيرها. ولازم ذلك ألا يكون النص العقابى مشوباً بالغموض vague أو متميعاً overbroad.
وحيث أن غموض النص العقابى يعنى أن يكون مضمونه خافياً على أوساط الناس بإختلافهم حول فحواه ومجال تطبيقه وحقيقة ما يرمى إليه، فلا يكون معرفاً بطريقة قاطعة بالأفعال المنهى عن إرتكابها، بل مجهلاً بها ومؤدياً إلى إنبهامها. ومن ثم يكون إنفاذه مرتبطاً بمعايير شخصية قد تخالطها الأهواء، وهى بعد معايير مرجعها إلى تقدير القائمين على تطبيقه لحقيقة محتواه وإحلال فهمهم الخاص لمقاصده محل مراميه التى غالباً ما يجاوزونها إلتواء بها أو تحريفاً لها لينال من الأبرياء. وبوجه خاص فإن غموض النص العقابى يعوق محكمة الموضوع عن إعمال قواعد صارمة جازمة تحدد لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا لبس فيه، وهى قواعد لا ترخص فيها وتمثل إطاراً لعملها لا يجوز اقتحام حدوده. كذلك فإن غموض النص العقابى يحمل فى ثناياه مخاطر اجتماعية لا ينبغى التهوين منها. ويقع ذلك لان تطبيقه يكون انتقائياً منطوياً على التحكم فى أغلب الأحوال وأعمها، ولأن المواطنين الذين اختلط عليهم نطاق التجريم والتوت بهم مقاصد المشرع، يقعدون عادة – حذر العقوبة وتوقياً لها – عن مباشرة الأفعال التى داخلتهم شبهه تأثيمها. وإن كان القانون بمعناه العام يسوغها. بل أن الاتجاه المعاصر والمقارن فى شأن النصوص العقابية يؤكد أن الأضرار المترتبة على غموضها، لا تكمن فى مجرد التجهيل بالأفعال المن هى عنها، بل تعود – فى تطبيقاتها – إلى عنصر أكثر خطراً وابرز أثراً، يتمثل فى افتقارها إلى الحد الأدنى من الأسس اللازمة لضبطها والتى تحول كأصل عام بين القائمين على تنفيذها وإطلاق العنان لنزواتهم أو سوء تقديراتهم.
وحيث إنه متى كان ذلك، وكان الأصل فى النصوص العقابية هو أن تصاغ فى حدود ضيقة Narrowly Tailored لضمان أن يكون تطبيقها مُحكماً، فقد صار من الحتم أن يكون تميعها محظوراً، ذلك أن عموم عباراتها واتساع قوالبها، قد يصرفها إلى غير الأغراض المقصودة منها، وهى تحض دوماً على عرقلة حقوق كفلها الدستور أو تتخذ ذريعة للإخلال بها وفى مقدمتها حرية التعبير وحرية التنقل والحق فى تكامل الشخصية وفى أن يُؤمن كل فرد ضد القبض أو الاعتقال غير المشروع. ولئن جاز القول بأن تقدير العقوبة وتقرير أحوال فرضها هو مما يدخل فى نطاق السلطة التقديرية التى يمارسها المشرع فى مجال تنظيم الحقوق وفق الأسس الموضوعية التى يراها أصون لمصالح الجماعة وأحفظ لقيمها، إلا أن هذه السلطة حدها قواعد الدستور، ويندرج تحتها ألا يكون أمرالتجريم فُُُرُطَا. وهو ما يتحقق فى كل حال كلما كان النص العقابى محملاً بأكثر من معنى ، مرهقاً بأغلال تعدد تأويلاته، مرناً مترامياً على ضوء الصيغة التى أفرع فيها، مُتغولاً – من خلال انفلات عباراته – حقوقاً أرساها الدستور مقتحماً ضماناتها عاصفاً بها حائلاً دون تنفسها بغير عائق، ويتعين بالتالى أن يكون النص العقابى حاداً قاطعاً لا يُؤذِن بتداخل معانيه أو تشابكها، كى لا تنداح دائرة التجريم، وليظل دوماً فى إطار الدائرة التى يكفل الدستور فى نطاقها قواعد الحرية المنظمة ordered liberty .
