جرائم الشرف بين وحدة الحضارات وجلد الذات

بقلم:  الدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

 

ذكر الطرطوشي في كتابه المسمى «سراج الملوك»، قال: حدثني شيخ يعرف العلماء، قال: وقعت عندنا بالقيروان قضية لم يسمع بمثلها فيما سلف، وهي أن جزاراً، أضجع كبشاً ليذبحه فتخبط بين يديه فانفلت، فقام في أثره يطلبه فدخل خربة، فوجد فيها رجلاً مذبوحاً يتشحط في دمه ففزع وولى هارباً، فلقيه الأعوان والرجال يطلبون القاتل، فأخذوه وبيده السكين وقد تلطخ بالدم، فرفع إلى السلطان فسأله هل قتله، فاعترف اعترافاً دون إشكال، فأمر به ليقتل، فأخرج وقد اجتمع الناس لذلك، فلما هموا قال رجل من عرض الناس: «لا تقتلوه أنا القاتل». فأخذ ورفع إلى السلطان، فقال له: «لم اعترفت وأنت برئ»، فقال: «وأي شيء أصنع. رأيت رجلاً مقتولاً في خربة وأنا خارج منها وبيدي السكين وأنا ملطخ بالدم، فقلت: إن أنكرت من يقبلني؟ إن اعتذرت من يعذرني؟» فخلى السلطان سبيله وانصرف (يراجع: صحيح مسلم مع شرحه المسمى الجمال إكمال المعلم للإمام محمد بن خليفة الوشتاني الأبي وشرحه المسمى مكمل إكمال الإكمال للإمام محمد بن محمد بن يوسف السنوسي الحسني، الجزء السادس، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب 1، حديث 1، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ص 82).

 

والواقع أن هذه الواقعة تعبر بشكل كبير عن حال الشعوب العربية والإسلامية مع الكثير من الأحكام القانونية الرجعية المستمدة في أصلها من التشريعات الأوربية. إذ يحدث كثيراً أن نقتبس بعض الأحكام القانونية من التشريعات الأوربية خلال فترة سريانها، ثم يحدث بعد ذلك أن يعدل المشرع في هذه الدول عن هذه الأحكام، ولكن يبقى المشرع في بلادنا وفياً لها متمسك بها غير قادر على اتخاذ القرار بالعدول عنها. بل إن هذه الأحكام تجد في معظم الأحيان ظهيراً شعبياً لها، اعتقاداً من الرأي العام بأنها تجد معيناً لها في تراثنا الديني والأعراف والتقاليد المجتمعية. أكثر من ذلك أن العديد من الباحثين يربطون بين هذه الأحكام وبين طبيعة الرجل الشرقي وسمت المجتمعات الشرقية. ولعل الأحكام القانونية السارية في العديد من الدول العربية والإسلامية بشأن جرائم الشرف خير دليل على ذلك. بيان ذلك أن نصوص القوانين الفرنسية اتسمت تقليدياً بالتساهل فيما يتعلق بجرائم الشرف، لاسيما عندما تُرتكب ضد النساء اللائي ارتكبن الزنا. ويمكن القول إن قانون نابليون لعام 1804م، والذي صدر في عهد نابليون بونابرت، يشكل المصدر التاريخي للتساهل القانوني فيما يتعلق بجرائم القتل المرتبطة بالزنا في مجموعة متنوعة من الأنظمة القانونية في العديد من البلدان حول العالم. وبموجب هذا القانون، لا يمكن اتهام الرجل الذي قتل زوجته بعد أن تم القبض عليها متلبسة بالزنا بارتكاب جريمة القتل العمد مع سبق الإصرار، رغم أنه يمكن اتهامه بارتكاب جرائم أخرى أقل خطورة. وفي ظل هذا القانون، كان الدفع بأن جريمة القتل قد ارتكبت تحت تأثير الغضب بسبب وجود الزوجة في وضع الزنا متاحاً للزوج فقط وليس للزوجة. وقد كان لقانون نابليون تأثير كبير على التشريعات في العديد من الدول الأخرى، حيث نصت القوانين المستوحاة منه في العديد من البلدان، على عقوبات أقل أو حتى تبرئة القاتل من مثل هذه الجرائم. ويمكن ملاحظة ذلك في القوانين الجنائية للعديد من المستعمرات الفرنسية السابقة وفي غيرها من الدول المتأثرة بالقانون الفرنسي، كما هو الشأن في قانون العقوبات المصري.

