حق الدفاع في الدعوى الجنائية

مقال بقلم: الدكتور أشرف نجيب الدريني

تثور العديد من التساؤلات الجوهرية عند تناول موضوع الدفاع في الدعوى الجنائية: هل تُمنح جميع الأطراف فرصًا متكافئة في عرض دفاعها؟ وهل يضمن النظام الإجرائي تمكين المتهم، كطرف أضعف أمام سلطة الاتهام، من ممارسة حقوقه دون قيود ظاهرة أو خفية؟ وما أثر الإخلال بحق الدفاع على سلامة الخصومة الجنائية؟ وهل تتحقق العدالة إذا اختل توازن المركز الإجرائي بين الخصوم؟ وهل يكفي أن يُسمح للدفاع بالكلام، أم أن مقتضى المساواة الحقيقية يوجب توفير نفس الظروف الموضوعية والمكانية للطرفين؟ هذه الأسئلة، وغيرها، تفتح الباب واسعًا أمام بحث طبيعة الدفاع في الدعوى الجنائية، وأهميته، وضماناته، وأثر المساس به على مشروعية الإجراءات والأحكام.

إن الدفاع في الدعوى الجنائية يُعد تجسيدًا حيًا لمبدأ جوهري من مبادئ العدالة، قوامه أن كل متهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات. ومن ثم، فإن مقتضى هذا الأصل أن تتاح للمتهم كافة الوسائل القانونية التي تكفل له عرض دفاعه، ومناقشة أدلة الاتهام، والرد عليها بحرية واستقلال كاملين. غير أن الحق في الدفاع لا يقتصر على مجرد السماح للمتهم أو لمحاميه بالكلام أمام المحكمة، بل يتجاوز ذلك إلى ضرورة تمكينه من ممارسة دفاعه بصورة فعّالة وجدية، في إطار من المساواة الحقيقية لا الصورية. ومن ثم، فإن المساواة الحقة تقتضي أن تكون كافة الظروف المادية والمعنوية التي تحيط بممارسة الدفاع متكافئة بين طرفي الخصومة.

ويظهر الإخلال الدقيق بمبدأ المساواة حين نلحظ أن بعض الأنظمة القضائية ما زالت تضع ممثل سلطة الاتهام، أي النيابة العامة، على منصة القضاء بجوار القضاة، في حين يُخصص للدفاع موضع أدنى. ولا يخفى أن هذا الترتيب المكاني، وإن بدا شكليًا، إلا أنه يحمل دلالات رمزية عميقة توحي بتفوق مركز الاتهام على مركز الدفاع، بما ينال من مبدأ المساواة بين الخصوم، ويخدش الشعور العام بالعدل والإنصاف الذي يجب أن تسود أجواء المحاكمة. وإذا كان للنيابة العامة وضع خاص باعتبارها ممثلة للمجتمع، فإن ذلك لا يبرر أي تمييز من شأنه أن يخل بتكافؤ المركزين في ساحة التقاضي.

وقد جاء التوجيه القرآني داعمًا لهذا المبدأ الأصيل حين قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ [النساء: 135].فمقتضى هذا الأمر الإلهي أن يكون القائم على أمر القضاء أو الخصومة محايدًا، مقيمًا للعدل قسطًا، لا يميل بطرف على حساب آخر، ولو كان الميل إلى النفس أو إلى من تربطه به صلة قربى. ومتى التزم القاضي والمشاركون في الخصومة بهذا المنهج الرباني، استقامت المحاكمة على أصولها، وساد العدل الحقيقي الذي لا تشوبه شائبة محاباة أو انحياز.

ومن المؤكد أن الإخلال بحق الدفاع لا يمثل مجرد عيب شكلي في الإجراءات يمكن التغاضي عنه، بل إنه يُعد مساسًا جوهريًا ببنية الخصومة الجنائية، ويؤدي إلى بطلان الحكم متى ثبت أن هذا الإخلال كان له أثر في النتيجة. فحق الدفاع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمبدأ المحاكمة العادلة، الذي كفلته الدساتير والمواثيق الدولية كافة، ويقتضي من القاضي أن يحرص على تمكين جميع الأطراف من ممارسة دفاعهم بصورة فعّالة ومتكافئة، بعيدًا عن أي مظاهر تمييز صريح أو ضمني.

وتأسيسًا على ذلك، فإن حماية الدفاع لا تقف عند ضمان حق المتهم في إبداء دفوعه، بل تمتد إلى توفير بيئة إجرائية عادلة تتساوى فيها مراكز الأطراف أمام القاضي، وتُزال منها كافة المؤثرات الشكلية أو المادية التي قد توحي بتفوق أحد الخصوم على الآخر. فكلما اختل هذا التوازن الدقيق، تهددت مشروعية الخصومة، واهتزت ثقة الأفراد في نزاهة القضاء، وتعرضت دولة القانون لأخطار جمة.

وعندما تتساوى حقوق طرفي الدعوى الجنائية، ترتقي المحاكمة إلى أسمى معاني العدالة المجردة، حيث يتوازن ميزان الخصومة بين سلطة الاتهام ودفاع المتهم، فيغدو كل طرف قادرًا على عرض أدلته ودفوعه تحت نفس الظروف والشروط، دون تفاضل أو تحيز. فالمساواة بين الطرفين لا تقتصر على منح كل منهما الحق في الحديث أو تقديم المستندات، بل تمتد إلى تهيئة بيئة إجرائية عادلة، يتحقق فيها تكافؤ حقيقي في الفرص والمراكز. ويصبح القاضي حينئذٍ محكمًا نزيهًا بين طرفين متساويين، لا ترجح كفة أحدهما مظاهر السلطة أو رمزية المكان. إن ضمان تساوي الحقوق داخل قاعة المحكمة لا يحقق فقط مشروعية الحكم القضائي، بل يحمي جوهر المحاكمة العادلة ويصون الثقة العامة في العدالة. فحيثما يتساوى الخصمان أمام منصة القضاء، تزدهر الحرية، ويسمو القانون، ويعلو صوت العدل فوق كل هوى.

وفي هذا السياق، يبرز قول النبي ﷺ حين قال: “إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو يذرها.” فهذا الحديث الشريف يجسد أرقى معاني العدل القضائي، ويعبر عن أن تفوق أحد الخصوم في البيان لا يعني بالضرورة صحة دعواه، وأن القاضي يحكم بما ظهر له من الأدلة لا بما استقر في علم الغيب. ومن هنا، فإن العدالة لا تتحقق إلا إذا تكافأت مراكز الخصوم، وتساوت فرص الدفاع، وتجردت قاعة المحكمة من كل ما يمكن أن يميل بكفة أحدهما بفعل الشكل أو المظهر أو الرمز.

ومن الأصول الدستورية الراسخة التي تكرّس مبدأ المساواة بين أطراف الدعوى الجنائية، ما نصّت عليه المادة 96 من الدستور المصري، التي تقضي بأن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. ويستفاد من هذا النص أن ضمان حق الدفاع ليس ترفًا إجرائيًا، بل هو ركن أصيل من أركان المحاكمة العادلة. فالمساواة الحقيقية لا تقتصر على تهيئة الفرصة الشكلية للدفاع، بل تقتضي تمكين المتهم من ممارسة حقه في الدفاع فعليًا وعلى قدم المساواة مع سلطة الاتهام، بما في ذلك إتاحة الوسائل والأدوات، وإفساح المجال لسماع دفوعه، وتقدير حججه بما يكافئ مركز الادعاء في الخصومة. ولئن كان الاتهام يحظى بمنصة ظاهرة تتيح له عرض أدلته بقوة، فإن مقتضى العدالة أن يتمتع الدفاع بذات المكانة الإجرائية التي تضمن وصول صوته بوضوح وتأثير. ومن ثم، فإن المادة 96 تمثل حجر الزاوية في بناء دعامة التوازن والعدل بين طرفي الدعوى الجنائية.

وهكذا، فإن الإجابة عن التساؤلات التي طرحت في مستهل هذا المقال تقود إلى نتيجة حاسمة مفادها أن الدفاع في الدعوى الجنائية ليس امتيازًا يمنح، بل هو حق جوهري لا تقوم العدالة بدونه، وأن ضمان هذا الحق لا يتحقق إلا بتكافؤ حقيقي وكامل بين أطراف الخصومة، من حيث الحقوق والفرص والمراكز المادية والمعنوية على حد سواء. فالعدالة، كما قيل بحق، لا تكتفي بأن تُمارس، بل يجب أن تبدو كذلك في أعين الجميع. “العدل لا يُحقق حين يصرخ طرف من أعماقه ولا يُسمع، بل حين يُتاح لكل طرف أن يقف أمام القاضي مرفوع الرأس، كامل الكلمة، متكافئ المركز.” والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى