جريمة استيفاء الحق بالذات
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة – المستشار القانوني بدائرة القضاء – أبو ظبي
مقدمة
في المجتمعات البدائية، كان المبدأ السائد هو الانتقام والثأر الفردي والجماعي واستيفاء الحق بالذات. وقد كان ذلك طبيعياً في هذه المجتمعات، حيث كان انعدام السلطة المركزية سبباً لاتخاذ العقوبة صورة التعبير عن شهوة الانتقام التي يولدها لدى المجني عليه ارتكاب الجريمة ضده. فكان رد الفعل الاجتماعي الذي يعقب الجريمة هو أن يهب المجني عليه بعون الأقربين إليه لكي ينتقم من الجاني.
ولكن، ومع مرور الزمان، وظهور الدولة، ارتأت الحكومات أن تستأثر لنفسها بسلطة إقرار النظام وإرساء الأمن وتحقيق العدالة في المجتمع. وتطلب إرضاء الشعور العام بالعدالة وجود سلطة مختصـة للملاحقة وفرض العقاب استناداً الى وجـوب مقابلة شر الجـريمة بجـزاء، لإرضـاء الشعور بالعدالـة عـبر الاقتـصاص من المذنب. وهكذا، حلّت اعتبارات العدالة في الفكر الانساني محل الانتقام الفردي والجماعي. ومن ثم، أصبح من المبادئ الراسخة، في أغلبية المجتمعات، أن الجريمة تخلّ بأمن المجتمع واستقراره، وتستوجب ملاحقة من ارتكبها وإنزال الجزاء به. وإذا كانت الملاحقة والعقاب قد تولاها في العهود القديمة الشخص الذي وقعت عليه الجريمة عن طريق الثأر بنفسه من الذي اعتدى عليه، فإن الدولة أصبحت، بعد أن قامت مقوماتها وقوي سلطانها، تتولى بنفسها ملاحقة الجاني ومحاكمته والاقتصاص منه، عبر السلطة القضائية المستقلة والمحايدة، وبعد التحقق من توافر أركان الجريمة ونسبتها إلى الجاني.
وفي ظل هذه الفلسفة الجديدة، كان من الطبيعي اعتبار استيفاء الحق بالذات عملاً غير مشروع، يقع تحت طائلة المسئولية الجنائية. وسنحاول فيما يلي إلقاء الضوء على خطة التشريعات العربية في هذا الشأن، متبعين ذلك ببيان الصور المختلفة لاستيفاء الحق بالذات، وصولاً إلى الوقوف على الحكم القانوني المقرر لها، وذلك في مباحث سبعة، على النحو التالي:
المبحث الأول: جريمة استيفاء الحق بالذات في خطة التشريعات العربية.
المبحث الثاني: الاحتيال لاسترداد المال الموجود في حيازة الغير.
المبحث الثالث: الاحتيال للحصول على حق.
المبحث الرابع: سرقة الأموال المملوكة للمتهم التي تقع في حيازة الغير.
المبحث الخامس: استيلاء الدائن على مال لمدينه.
المبحث السادس: انتهاك المالك حرمة حيازة الغير.
المبحث السابع: قيام المحكوم له بالحضانة بخطف المحضون.
المبحث الأول
جريمة استيفاء الحق بالذات في خطة التشريعات العربية
تمهيد وتقسيم:
باستقراء خطة التشريعات الجنائية العربية بشأن مدى مشروعية استيفاء الحق بالذات، يبدو سائغاً التمييز بين اتجاهين: أولهما، يجرم بمقتضى نص خاص سلوك استيفاء الحق بالذات. أما ثانيهما، فقد ورد خلواً من نص تجريم خالص في هذا الشأن، الأمر الذي يستوجب الرجوع إلى القواعد العامة، والنظر بخصوص كل جريمة على حده عن حكم استيفاء الحق بالذات.
اتجاه تجريم استيفاء الحق بالذات بنص خاص
حرصت بعض التشريعات الجنائية العربية على تجريم سلوك استيفاء الحق بالذات، وذلك بموجب نص خاص، يحدد النموذج القانوني لهذه الجريمة والعقوبة المقررة لها. فعلى سبيل المثال، وطبقاً للمادة (924) من قانون العقوبات اللبناني، «من أقدم على استيفاء لحقه بالذات وهو قادر على مراجعة السلطة ذات الصلاحية بنزع مال في حيازة الغير أو استعمال العنف بالأشياء فأضر بها، عوقب بغرامة لا تجاوز المئتي ألف ليرة». ولم يكتف المشرع اللبناني بهذا النص، وإنما يقرر تشديد العقوبة متى اقترن استيفاء الحق بالذات باستخدام العنف. إذ تنص المادة (430) من قانون العقوبات اللبناني على أنه «إذا اقترف الفعل المذكور في المادة السابقة بواسطة العنف على الأشخاص أو باللجوء على إكراه معنوي عوقب الفاعل بالحبس ستة أشهر على الأكثر، فضلاً عن الغرامة المحددة أعلاه. وتكون العقوبة الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين إذا استعمل العنف أو الإكراه شخص مسلح أو جماعة من ثلاثة أشخاص أو أكثر ولو غير مسلحين». ووفقاً للمادة (431) من قانون العقوبات اللبناني، «تتوقف الملاحقة على شكوى الفريق المتضرر إذا لم تقترن الجنحة المذكورة بجريمة اخرى تجوز ملاحقتها بلا شكوى».
ونص المشرع الأردني على جريمة استيفاء الحق بالذات، وذلك في الفصل الثالث من الباب الثالث من الكتاب الثاني من قانون العقوبات لسنة 1960م. وعنوان الفصل المشار إليه هو «في استيفاء الحق بالذات». أما عنوان الباب، فهو «الجرائم التي تقع على الإدارة العامة». إذ تنص المادة (233) من قانون العقوبات الأردني على أن «من استوفى حقه بنفسه وهو قادر على أن يراجع في الحال السلطة ذات الصلاحية عوقب بالحبس مدة لا تقل عن شهر ولا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة لا تقل عن خمسين دينارا أو بكلتا هاتين العقوبتين». وتقرر المادة (234) من القانون ذاته تشديد العقوبة، إذا اقترنت الجريمة بالعنف، وذلك بنصها على أنه «إذا أقترن الفعل المذكور في المادة السابقة بالعنف، عوقب الفاعل بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد على سنة وبغرامة لا تقل عن مئة دينار». ورغم أن الجريمة المشار إليها هي إحدى الجرائم التي تقع على الإدارة العامة، فإن المادة (235) من قانون العقوبات الأردني تنص على أن «تتوقف الملاحقة على شكوى الفريق المتضرر إذا لم تقترن الجنحة المذكورة بجريمة أخرى تجوز ملاحقتها بلا شكوى».
وبدوره، ينص قانون العقوبات السوري رقم (148) لسنة 1949م على جريمة استيفاء الحق بالذات، وذلك في الفصل الثالث من الباب الرابع، معتبراً إياها من «الجرائم المخلة بالإدارة القضائية». إذ تنص المادة (419) من هذا القانون على أن «من أقدم استيفاء لحقه بالذات وهو قادر على مراجعة السلطة ذات الصلاحية بالحال على نزع مال في حيازة الغير أو استعمال العنف بالأشياء فاضر بها عوقب بغرامة لا تتجاوز المئة ليرة». وتنص المادة (420) من القانون ذاته على أنه «1- إذا اقترف الفعل المذكور في المادة السابقة بواسطة العنف على الأشخاص أو باللجوء إلى إكراه معنوي عوقب الفاعل بالحبس ستة أشهر على الأكثر فضلاً عن الغرامة المحددة أعلاه. 2- وتكون عقوبته الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين إذا استعمل العنف أو الإكراه شخص مسلح أو جماعة من ثلاثة أشخاص أو أكثر ولو كانوا غير مسلحين». ورغم أن هذه الجريمة هي من الجرائم المخلة بالإدارة القضائية، فإن المادة (421) من قانون العقوبات السوري تنص على أن «تتوقف الملاحقة على شكوى الفريق المتضرر إذا لم تقترن الجنحة المذكورة بجريمة أخرى تجوز ملاحقتها بلا شكوى».
وفي الاتجاه ذاته، ووفقاً للمادة (287) من قانون العقوبات الليبي، «يعاقب بغرامة لا تجاوز مئة دينار كل من كان بإمكانه الرجوع إلى السلطة القضائية للحصول على حق مزعوم وانتزاع ذلك الحق بيده باستعمال العنف ضد الأشياء. ويعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة إذا كان الفعل مصحوباً بتهديد الأشخاص أو باستعمال العنف ضدهم. فإذا اقترن العنف أو التهديد على الأشخاص بالعنف ضد الأشياء فتطبق العقوبتان المذكورتان في الفقرتين السابقتين». وتقرر المادة (288) من القانون ذاته تشديد العقوبة في حالات معينة، بنصها على أنه «في الحالات المذكورة في المادة السابقة تزداد العقوبات بمقدار لا يتجاوز الثلث:
1. إذا ارتكب الفعل بعد اللجوء إلى القضاء وقبل النطق بالحكم.
2. أو إذا كان استعمال العنف على الأشخاص أو تهديدهم مصحوباً بالسلاح».
اتجاه التشريعات الخالية من نص خاص بتجريم استيفاء الحق بالذات
باستثناء التشريعات سالفة الذكر، وردت معظم التشريعات الجنائية العربية خلواً من نص خاص بشأن تجريم استيفاء الحق بالذات. ولعل المثال الأبرز على هذا الاتجاه يكمن في قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937م.
وجدير بالذكر في هذا الشأن أن المادة (190) من قانون الجزاء العماني الملغي لسنة 1974م تنص على أن «يعاقب بالغرامة من ريال واحد إلى خمسين ريالاً كل من أقدم بذاته على نزع حق له عند الغير وهو قادر على مراجعة السلطات المختصة. إذا ارتكب الفعل بواسطة العنف على الأشخاص أو باللجوء إلى إكراه معنوي عوقب الفاعل بالسجن ستة أشهر على الأكثر فضلا عن الغرامة المحددة أعلاه. ويكون العقاب بالسجن من ثلاثة أشهر إلى سنتين والغرامة من عشر ريالات إلى ثلاثمائة أذا كان الفاعل مسلحاً واستعمل العنف أو الإكراه وكان جماعة من ثلاثة أشخاص فأكثر ولو غير مسلحين. تتوقف الملاحقة على شكوى المتضرر أذا لم تقترن الجنحة المذكور بجريمة أخرى تجوز ملاحقتها بلا شكوى». ولكن، وبالاطلاع على قانون الجزاء العماني الجديد، الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 7/ 2018، نجد أنه قد ورد خلواً من نص مماثل.
وإزاء خلو هذه التشريعات من نص خاص في هذا الشأن، يغدو من الطبيعي الرجوع إلى نصوص التجريم العامة، والنظر فيما إذا كان سلوك استيفاء الحق بالذات في صدد كل جريمة على حده يقع تحت طائلة التجريم أم لا.
المبحث الثاني
الاحتيال لاسترداد المال الموجود في حيازة الغير
يشترط في جريمة النصب أن يكون موضوعها مملوكاً للغير. وعلة هذا الشرط أن النصب اعتداء على حق الملكية. وهذا الاعتداء غير متصور إلا إذا كان المال الذي ينصب عليه مملوكاً لشخص غير المتهم، ذلك أنه إذا كان ملكاً له، فلا يتصور الاعتداء على الملكية. وتطبيقاً لذلك، فإنه إذا سعى شخص إلى أن يسترد – عن طريق التدليس – المال الذي يملكه ممن يحوزه بناء على سبب غير مشروع، بل وبناء على سبب مشروع، فإنه لا يرتكب جريمة نصب (د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، وفقاً لأحدث التعديلات التشريعية، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الرابعة، سنة 2012م، رقم 1435، ص 1182 و1183).
وفي الاتجاه ذاته، يؤكد بعض الفقه أن القاعدة في جريمة النصب – وفي سائر جرائم الاعتداء على المال – أن يكون محلها مالاً مملوكاً للغير. ومن ثم، فإنه إذا توصل شخص بطريق الاحتيال إلى استرداد ماله، فلا يقع النصب (د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص، الكتاب الثاني، جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة السادسة، طبعة مزيدة ومنقحة، 2016م، رقم 471، ص 654).
ووفقاً لرأي الفقيه الفرنسي جارسون، فإن النصب لا يقع في هذه الحالة لعدم توافر الضرر. والواقع أن الضرر من الأركان الجوهرية لجريمة النصب، فيتعين على الحكم القاضي بعقاب من اتهم بالنصب أن يبين الوقائع والظروف التي تكون الضرر بياناً تاماً، وإلا وجب نقضه لعدم اشتماله على أسباب كافية (نقض 20 نوفمبر 1915م، المجموعة الرسمية، س 17، رقم 49، ص 77). ومع ذلك، فإن هذا الرأي قد جانبه الصواب. فعلى حد قول بعض الفقه، الأصح أن يقال إن النموذج الإجرامي لجريمة النصب لم يتوافر في هذه الحالة، وذلك بالنظر لعدم وقوع السلوك المنسوب للمتهم على مال مملوك للغير (د. أحمد فتحي سرور، المرجع ذاته، رقم 471، ص 654، هامش رقم 2).
المبحث الثالث
الاحتيال للحصول على الحق
ذهبت بعض أحكام المحاكم قديماً إلى أن يعد مرتكباً لجريمة النصب من اتخذ طرقاً احتيالية وصل بها إلى الحصول على مبلغ من المال، ولو كان ديناً مستحقاً له (راجع على سبيل المثال: تلا الجزئية، 10 سبتمبر 1916م، المجموعة الرسمية، س 17، رقم 118، ص 205م، مشار إليه في مؤلف الأستاذ الدكتور حسن صادق المرصفاوي، المرصفاوي في قانون العقوبات تشريعاً وقضاءً في مائة عام، منشأة المعارف بالإسكندرية، د. ت، المادة 336، رقم 4324، ص 1397).