وحيث إنه سواء كان النص العقابى غامضاً أو متميعا، فإن إنبهامه أو مجاوزته لغاياته، يجمعه ما التجهيل بحقيقة الأفعال المنهى عنها، وهو ما يناقض ضرورة أن تكون القيود على الحرية الشخصية التى تفرضها القوانين الجزائية محدده بصورة يقينية لا إلتباس فيها، ذلك أن هذه القوانين تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كى يدفعوا عن حقهم فى الحياة وكذلك عن حرياتهم تلك المخاطر التى تعكسها العقوبة . ومن ثم كان أمراً مقضياً أن تصاغ النصوص العقابية بما يحول دون إنسيابها أو القياس عليها أو تباين الآراء حول مقاصدها.
وحيث أن الدستور فى اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة ومتابعة خطاها والتقيد بمناهجها التقدمية قد نص فى المادة (٦٦) منه على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذى ينص عليها، وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره يتمثل أساساً فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى ، مفصحاً بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائى ابتداء فى زواجره ونواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على إرتكابه، إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً، ذلك أن العلائق التى ينظمها هذا القانون فى مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، فى علاماتها الخارجية ومظاهرها الواقعية وخصائصها المادية، إذ هى مناط التأثيم وعلته، وهى التى يتصور إثباتها ونفيها، وهى التى يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهى التى تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، بل إنه فى مجال تقدير توافر القصد الجنائى، لا تعزل المحكمة نفسها عن الواقعة محل الإتهام التى قام الدليل عليها قاطعاً واضحاً، ولكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجانى حقيقة من وراء إرتكابها، ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيراً خارجياً ومادياً عن إرادة واعية، ولا يتصور بالتالى وفقاً لأحكام الدستور أن توجد جريمة فى غيبة ركنها المادى، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التى أحدثها بعيداً عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه، ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية – وليس النوايا التى يضمرها الانسان فى أعماق ذاته – تعتبر واقعة فى منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكاً خارجياً مؤاخذاً عليه قانوناً، فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجياً فى صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة .
وحيث أن القانون الجمركى الصادر بالقانون رقم ٦٦ لسنة ١٩٦٣ قد نظم فى المادة (١٢١) منه بفقرتيها الأولى والثانية صورا مختلفة من التهريب، منها ما يعد تهريباً حقيقياً وكاملاً، ومنها ما يعتبر تهريباً حكمياً أجرى عليه المشرع حكم التهريب الحقيقى ، فأورد الفقرة الأولى من المادة (١٢١) المشار إليها لبيان الأحوال التى يكون فيها التهريب حقيقياً وتاماُ، فحصرها فى البضائع من أى نوع إلى جمهورية مصر العربية أو اخراجها منها بطرق غير مشروعة بدون أداء المكوس الجمركية المستحقة عليها كلها أو بعضها أو بالمخالفة للنظم المعمول بها فى شأن البضائع الممنوعة . ثم أعقبتها الفقرة الثانية التى تنظم الأحوال التى لا تكون السلعة فيها قد اجتازت حدود الدائرة الجمركية ، ولكنها تعامل باعتبار أن أفعالاً بذواتها قد قارنتها، وان اتصال هذه الأفعال بها، يجعل احتمال تهريبها أكثر رجحاناً وأدنى إلى الوقوع، ومن ثم اختص المشرع تلك الأفعال بالتجريم، واعتبر إتيانها جريمة تهريب تامة حكما، وليس شروعاً فى إرتكابها، ولو لم يكن تهريب السلعة قد تم فعلا. وفى هذا الإطار جرى نص الفقرة الثانية من المادة (١٢١) من القانون الجمركى – فى أجزائها المطعون عليها – التى صاغها المشرع على النحو الأتى ويعتبر فى حكم التهريب تقديم مستندات أو فواتير مزورة أو مصطنعة أو وضع علامات كاذبة أو إخفاء البضائع أو العلامات أو إرتكاب أى فعل آخر يكون الغرض منه التخلص من الضرائب الجمركية كلها أو بعضها أو بالمخالفة للنظم المعمول بها فى شأن البضاعة الممنوعة .
وحيث أن البين من الفقرة المطعون عليها انها تواجه السلع التى لم تزل بعد وراء الحدود الخارجية للدائرة الجمركية، ولكن أفعالاً اتصلت بها ترجح احتمال تهريبها. وتندرج هذه الأفعال تحت فئتين أولاهما: أفعال توخى المشرع بتجريمها حماية المصلحة الضريبية من خلال تأثيم كل فعل أو امتناع يلحق فى هذا النطاق الضرر بالخزانة العامة أو يعرض حقوقها للخطر وبوجه خاص فى مجال التحايل على الواقعة المنشئة للضريبة الجمركية التى تستحق على البضاعة موضوعها أو مخالفة النظم المعمول بها لتحديد وعائها أو لضمان تحصيلها. وقد حدد المشرع هذه الأفعال من خلال الغرض المقصود منها، فكل ما كان إرتكابها مستهدفاً التخلص من الضريبة الجمركية كلها أو بعضها، دل ذلك على وقوع مرتكبها فى دائرة التجريم. ثانيهما: أفعال تغيا المشرع بتجريمها حماية المصلحة الاقتصادية للدولة فى غير مجالاتها الضريبية، وبوجه خاص فى مجال حماية الصناعة الوطنية وتأمين انتعاشها وقد حدد المشرع هذه الأفعال كذلك بالنظر إلى مراميها، ذلك أن مرتكبها يؤاخذ عنها قانوناً كلما سعى بمقارفتها إلى مخالفة النظم المعمول بها فى شأن السلع الممنوع استيرادها.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكانت النظره الغائيه هى الجامعة بين هاتين الفئتين من الأفعال، وكان القانون الجمركى قد توخى صون المصلحة الكامنة وراء كل منهما، فإن من المنطقى أن يؤمن المشرع الحقوق المرتبطه بكلتيهما من خلال تجريم الأفعال التى تخل بها سواء اقترن إتيان هذه الأفعال بطرق احتيالية أم تجرد منها، وسواء بلغ المخاطبون بالنص المطعون فيه الأغراض المنافية للقانون التى يلتمسونها أم حالت دونها عوائق الرقابة الجمركية وحواجزها.
وحيث أن قاله التجهيل بالأفعال المعاقب عليها وفقاً للفقرة المطعون عليها لا محل لها، ذلك أن الأفعال التى انتظمتها هذه الفقرة محددة بطريقة واضحة لا إلتواء فيها وهى قاطعة فى اتجاهها مباشرة إلى الأغراض التى توختها لتأمين المصلحة المقصودة بالحماية . وقد ارتبط تأثيم الفئة الثانية من الأفعال التى نهت تلك الفقرة عن إرتكابها، بالنظم المعمول بها فى شأن البضائع الممنوع استيرادها أو تصديرها، وهى نظم قائمة لم يمتد الطعن الماثل إليها أو يتناولها بالتجريح. أما الفئة الأولى من الأفعال التى أثمها المشرع – وهى تلك التى ترمى إلى العدوان على محض المصلحة الضريبية – فقد دل الواقع العملى على صعوبة حصرها وإيرادها واحداً واحداً، ذلك أن الطرق والوسائل التى يبتدعها المكلفون بأداء الضريبة الجمركية بقصد التخلص منها، يتعذر رصدها أو إحصاؤها أو توقعها، وهى تتنوع فى صورها تبعاً لتطور العلوم التى تحمل معها الواناً جديده من المعرفة كان التنبؤ بها أو الإرهاص بإحتما لاتها بعيداً. ولم يكن أمام المشرع من خيار فى مجال تحديد الأفعال المنهى عنها، إلا أن يُبينها من خلال ضابط عام لا يجهل بمضمونها أو يثير اللبس حول حقيقتها، بل يحدد محتواها بالرجوع إلى مرماها أو الغرض المقصود منها، جاعلاً بذلك مناط تجريمها إرتكابها بقصد التخلص من الضريبة الجمركية المقررة على البضاعة التى يراد تهريبها. وقد أورد القانون الجمركى – من خلال النص المطعون عليه – صوراَ من الأفعال التى تدخل فى إطار هذا المعيار العام وتعتبر من تطبيقاته، ومن ذلك تزوير الجانى لأوراق أو اصطناعها فى شأن البضائع موضوعها، أو وضع علامات كاذبة عليها أو محاولة إخفائها توقياً لأداء الضريبة الجمركية المقررة عليها.
بيد أن هذه الأفعال جميعها وإن اختصها القانون الجمركى بالبيان، إلا أنها لا تختلف فى غاياتها عن تلك التى ترمى إلى التخلص من الضريبة الجمركية بوجه آخر. وإفراغ النص المطعون فيه على هذا النحو تعريفاً بالأفعال التى جرمها، لا يعدو أن يكون تبنياً للقوالب الفنيه للصياغة التى يلجأ فيها المشرع إلى التعميم بعد التخصيص. كذلك فإن إعتداد القانون الجمركى بضابط عام يكون كاشفاً عن ماهيه الأفعال التى حظرها ومُحَدداً لمضمونها، لا إبتداع فيه، وليس أمراً فريداً أو دخيلاً، ذلك أن القانون الجنائى – وهو الشريعة العامة التى تنتظم الجرائم وتحدد عقوباتها – كثيراً ما يعتمد هذا المنحى فى التأثيم، ودليل ذلك أن جريمة استيلاء الموظف العام على الأموال العامة ، وفقاً لنص المادة (١١٣) من قانون العقوبات تتحقق بأى فعل يأتيه الجانى لانتزاع حيازتها بقصد تملكها بغير حق وبأية وسيلة يراها مؤدية إلى الحصول عليها. كذلك تقع جريمة القتل المنصوص عليها فى المادة (٢٣٠) منه بكافة صور الاعتداء على حق الإنسان فى الحياة – وهو حق متأصل فيه – وذلك كلما كان القصد منها إزهاق الروح.
وحيث إنه متى كان ذلك، وكان بيان الأفعال التى عينها النص التشريعى المطعون فيه على النحو المتقدم لا يناهض أحكام الدستور الذى خول السلطة التشريعية فى مجال تنظيمها للحقوق – وبما لا إخلال فيه بالمصلحة العامة – أن تحدد وفق أسس موضوعية ومن خلال النظم العقابية التى تقرها، أركان كل جريمة دون أن يفرض عليها طرائق بذاتها لضبطها تعريفاً بها، ودون إخلال بضرورة أن تكون الأفعال التى جرمتها هذه النظم قاطعة فى بيان الحدود الضيقة لنواهيها، فلا يشوبها الغموض أو تتداخل معها أفعال مشروعة يحميها الدستور، وكان من المقرر أن القوانين الجنائية لا تتناول إلا صور النشاط المحددة معالمها الواضحة حدودها والتى يمكن ربطها بمضار اجتماعية ، وكان القانون الجزائى معنى بالأفعال الخارجية التى تناقض المصلحة المقصودة بالحماية أو التى يمكن أن تضر بها، وكان الركن المادى لكل جريمة يعكس التعبير الخارجى عن إرادة مرتكبها باعتبارها إرادة واعية مختارة يسيطر الفاعل من خلالها على ظروف مادية معينة ابتغاء بلوغ نتيجة إجرامية تتمثل فى الإعتداء على الحق الذى يحميه القانون، وكانت إرادة إتيان الأفعال محل التنظيم التشريعى الماثل مع العلم بالوقائع التى تعطيها دلالتها الإجرامية هى التى يتوافر بها القصد الجنائى العام، فإن التنظيم العقابى المطعون عليه – وقد تحقق فى الجريمة التى نص عليها ركناها المادى والمعنوى معا – لا يكون مخالفاً للدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعى المصروفات ومائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة .