حق النقد كسبب للإباحة ومقتضياته
بقلم: الأستاذ/ محمود سلامة
إن حق النقد من أهم الحقوق التي تشير إلى مدى تقدم الأمة، وتكشف مدى سؤها، ارتباطًا بفكرة الحرية ذاتها.
وليست الحرية تؤخذ هكذا على عواهنها، فندعي أنها مطلقة، لا قيود عليها لتنظيمها، فهنا ستكون فوضى تؤدي إلى انهيار المجتمع وسقوطه.
ومن مقتضيات الحرية حرية التعبير، ومن مقتضيات حرية التعبير حرية النقد. والنقد قد يلتبس بجريمتي السب والقذف، بما يخلط بينهما، فهل نظم القانون حق النقد ووضع له قواعد تضمن شرعيته وعدم الالتباس بينه وبين جريمتي السب والقذف؟
وقد نص الدستور المصري على هذا الحق في المادة «٦٥» التي تنص على أن “حرية الفكر والرأي مكفولة ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر”
كما نص في مادته ٤٧ على أن “النقد الذاتي والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطني” وكما ورد في حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن 42 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية أن الحق في النقد – وخاصة في جوانبه السياسية – يعتبر إسهاما مباشرًا في صون نظام الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وضرورة لازمة للسلوك المنضبط في الدول الديمقراطية، وحائلا دون الإخلال بحرية المواطن في أن “يعلم”، وأن يكون في ظل التنظيم بالغ التعقيد للعمل الحكومي، قادرا على النفاذ إلى الحقائق الكاملة المتعلقة بكيفية تصريفه. على أن يكون مفهوما أن الطبيعة البناءة للنقد – التي حرص الدستور على توكيدها – لا يراد بها أن ترصد السلطة التنفيذية الآراء التي تعارضها لتحدد ما يكون منها في تقديرها موضوعيا، إذ لو صح ذلك لكان بيد هذه السلطة أن تصادر الحق في الحوار العام. وهو حق يتعين أن يكون مكفولا لكل مواطن وعلى قدم المساواة الكاملة. وما رمى إليه الدستور في هذا المجال هو ألا يكون النقد منطويا على أراء تنعدم قيمها الاجتماعية، كتلك التي تكون غايتها الوحيدة شفاء الأحقاد والضغائن الشخصية، أو التي تكون منطوية على الفحش أو محض التعريض بالسمعة.
كما لا تمتد الحماية الدستورية إلى آراء تكون لها بعض القيمة الاجتماعية، ولكن جرى التعبير عنها على نحو يصادر حرية النقاش أو الحوار، كتلك التي تتضمن الحض على أعمال غير مشروعة تلابسها مخاطر واضحة تتعرض لها مصلحة حيوية.
إذ كان ذلك فإن الطبيعة البناءة للنقد، لا تفيد لزوما رصد كل عبارة احتواها مطبوع، وتقييمها – منفصلة عن سياقها – بمقاييس صارمة. ذلك أن ما قد يراه إنسان صوابا في جزئية بذاتها، قد يكون هو الخطأ بعينه عند آخرين. ولا شبهة في أن المدافعين عن أرائهم ومعتقداتهم كثيرا ما يلجأون إلى المغالاة، وأنه إذا أريد لحرية التعبير أن تتنفس في المجال الذي لا يمكن أن تحيا بدونه، فإن قدرا من التجاوز يتعين التسامح فيه. ولا يسوغ بحال أن يكون الشطط في بعض الآراء مستوجبا إعاقة تداولها.
وما سبق لهو خير مبين لما قد يحدث من التباس بين حق النقد وجريمتي السب والقذف وبخاصة إذا انصبوا على أحد موظفي العموم على اختلاف درجاتهم أو شخصية ذات صفة نيابية أو مرشحٍ انتخابيٍّ.
فقد يكون النقد لاذعًا قاسيًا، ولكن يجب أن تكون له حدود ومعايير يقف عندها الناقد بحيث إذا تجاوزها فإنه يكون تجاوز حدود النقد المباح إلى غير المباح بما قد يشكل جريمة السب أو القذف أو كلتيهما وقد تكون مرتبطة بجريمة من جرائم النشر.
ومن الواجب ذكر أن حق النقد سببٌ من أسباب الإباحة، يجوز به ما لا يجوز بسواه، ولكنه سبب لإباحة ما قد يعاقب عليه القانون من جرائم النشر، أو ما يعده القانون قذفًا، ولكنه لا يكون أبدًا سببًا مبيحًا للسب، حيث لا ينتج السب بحال في مسائل النقد المباح.
فيعد حق النقد سببًا للإباحة شريطة أن يكون:
*مثبتًا، أي تعاضد تحققه أدلة ثبوت يجب أن تتوافر لدى الناقد ويكون عالمًا بهل، بحيث لا تلقى الاتهامات في معرض النقد بجهالة تشير إلى سوء النية.
*قائمًا على حسن نية الناقد. فيجب ألا يبين ان للناقد غرضًا شخصيًا وإنما يكون نقده الموجع للملصحة العامة.
*لمصلحة المجتمع. فما لم يكن النقد ذا نفعٍ عائدٍ على المجتمع فإن الحكمة من النقد تكون تجاوزت معيار المصلحة بما قد تحمل معه اعتداءً على الحياة الشخصية للمنتقد.
*مراعيًا للآداب العامة. فالآداب العامة هي عين النظام العام، ولا يجوز مخالفة النظام العام لأي سبب غير ظرف قاهر لم يكن بيد مخالفه دفعه أو توقيه.
*غير حامل بذاته انتهاكًا للحياة الشخصية إلا بالقدر الذي لا ينفصل فيه ذلك عن موضوع النقد ويكون لازمٌ له.
ومثال على هذا النقطة ذكر أن مرشحٌ نيابي غير حسن السمعة لارتكابه ما يشين سمعته، كجريمة اغتصاب أو تحرش أو رشوة أو تزوير.
فلا يجوز أن يحمل النقد عبارات سبٍ وقذفٍ غير منتجة في أمر النقد. فهي بذا تشكل جريمة معاقب عليها ولا يجوز فيها الادعاء بأن مجرد حق النقد سبب إباحة للسب أو القذف.
*موجهًا للعامة وليس لشخص المنتقد، أو للمنتقد أمام المجتمع في صيغة سؤال أو مواجهة مع التزام الحدود التي رسمها القانون.
ويجب ألا يكون النقد متجاوزًا لحده كسبب من أسباب الإباحة، فلا يستمرئ الناقد تجاوزه لينال من شخص المنتقد لتحقيق مكتسبات شخصية له أو للغير.
ويجب ألا يستخدم النقد كسلاح تهديدي معنوي ضد ابمنتقد، فإما ينصاع لما يطلب منه وإما يعلن ما لدى المبتز من معلومات. فإن هذا الفعل بذاته يشكل جريمة، وكل ما يهدد سلامة الاخرين الجسدية والمعنوية يعد ارتكابه جريمة في غير ظرف قاهر.
وبذا نكون قد سلطنا الضوء على حق النقد ومقتضياته. فإلى مقال آخر نتحدث فيه عن أنواع النقد وموضوعه.