وفي الاتجاه ذاته، يرى بعض الفقه أن الدائن لا يعتبر مالكاً لشيء من أموال مدينه. فإذا استولى بالتدليس على مال لمدينه، فإنه يكون مرتكباً لجريمة النصب. ولا يصلح دفاعاً له قوله إن ما استولى عليه يعادل حقه أو يقل عنه. ذلك أنه ليس من أركان النصب أن يثرى الجاني أو أن يفتقر المجني عليه؛ ولا يصلح دفاعاً له كذلك قوله إن باعثه إلى فعله كان استيفاء حقه فحسب، ذلك أن الباعث غير السيء لا ينفي القصد (د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، وفقاً لأحدث التعديلات التشريعية، المرجع السابق، رقم 1435، ص 1183).
وربما يكون من المفيد في هذا الشأن الإشارة إلى إحدى الفتاوى الدينية الصادر عن دار الإفتاء المصرية بشأن «التحايل بطريقة غير مشروعة لأخذ الحقوق». ففي الحادي عشر من شهر ديسمبر 1981م، وفي الفتوى رقم (1972)، وتحت عنوان التحايل بطريقة غير مشروعة لأخذ الحقوق، أجاب فضيلة المفتي الشيخ جاد الحق على جاد الحق عن السؤال التالي: شخصٌ يقول إنه يشتغل في شركة قطاع خاص، وقد اتفق معه صاحب العمل على أجرٍ إضافيٍّ بواقع 50% من الأجر الأصلي إذا مكث في العمل من الساعةِ السابعةِ صباحاً حتى الساعة السادسة مساءً، وأنه قَبِل ونفَّذَ العمل في هذه المدة طوال أيام الشهر، وأنه في نهاية الشهر صرف له صاحبُ العمل المرتبَ فقط، وامتنع عن صرف الـ 50% المتَّفقِ عليها أجراً إضافيّاً، وأن السائل -بحكم وضعه في العمل – قبض مبلغ 130 جنيهاً لشراء مستلزماتٍ للورشة مع أن الورشة في غير حاجةٍ إلى شراء هذه المستلزمات، وبعد أن قبض هذا المبلغ في يده ذهب إلى الإدارة المالية بالشركة لحساب قيمة الأجر الإضافي وهو الـ 50% فبلغ 95 جنيهاً أَخذَهَا من المبلغ الذي كان قد قبضه لحساب شراء المستلزمات وردَّ إلى إدارة الشركة الباقي وهو 35 جنيهاً؛ إعلاماً لصاحب العمل بأنه قد فعل ذلك لهذا الغرض. والسؤال: ما رأي الدين، هل طريقة أخذه للمبلغ والحصول عليه مُحرَّمَةٌ، أو حلال؟
ورداً على هذا السؤال، كان الجواب على النحو التالي: ما فعله السائل يُعَدُّ حيلةً غير مشروعة؛ لأنه أَخَذَ المال من صاحب العمل لشراء بعض المستلزمات نيابةً عنه، فصار في هذه الحالة وكيلاً في الشراء وأميناً على المال، فإذا ما أخذ السائلُ من هذا المبلغ المالَ الذي يعتبره دَيْناً لنفسه على صاحب العمل فإنه يكون قد نَصَّب نفسه خصماً وحَكَماً في آنٍ واحد، وهذا لا يجوز شرعاً، ولكن يسلك الطريق القانوني للحصول على حقه إن كان له حقٌّ.
وفي تفاصيل هذه الفتوى، يقول فضيلة المفتي الراحل: في «لسان العرب» لابن منظور: أن الحِيلة –بالكسر- الاسم من الاحتيال، ويقال: لا حيلة له، ولا احتيال ولا مَحالة ولا مَحيلة، والاحتيالُ: مطالبتُك الشيءَ بالحِيَل.
وقال الشاطبي في كتاب «الموافقات في أصول الشريعة»: [التَّحَيُّلُ بِوَجْهٍ سَائِغٍ مَشْرُوعٍ فِي الظَّاهِرِ أَوْ غَيْرِ سَائِغٍ عَلَى إِسْقَاطِ حُكْمِ أَوْ قَلْبِهِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، بِحَيْثُ لَا يَسْقُطُ أَوْ لَا يَنْقَلِبُ إِلَّا مَعَ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ، فَتُفْعَلُ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ، مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا لَمْ تُشْرَعْ لَهُ؛ فَكَأَنَّ التَّحَيُّلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: قَلْبُ أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي ظَاهِرِ الْأَمْر. وَالْأُخْرَى: جَعْلُ الْأَفْعَالِ الْمَقْصُودِ بِهَا فِي الشَّرْعِ مَعَانٍ وَسَائِلَ إِلَى قَلْبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ. – ثم قال -: الحيل فِي الدِّينِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِي الْجُمْلَةِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَا يَنْحَصِرُ من الكتاب والسنة، لكن في خُصُوصِيَّاتٍ يُفْهَمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا مَنْعُهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا عَلَى الْقَطْعِ. – وساق الشاطبي الأدلة على هذه القاعدة التي قررها. إلى أن قال-: لما ثَبَتَ أَنَّ الْأَحْكَامَ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ كَانَتِ الْأَعْمَالُ مُعْتَبَرَةً بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ فِيهَا كَمَا تَبَيَّنَ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ عَلَى أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ؛ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مُوَافِقًا وَالْمَصْلَحَةُ مُخَالِفَةً؛ فَالْفِعْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ مقصودةً لأنفسها، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهَا أُمُورٌ أُخَرُ هِيَ مَعَانِيهَا، وَهِيَ الْمَصَالِحُ الَّتِي شُرِعَتْ لِأَجْلِهَا؛ فَالَّذِي عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَضْعِ فَلَيْسَ عَلَى وَضْعِ الْمَشْرُوعَاتِ] اهـ. (2/ 378، 380: 385 وما بعدها، تحقيق المرحوم الشيخ عبد الله دراز، ط. المكتبة التجارية).
وقد أقام الشاطبيُّ حكمَه هذا – على الاحتيال والحيلة – على جملةٍ من الأصول الشرعية الكلية والقواعد القطعية، موجزها:
أولاً: الاحتيال ومخالفة قصد الشارع؛ ذلك أن المحتال قد قصد إلى ما ينافي قصد الشارع فبطل عمله؛ لأن قصد المكلف ينبغي أن يكون موافقاً لقصد الشارع، ومن ابتغى غير هذا فأولئك هم العادون؛ لأنه ناقض الشريعة، وكل من ناقضها كان عمله النقيض باطلاً، وقد أقام الشاطبيُّ الأدلة على أن مخالفةَ قصد الشارع مبطلةٌ للعمل، باعتبار أن هذه المقاصد مشروعةٌ للامتثال. «الموافقات» (2/ 231 وما بعدها).
ثانياً: الاحتيال وقاعدة اعتبار المآل: فقد بيَّن الشاطبيُّ أن تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي أو تحويله في الظاهر إلى حكم آخر كان مآل العمل خَرم قواعد الشريعة في الواقع. المرجع السابق (201/ 4).
إذ إن هذا العمل مناقضٌ لقاعدة «المصالح» مع أنها معتبرة في الأحكام وهو أيضاً مضادٌّ لقصد الشارع من جهةِ أن السبب لمَّا انعقد سبباً وحصل في الوجود صار مقتضياً شرعاً لمسببه لا لغيره، وما كان مضادّاً لقصد الشارع كان باطلاً. ذات المرجع (278/ 2).
ثالثاً: في الاحتيال انعدام الإرادة في العقد المتحيل به؛ ذلك أن ركن العقد هو الرضا، وإذ كانت الإرادة أمراً خفيّاً لا يطَّلع عليه أحدٌ جعل الشارعُ مظنةَ الرضا – وهو صيغة العقد – قائمةً مقام الرضا، وإذا قصد العاقد خلاف معنى لفظ العقد لم يصح القول بأنه قاصد لمدلوله حكماً، وترتب الأثر إنما يكون بحكم الشارع لا بإرادة العاقد. المرجع السابق (1/ 216، 2/ 330)، و«إعلام الموقعين» لابن القيم (3/ 95 وما بعدها، ط. إدارة الطباعة المنيرية).
هذا، وقد أفاض ابن القيم في الحديث عن الحيل مبيناً منها المحرَّم، والمباح مُورداً أمثلةً شتى بلغت المائة وستة عشر مثالاً. المرجع السابق (3/ 140 وما بعدها حتى نهاية الجزء، وج 4 من افتتاحه حتى ص 101)، و«إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» لابن القيم (ج 2).
هذا، ولما كان قد تردد في بعض النقول السابقة أن الحيلة قد تكون مباحةً لا سيما بعد ما سلف من أن ابن القيم قد أورد أمثلةً للمباح منها في كتابيه «إعلام الموقعين»، و«إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» لزم أن نشير إلى ضابطٍ عامٍّ للحِيل المشروعة؛ ذلك أن الحيل التي جاء الشرع بذمها والتحذير منها – بل وإبطالها – هي ما هدم أصلاً شرعيّاً، أو نقض مصلحةً شرعيةً، فإن كانت الحيلة لا تهدم أصلاً شرعيّاً، ولا تناقض مصلحةً شهد الشارع باعتبارها، فهي غير داخلة في النهي وغير باطلة.
وقد وقع اختلاف الفقهاء في بعض مسائل الحيل من جهة أنه لم يتبين فيها بدليلٍ واضحٍ أنها من النوع المحظور، أو من ذلك النوع المشروع، ومن ثَمَّ يُلحقها بعضهم بالأول، بينما قد يلحقها بعضهم بالثاني، والحيل المشروعة هي ما كان المقصود بها إحياءُ حقٍّ أو دفع ظلمٍ أو فعل واجبٍ أو ترك محرَّمٍ أو إحقاق حقٍّ أو إبطال باطلٍ، ونحو ذلك مما يحقِّقُ مقصود الشارع الحكيم إذا كان الطريق سائغًا مأذوناً فيه شرعاً.
وبهذا الاعتبار، يمكن تعريف الحيلة الجائزة بأنها: طريقٌ خفيٌّ مأذونٌ فيه شرعاً يتوصل به إلى جلب مصلحةٍ أو درء مفسدةٍ لا تتنافى ومقاصدَ الشرع.
ولا بد فيها من توافر ثلاثة أمور:
أحدها: أن يكون طريقُها خفيّاً؛ إما لأن ظاهره خلاف باطنه أو لأن الذهن لا يلتفت إلى هذا الطريق عادةً وإن لم يكن له ظاهر وباطن.
الثاني: أن يكون الطريقُ مأذوناً فيه شرعاً؛ بألا يكون فيه تفويتُ حقٍّ لله أو للعباد.
الثالث: أن يكون المقصود الذي يراد التوصُّل إليه مشروعاً.
ومع هذه الأمور قد قسَّموا الحيل الجائزة إلى قسمين:
الأول: أن يكون الطريق التي سلكها المحتال مفضيةً إلى المقصود شرعاً، ولكن في إفضائها إليه نوع خفاء، أما إذا كانت مفضيةً إلى المقصود إفضاءً ظاهراً بوضع الشارع لها فليست من الحيل عند الإطلاق لغةً؛ كالعقود الشرعية التي تترتب عليها أحكامها؛ مثل البيع، والإقالة، والكفالة، والحوالة، والإجارة، والسَّلَم، والخيارات، فإن أحكامها تترتب عليها بحكم الشارع وإذنه، وهي في الأحكام التشريعية، وإن الأسباب الحسيَّة في الأحكام القدرية كلٌّ يفضي إلى المقصود، وسالكه سالكٌ للطريق المشروع.
الثاني: أن تكون الطريق التي يسلكها المحتال لمقصوده قد وُضعت في الشرع لمقصود آخر غير أن ما يقصده المحتال منها لا يتنافى مع ما يقصده الشارع، فإن حصلت المنافاة بين المقصودين كانت الحيلة من الطريق المحظور. (هذا التقسيم وما قبله من سمات الحيل الجائزة مستخلصٌ من المراجع السابقة).
وقد قال ابن القيم في «إغاثة اللهفان» (2/ 69) بعد إيراده لأمثلة من الحيل الجائزة بلغت ثمانين مثالاً: [والمقصود بهذه الأمثلة – وأضعافها مما لم نذكره – أن الله سبحانه أغنانا بما شرعه لنا من الحنيفية السمحة، وما يسَّره من الدين على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وسهَّله للأمة عن الدخول في الآصار والأغلال وعن ارتكاب طرق المكر والخداع والاحتيال، كما أغنانا عن كل باطل ومحرم وضار بما هو أنفع لنا منه من الحق والمباح النافع] اهـ.
لما كان ذلك، وكان بناءُ الشريعة على مصالح العباد في العاجل والآجل وهذا ثابت بالعدد الوفير من آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت الأعمال معتبرةً بذلك؛ لأنه مقصود الشارع فيها، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية كان موافقاً لأحكام الشرع دون إشكال، وإن كان الظاهر موافقًا والباطن مخالفًا فالعمل غيرُ صحيحٍ وغير مشروعٍ؛ لوجوه:
الأول: أن الشارع لـمَّا لم يشرع هذا السبب لذلك المسبب المعين دلَّ على أن ذلك التسبب مفسدةٌ لا مصلحةٌ، وأن المصلحة المشروع لها المسبب منتفيةٌ بذلك التسبب، فيصبح العمل باطلاً؛ لمخالفته لقصد الشارع.
الثاني: أن هذا السبب بالنسبة إلى المقصود غير مشروع، فصار كالسبب الذي لم يشرع أصلاً، وإذا كان السبب الذي لم يشرع أصلاً لا يصحُّ فكذلك ما شرع إذا أُخذ لما لم يُشرع له.
الثالث: أن الأعمال الشرعية ليست مقصودةً لذاتها، وإنما المقصود بها أمور أخرى هي معانيها، وهي المصالح التي شُرعت لأصلها، فما يفعل على غير وضعه الشرعي لا يكون مشروعاً.
من أجل ذلك، كانت قاعدة «سد الذرائع» من قواعد الشريعة الثابتة قطعاً بالكتاب والسنة؛ لأن من الأفعال ما يكون مباحاً في ذاته، ولكنه يؤدي إلى الإضرار بالدين أو بالعباد، فإجازة الحيل بإطلاق فيه عبثٌ ظاهرٌ بالحقوق، فوق ما فيه من مناكير أخرى يأباها الإسلام.
وإذا كانت العقود الشرعية معتبرةً و «سد الذرائع» قاعدة سديدة ثابتة وفق الأدلة المشروحة في مواضعها والمشار إلى بعضها فيما تقدم؛ كان ما فعله السائل داخلاً في نطاق الحيلة غير المشروعة؛ لأنه قد اقتضى من صاحب العمل مبلغاً من النقود نقداً بقصد شراء مستلزمات للعمل الذي يقوم به لحساب ربِّ العمل، وتكييف هذا أنه صار وكيلًا في هذا الشراء وأميناً على ما أقبضه إياه، وهذا هو القصد المشروع من هذا الفعل، والذي يقرُّه الشرع حين أقبضه المبلغ 130 جنيهاً، فإذا ما اقتضى السائل من هذا المبلغ ما اعتبره دَيناً له على ربِّ العمل فقد احتال إلى هذا بطريق مشروع لغير اقتضاء الدين الذي قد يكون محل منازعة، وقد انقلب السائل بهذا العمل إلى قاضٍ قضى لنفسه في خصومة هو مُدعيها دون رضاء أو استماع لأقوال المُدَّعَى عليه – رب العمل – وبذلك فقد ظفر السائل – بغير اختيار مَن عليه الحقُّ – بما يدعيه حقّاً له مع أن سبب الحقِّ في هذه الواقعة ليس ثابتًا قطعًا، والآخذ بهذا الطريق ظالمٌ في الظاهر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الفعل، وسمَّى الآخذ بهذا الطريق خائناً في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ». «الكنز الثمين في أحاديث النبي الأمين» برقم 109 ومراجعه في كتب السنة.
ونزولاً على هذا الحديث، كان على السائل سلوكُ الطريق القانوني لاقتضاء الحقِّ إن كان. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد يرى البعض تناقضاً بين الرأي القانوني الوارد في صدر هذا المبحث وبين الفتوى الدينية سالفة الذكر. ونعتقد في هذا الشأن أنه ينبغي التمييز بين المال والحق. وإذا كان الرأي القانوني ينصب على المال المملوك للمتهم في جريمة النصب، فإن الفتوى الدينية المشار إليها آنفاً تتعلق باستيفاء حق وليس بمال مملوك مسبقاً للمتهم نفسه.
المبحث الرابع
سرقة الأموال المملوكة للمتهم التي تقع في حيازة الغير
يشترط في السرقة أن يكون المال المسروق مملوكاً لغير المتهم. وبصدد بيان المراد بهذا الشرط، ناقش الفقه بعض الإشكاليات والتساؤلات التي قد تثور في الواقع، ومنها حالة الأموال المملوكة للمتهم التي تقع في حيازة الغير. بيان ذلك أن المالك قد ينقل حيازة أمواله للغير مع احتفاظه بملكيتها، وهو ما عبر عنه الفقيه الفرنسي «جارسون» بالحيازة الناقصة، كما هو الشأن في عقود الوديعة والإجارة والوكالة والرهن. ففي هذه الأحوال وغيرها، يحوز المودع لديه أو المستأجر أو الوكيل أو المرهون لديه المال لحساب المالك. فماذا يكون الحل لو استرد المالك ماله عنوة، أي دون رضاء الحائز له؟
وفي الإجابة عن هذا التساؤل، يرى بعض الفقه أن «لا شبهة في أن السرقة لا تقوم بناء على أن الاختلاس لا يقوم بمجرد انتزاع الإحراز المادي للشيء من مكمنه، وإنما هو الاستيلاء عليه بنية التملك، بينما الملكية ثابتة أصلاً للمالك، ومن ثم فإن محل الاختلاس ليس مالاً مملوكاً لغير الجاني، وبالتالي فلا سرقة في الموضوع. ولا يحول دون الوصول إلى هذه النتيجة أن تكون هناك منازعة حول الملكية بين المتهم والحائز وقت الاستيلاء على الشيء. إذ العبرة بما ينتهي إليه البحث في هذا النزاع، في تحديد من المالك الحقيقي للشيء. فإذا كان المالك هو المتهم، فلا تقوم السرقة، ولو كان الشيء محلاً للنزاع وقت الاستيلاء عليه… على أن عدم تجريم استرداد المالك لملكه الذي يقع في حيازة الغير، مشروط بطبيعة الحال بألا ينطوي هذا الاسترداد على جريمة أخرى يعاقب عليها القانون تحت وصف آخر. فإذا اضطر المالك مثلاً إلى استخدام العنف عند استرداد ماله، فإنه يُسأل عن العنف سواء في صورة جريمة إتلاف الأشياء غير المملوكة له أو الضرب العمد الذي يكون قد صدر منه» (د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص، الكتاب الثاني، جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة السادسة، مزيدة ومنقحة، 2016م، رقم 367، ص 514 و515).
المبحث الخامس
استيلاء الدائن على مال لمدينه
كما سبق أن قلنا، يشترط في السرقة أن يكون المال المسروق مملوكاً لغير المتهم. فلا تقع الجريمة إذا كان المال مملوكاً للمتهم. ولكن، لا يجوز أن يفهم من ذلك أن الدائن يمكنه الاستيلاء على مال لمدينه استيفاءً لحقه. فعلى حد قول بعض الفقه، «لا يغني عن اشتراطات ثبوت الملكية، ما يتمتع به الشخص من حقوق شخصية قبل حائز الشيء. مثال ذلك الدائن الذي يختلس مال مدينه وفاءً لدينه، والمؤجر الذي يختلس بعض أمتعة المستأجر وفاءً للأجرة المتأخرة» (د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص، الكتاب الثاني، جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال، المرجع السابق، رقم 367، ص 515).
وتحت عنوان «استيلاء الدائن على مال لمدينه»، يتساءل بعض الفقه عما إذا كان استيلاء دائن على مال لمدينه استيفاء لحقه يعتبر سرقة. ومن ثم، يجيب عن هذا التساؤل، مؤكداً أن المال المملوك للمدين يعتبر بالنسبة للدائن مالاً مملوكاً لغيره، فحقه على أموال مدينه مقتصر على «الضمان العام» (المادة 234 من القانون المدني). ومؤدى ذلك أنه ليس له حق عيني على أي منها، طالما أنه لم يرصد ليكون ضماناً خاصاً لدينه. والنتيجة الحتمية لذلك أنه إذا استولى الدائن على مال مدينه، كان سارقاً له. ولا يدحض هذا الحكم كون حق الدائن حالاً وخالياً من النزاع، إذ لا يمنحه ذلك ملكية مال لمدينه. ولا يدحضه كذلك أنه استولى على مال معادل لحقه أو أقل منه، وأن باعثه إلى فعله الحصول على حقه فحسب، وأنه لا تتوافر لديه نية الإثراء: فليس الباعث أو نية الإثراء من عناصر القصد الجنائي المتطلب في السرقة (د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، وفقاً لأحدث التعديلات التشريعية، المرجع السابق، رقم 1116، ص 938).
ولعل من المفيد والمناسب في هذا الشأن الإشارة إلى إحدى الفتاوى الدينية الحديثة الصادرة عن دار الإفتاء المصرية بشأن «حكم الاستيلاء على ممتلكات المدين إذا تأخر في سداد دينه». ففي الثالث عشر من شهر مارس 2022م، وفي الفتوى رقم (6455)، وتحت عنوان «حكم الاستيلاء على ممتلكات المدين إذا تأخر في سداد دينه»، أجاب فضيلة المفتي، الأستاذ الدكتور/ شوقي إبراهيم علام عن سؤال يقول فيه السائل: لي دينٌ على شريكي في العمل، ويماطلني في أدائه؛ فهل يحقّ لي استيفاء ديني منه عن طريق أخذ بعض حصته مِن الشركة الحاصلة بيننا أو أن ذلك لا يحقّ لي؟
ورداً على هذا السؤال، كان الجواب على النحو التالي: لا يجوز لك فعل ذلك؛ فإن تأخير شريكِكَ الدَّيْن الذي لكَ عليه مع عدم إنكاره لحقِّكَ الذي تَأخَّر في سداده ليس مبرِّراً للأخذ مِن حصته من مال الشَّرَكة، وأَمَّا إذا أنكر شريككَ الدَّيْن الذي لك عليه فيَحِقُّ لكَ رَفْع الأمر للقضاء للحصول على حقك الذي تَدَّعيه عليه.
وتفصيلاً لهذه الفتوى، يقول فضيلة المفتي: نهى الله تعالى عن أكل أموال النَّاس بالباطل؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29]، ويُؤكِّد ذلك حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» رواه الشيخان عن أبي بَكرةَ رضي الله عنه.
ولذا كان الأصل في الحقوق التي للغير هو الأداء وعدم المَطْل أو الإنكار لها؛ قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]؛ ففي الآية أمرٌ بالمسارعة إلى أسباب المغفرة ودخول الجنة؛ يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في «تفسيره» (4/ 89، ط. الدار التونسية): [والمسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة وأسباب دخول الجنة، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلق بالذات] اهـ.
ومن أعظم أسباب دخول الجنة ونيل رضا الله تعالى: أداء الحقوق مطلقاً، سواء كانت لله أو للناس أو حتى حق النَّفْس.
والأصل في استيفاء الحقوق التي على الغير أَنْ يتم بأحد أمرين: التراضي أو التقاضي، فيكون برضا مَن عليه الحقّ واختياره، فإذا رَفَضَ مَن عليه أداء الحق أو مَاطل فيه أو أنكره؛ فالأصل في صاحب الحق أن يَلْجَأ لرَفْع دعوى أمام القضاء لفَصْل هذا التنازع.
وعلى هذا يجري التفصيل في صورة السؤال؛ فتأخير المدين أداء الدَّيْن قد يكون مع عدم إنكاره لحق الدائن في هذا الدَّيْن، أو مع إنكاره للدَّيْن؛ ففي الصورة الأولى: وهي عدم إنكار المدين لحق الدائن في الدَّيْن الذي تَأخَّر في سداده؛ سواء صَحِب ذلك تَعثُّر المدين في السَّدَاد أم لا؛ فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة على أنَّه لا يجوز للدائن الأخذ من ممتلكات المدين لاستيفاء الحق الذي له عليه.
قال العلامة الخرشي في «شرحه على المختصر» (7/ 235، ط. دار الفكر): [(ص) وإن قَدَر على شيئه فله أخذه إن يكن غير عقوبة، وأمن فتنة ورذيلة (ش) هذه المسألة تُعْرَف بمسألة الظَّفَر، والمعنى: أَنَّ الإنسان إذا كان له حقٌّ عند غيره، وقَدَر على أخذه أو أخذ ما يساوي قدره من مال ذلك الغير؛ فإنه يجوز له أخذ ذلك منه، وسواء كان ذلك من جنس شيئه أو من غير جنسه على المشهور، وسواء عَلِم غريمه أو لم يعلم، ولا يلزمه الرَّفْع إلى الحاكم. وجواز الأخذ مشروط بشرطين: الأول: ألَّا يكون حقه عقوبة، وإلَّا فلا بد من رفعه إلى الحاكم، وكذلك الحدود لا يتولاها إلا الحاكم. والثاني: أن يأمن الفتنة بسبب أخذ حقه؛ كقتال أو إراقة دم، وأن يأمن من الرذيلة؛ أي: أن ينسب إليها كالغصب ونحوه، فإن لم يأمن ذلك فلا يجوز له أخذه] اهـ.
فقول المصنِّف: [أن يأمن الفتنةَ بسبب أخذ حقه] واضحُ الدلالة على أنَّ العامل لا يجوز له الأخذ من الشركة؛ لأنَّ الفتنةَ واقعةٌ لا محالة في حالته.
وقال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في «تحفة المحتاج» (10/ 287، ط. المكتبة التجارية): [(وإن استحق) شخص (عينًا) عند آخر بملك وكذا بنحو إجارة أو وقف أو وصية بمنفعة -كما بحثه جمع- أو ولاية؛ كأن غُصِبَت عين لموليه وقدر على أخذها (فله أخذها) مستقلًا به (إن لم يخف فتنة) عليه أو على غيره كما هو ظاهر، سواء أكانت يده عادية أم لا؛ كأن اشترى مغصوباً لا يَعْلمه. نعم من ائتمنه المالك كوديع يمتنع عليه أخذ ما تحت يده من غير علمه؛ لأنَّ فيه إرعابًا له بظن ضياعها، ومنه يؤخذ حرمة كل ما فيه إرعاب للغير.. (وإلَّا) بأن خاف فتنة، أي: مفسدة تفضي إلى مُحَرَّم؛ كأخذ ماله لو اطلع عليه، بأن غلب ذلك على ظنه وكذا إن استويا – كما بحثه جمع – (وجب الرَّفع) ما دام مريداً للأخذ (إلى قاض) أو نحوه لتمكنه من الخلاص به (أو دينًا) حالًّا (على غير ممتنعٍ من الأداء طالبَهُ) ليؤدي ما عليه، (ولا يحلّ أخذ شيء له)؛ لأنَّ له الدفع من أي ماله شاء، فإن أخذ شيئًا لزمه رده، وضمنه إن تلف ما لم يوجد شرط التَّقَاصِّ، (أو على مُنْكِرٍ) أو مَنْ لا يُقْبَلُ إقراره على ما بحثه البلقيني وردّ بقول مُجَلّي: من له مال على صغير لا يأخذ جنسه من ماله اتفاقًا. اهـ، ويجاب بحمل هذا إنْ صحَّ على ما إذا كان له بَيِّنَةٌ يسهل بها خلاص حقه (ولا بَيِّنَة) له عليه أو له بَيِّنَة وامتنعوا أو طلبوا منه ما لا يلزمه، أو كان قاضي محلّه جائرًا لا يحكم إلا برشوة فيما يظهر في الأخيرتين (أخذ جنس حقّه من ماله) ظَفَرًا لعجزه عن حقه إلا بذلك، فإن كان مثليًّا أو مُتقوَّمًا أخذ مماثله من جنسه لا من غيره. (وكذا غير جنسه) أي: غير جنس حقه ولو أمة (إن فقده) أي: جنس حقه (على المذهب) للضرورة] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة في «المغني» (10/ 287، ط. مكتبة القاهرة): [ومَن كان له على أحد حقّ فمنعه منه، وقدر له على مال، لم يأخذ منه مقدار حقه؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: «أَدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُنْ مَن خانك» رواه الترمذي. وجملته: أنَّه إذا كان لرجل على غيره حقّ، وهو مُقِرّ به باذل له، لم يكن له أن يأخذَ من ماله إلا ما يعطيه بلا خلاف بين أهل العلم، فإن أخذ من ماله شيئًا بغير إذنه لزمه رده إليه، وإن كان قدر حقه؛ لأنَّه لا يجوز أن يملك عليه عينًا من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورة، وإن كانت من جنس حقه؛ لأنه قد يكون للإنسان غرض في العين، وإن أتلفها أو تلفت فصارت دينًا في ذمته، وكان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاضا في قياس المذهب] اهـ.
وظاهر قول الحنفية أَنَّ لصاحب الحق أن يأخذَ جنس حقه من المدين مُقِرًّا كان أو مُنْكِراً؛ شريطة أن لا يمكن تحصيل الحق بواسطة القضاء؛ وعلى ذلك فيجوز – على ما هو الظاهر مِن قول الحنفية – أخذ العامل من مال الشركة مِقْدار دينه بشرط أن يكون هذا المال من جنس حقه، وأن يكون بنفس صفته.
يقول العلامة ابن نجيم في «البحر الرائق» (7/ 192، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وإن كان ديناً: ففي «مداينات القِنية»: رَبُّ الدَّين إذا ظفر من جنس حقه من مال المديون على صفته فله أخذه بغير رضاه، ولا يأخذ خلاف جنسه كالدراهم والدنانير.. وظاهر قول أصحابنا: أَنَّ له الأخذ من جنسه مُقِرًّا كان أو مُنْكِراً، له بينة أو لا، ولم أَرَ حكم ما إذا لم يتوصل إليه إلَّا بكسر الباب ونَقْب الجدار، وينبغي أَنَّ له ذلك حيث لا يمكنه الأخذ بالحاكم] اهـ.
وأما في الصورة الثانية: وهي حالة ما إذا أَنْكَر المدين الحق الذي يَدَّعيه الدائن؛ فيرى الشافعية والحنابلة أنَّ أُوْلَى دَرَجات أخذ الحق في هذه الحالة هو الرَّفْع للقاضي؛ أي: الاختصام إليه؛ قال الشيخ الخطيب الشربيني في «مغني المحتاج» (6/ 401، ط. دار الكتب العلمية) بعد الكلام على أَنَّ مَنْ استحق عيناً فله أخذها إن لم يخف فتنة: [(وإلَّا) بأن خاف فتنة أو ضرراً (وَجَب الرفع إلى قاض) أو نحوه ممَّن له إلزام الحقوق كمحتسب وأمير، لا سيما إن علم أَنَّ الحقَّ لا يتخلَّص إلا عنده] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة في «المغني» (10/ 287) بعد الكلام على صورة ما إذا كان صاحبُ الحق مُقِرّاً به باذلاً له: [وإن كان مانعًا له بغير حق، وقدر على استخلاصه بالحاكم أو السلطان، لم يجز له الأخذ أيضاً بغيره؛ لأنه قدر على استيفاء حقه بمَن يقوم مقامه، فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله] اهـ.
ومذهب المالكية موافقٌ مآلاً لما عليه الشافعية والحنابلة؛ لأنهم – أي: المالكية – اشترطوا في أخذ الحقّ ممَّن هو عليه أن يأمن الآخذ الفتنة بسبب أخذ حقه، وأَنْ يَأمَن النسبة إلى الرذيلة؛ ولا شك أَنَّ في أخذ العامل مِن مال الشركة ما يُقابِل الحق الثابت له ليس فيه أمناً للفتنة ولا أَمْناً من النسبة للرذيلة؛ لأنَّ الشركة في هذه الحالة ستدَّعِي عليه بالسرقة من مالها؛ وكفى بذلك تُهْمَة. وخالف في ذلك الحنفية فقالوا بجواز الأخذ مِنْ مال مَنْ عليه الحق في هذه الحالة؛ ونَصُّ ابن نجيم السابق يشير لذلك.
والذي نختاره للفتوى هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة، ووافقهم عليه مآلاً المالكية، وهو أنَّه لا يجوز أخذ الحق في هذه الحالة ما دام أنَّه قادر على التقاضي.
وعلى ما سبق، وفي حالة السؤال: فتأخير شريكِكَ الدَّيْن الذي لكَ عليه مع عدم إنكاره لحقِّكَ الذي تَأخَّر في سداده ليس مبرِّرًا للأخذ مِن حصته من مال الشَّرَكة، وأَمَّا إذا أنكر شريككَ الدَّيْن الذي لك عليه فيَحِقُّ لكَ رَفْع الأمر للقضاء للحصول على حقك الذي تَدَّعيه عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وعلى هذا النحو، وبالمقارنة بين الفتوى الشرعية وبين الرأي القانوني الوارد في صدر هذا المبحث، يبدو سائغاً القول باتفاق الرأي الشرعي والرأي القانوني في شأن حكم الاستيلاء على ممتلكات المدين إذا تأخر في سداد دينه.
المبحث السادس
انتهاك المالك حرمة حيازة الغير
طبقاً للمادة (369) الفقرة الأولى من قانون العقوبات المصري، «كل من دخل عقار في حيازة آخر بقصد منع حيازته بالقوة أو بقصد ارتكاب جريمة فيه أو كان قد دخله بوجه قانوني وبقي فيه بقصد ارتكاب شيء مما ذكر، يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنة أو بغرامة لا تجاوز ثلثمائة جنيه». وقد ورد هذا النص في صدر الباب الرابع عشر من الكتاب الثالث من قانون العقوبات، وعنوان هذا الباب هو «انتهاك حرمة ملك الغير». وتعليقاً على ذلك، يرى بعض الفقه – بحق – أن المشرع لم يكن دقيقاً عندما عنون الباب الرابع عشر من الكتاب الثالث من قانون العقوبات ﺑ «انتهاك حرمة ملك الغير»، لأن الحماية لا تنصرف إلى الملكية، وإنما إلى الحيازة. بل إن المقصود بالحيازة هنا ليس الحيازة القانونية، بل مجرد وضع اليد. وهذا هو ما عبرت عنه تعليقات الحقانية على المادة 369 عقوبات بأن التعرض المادي في هذه الحالة دون الالتجاء إلى القضاء أو دون الاستناد إلى حق، كالدفاع الشرعي، يعد من الجاني إقامة للعدل بنفسه مما يؤدي إلى الإخلال بالنظام العام (راجع: د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص، الكتاب الثاني، جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال، المرجع السابق، رقم 575، ص 801).
فلا يشترط إذن أن تستند حيازة المسكن إلى سند قانوني معين، فيستوي أن يكون مالكاً أو مستأجراً أو مجرد حائز له. ويستوي في المكان المستأجر أن يكون مفروشاً أو خالياً، وسواء أن يكون المستأجر حائزاً للمكان بناء على عقد الإيجار أو بعد انقضائه، وكذا يستوي أن يكون حائز العقار مستنداً إلى سند قانوني أو إلى مجرد حيازة فعلية، فالمستأجر الذي حكم بطرده من المكان ما زال يتمتع بحماية القانون ما دام حائزاً لهذا المكان (د. أحمد فتحي سرور، المرجع السابق، رقم 579، ص 803). وبعبارة أخرى، فإن القانون شمل بالحماية جميع الأماكن ما دامت في حيازة الغير، أياً كان سنده في هذه الحيازة. فلقد منح القانون الأولوية في الحماية لحائز أي مكان من هذه الأماكن، بغض النظر عن النزاع الذي يدور بينه وبين غيره من الأشخاص الذين لهم حقوق على المكان الذي يحوزه. وعلة هذه الأولوية أن الحماية التي قررها قانون العقوبات لا تنصرف إلى حماية الملكية أو حماية الحيازة المعروفة في القانون المدني أو حماية أي حق عيني على المكان، وإنما تنصرف أساساً إلى حرمة الحياة الخاصة المستفادة من هذه الحيازة (د. أحمد فتحي سرور، المرجع السابق، رقم 583، ص 805).
وتطبيقاً لهذا التأصيل القانوني، قضت محكمة النقض المصرية بأنه يكفي في جريمة التعرض للغير في حيازته لعقار أن تكون حيازته لهذا العقار حيازة فعلية، فلا تشترط أن تكون الحيازة شرعية مستندة إلى سند صحيح، ولا يهم أن يكون الحائز مالكاً للعقار أو غير مالك، وبغض النظر عن الحق الذي يستند إليه الاعتداء على الحيازة، وذلك رغبة من المشرع في منع الإخلال بالنظام العام من الأشخاص الذين يدعون بحق لهم ويحاولون الحصول عليه بأنفسهم دون الالتجاء إلى القضاء (نقض 17 نوفمبر سنة 2003م، الطعن رقم 5511 لسنة 65 ق). وقضت محكمة النقض بأن القانون يحمي الحيازة من كل اعتداء يرمي إلى رفعها، ولو كان أساسها محضر تسليم مشوباً بما يبطله (نقض 13 فبراير سنة 1939م، مجموعة القواعد، ﺠــ 4، رقم 349، ص 464). وقضت أنه لا يجدي المتهم صدور أحكام تضمنت أن الحيازة ليست للغير الذي دخل العقار الذي في حيازته، ما دامت الحيازة الفعلية لم تكن له (نقض 25 يناير سنة 1943م، مجموعة القواعد، ﺠــ 6، رقم 83، ص 117). وقضت محكمة النقض بأنه إذا كان الظاهر مما أورده الحكم أنه بعد أن حرر عقد الإيجار الذي أجر بموجبه زيد إلى بكر فداناً من الأطيان المؤجرة له من ملك خالد لإنشاء مصرف به – عدل زيد عن اتفاقه، فإنه إذا أمر بكر رجاله بالتقدم لدخول الأرض لكي يمنعوا زيداً من حيازتها، فهذا يعد في القانون جريمة معاقباً عليها بالمادة 369 عقوبات، بغض النظر عما إذا كان استرداد زيد الحيازة بعد التأجير صحيحاً أو غير صحيح (نقض 7 يونية سنة 1943م، مجموعة القواعد، ﺠــ 6، رقم 212، ص 281).
المبحث السابع
قيام المحكوم له بالحضانة بخطف المحضون
تحرص التشريعات العربية على تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة بحضانة الصغير. وتحقيقاً لذلك، تجيز بعض التشريعات تنفيذ هذه الأحكام جبراً. بل إن بعض التشريعات تقرر على نحو جازم التنفيذ الجبري لأحكام الحضانة. ولم يكتف المشرع بذلك، وإنما تجرم العديد من التشريعات الامتناع عن تسليم الصغير إلى من له الحق في طلبه بناءً على قرار من جهة القضاء صادر بشأن حضانته أو حفظه (راجع على سبيل المثال: المادتين 284 و292 من قانون العقوبات المصري؛ الفصل 477 من مجموعة القانون الجنائي المغربي). وتجرم هذه التشريعات كذلك أي الوالدين أو الجدين خطف المحضون بنفسه أو بواسطة غيره ممن لهم بمقتضى قرار من جهة القضاء حق حضانته، أو حفظه ولو كان ذلك بغير تحايل أو إكراه (راجع على سبيل المثال: المادة 292 من قانون العقوبات المصري).
ولكن، يثور التساؤل عن الحكم القانوني في حالة قيام المحكوم عليه بالحضانة بخطف الصغير ممن كان معهوداً به إليه.
وفي الإجابة عن هذا التساؤل، قد يرى البعض أن جريمة الخطف لا تقع في هذه الحالة، مستنداً في ذلك إلى بعض أحكام القضاء. إذ ذهبت بعض أحكام القضاء المصري في ظل قانون العقوبات الأهلي إلى أنه لا تنطبق المادة 251 عقوبات على أي الوالدين يقوم بخطف ولده (راجع: نقض 2 يناير 1930، مجموعة القواعد القانونية، ﺠـــ 1، رقم 366، ص 415، مشار إليه في مؤلف الأستاذ الدكتور حسن صادق المرصفاوي، المرصفاوي في قانون العقوبات تشريعاً وقضاءً في مائة عام، المرجع السابق، المادة 289، رقم 3336، ص 1126).
وفي اعتقادنا أن المحكوم له بالحضانة الذي يلجأ إلى القوة واستيفاء الحق بالذات في تنفيذ حكم الحضانة الصادر له يعد مرتكباً لجريمة الخطف، ويقع فعله بالتالي تحت طائلة العقاب.