 

France

Traditionally provided for leniency concerning honor crimes, particularly when they were committed against women who had committed adultery. The Napoleonic Code of 1804, established under Napoleon Bonaparte, is one of the origins of the legal leniency concerning adultery-related killings in a variety of legal systems in several countries around the world. Under this code, a man who killed his wife after she had been caught in the act of adultery could not be charged with premeditated murder -although he could be charged with other lesser offenses. This defense was available only for a husband, not for a wife. The Napoleonic Code has been very influential, and many countries, inspired by it, provided for lesser penalties or even acquittal for such crimes. This can be seen in the criminal codes of many former French colonies.

 

ولعل ما سبق يبدو جلياً من مطالعة المادة 324 من قانون العقوبات الفرنسي القديم لسنة 1810م، بنصها على أن «القتل المرتكب من الزوج على زوجته، أو من الزوجة على زوجها، لا يكون مبرراً إلا إذا كانت حياة الزوج القاتل أو الزوجة القاتلة تتعرض لخطر حال في وقت ارتكاب القتل. ومع ذلك، وفي حالة جريمة الزنا المنصوص عليها في المادة 336، فإن القتل المرتكب بواسطة الزوج على زوجته وشريكها في جريمة الزنا، إذا فوجئ بهما في حالة التلبس بجريمة الزنا، وكانت الجريمة قد ارتكبت في منزل الزوجية».

ARTICLE 324 du Code Pénal Français du 1810 stipulait que:

Le meurtre commis par l’époux sur l’épouse, ou par celle-ci sur son époux, n’est pas excusable, si la vie de l’époux ou de l’épouse qui a commis le meurtre n’a pas été mise en péril dans le moment même où le meurtre a eu lieu.

Néanmoins, dans le cas d’adultère, prévu par l’article 336, le meurtre commis par l’époux sur son épouse, ainsi que sur le complice, à l’instant où il les surprend en flagrant délit dans la maison conjugale, est excusable.

 

وبدورها، كانت المادة 325 من قانون العقوبات الفرنسي القديم لسنة 1810م تنص على أن جريمة الخصاء المرتكبة فوراً على أثر الاستفزاز المتحقق بسبب هتك عرض إنسان بالقوة، تكون مبررة ويتوفر بالنسبة لمرتكبها عذر معفي.

ARTICLE 325:

Le crime de castration, s’il a été immédiatement provoqué par un outrage violent à la pudeur, sera considéré comme meurtre ou blessures excusables.

 

وفي بلجيكا، يمكن الإشارة إلى جريمة الشرف التي كانت المجني عليها فيها هي سعدية الشيخ. ففي عام 2011، عقدت بلجيكا أول محاكمة لها في جرائم الشرف، حيث أدين أربعة من أفراد الأسرة الباكستانيين بقتل ابنتهم سعدية الشيخ. أما قبل ذلك، فقد كانت الإجراءات القانونية والقضائية إزاء جرائم قتل الشرف تتسم بالتساهل، الأمر الذي كان يشكل أحد آثار التأثير الكبير لقانون نابليون على قانون العقوبات البلجيكي. وقد استمر هذا التساهل قائماً حتى العام 1997م، عندما تدخل المشرع البلجيكي للنص على إلغاء الظروف المخففة في حالة القتل أو الاعتداء على الزوجة التي تم القبض عليها متلبسة بفعل الزنا. وجدير بالذكر في هذا الصدد أن سلوك الزنا ذاته قد تم نزع التجريم عنه بواسطة المشرع البلجيكي في سنة 1987م.

 

Belgium: Honor killing of Sadia Sheikh

In 2011, Belgium held its first honor killing trial, in which four Pakistani family members were found guilty of murdering their daughter and sibling, Sadia Sheikh.

 

As a legacy of the very influential Napoleonic Code, before 1997, Belgian law provided for mitigating circumstances in the case of a killing or an assault against a spouse caught in the act of adultery. Adultery itself was decriminalized in Belgium in 1987.

 

وفي جمهورية ألمانيا الاتحادية، تم تخفيض تهمة القتل العمد في بعض قضايا جرائم الشرف التي تم رفعها أمام محاكم ألمانية، إلى القتل غير العمد. وقد سُمي هذا بـ «الدفاع عن الشرف».

 

Germany

some cases of honor killing that were brought before German courts, murder charges had been reduced to manslaughter. This has been called the “honor defense”.

 

وفي البرازيل، وطوال القرن العشرين، استخدم الأزواج «الدفاع المشروع عن شرفهم» (قانون الدفاع عن الشرف) كمبرر لعمليات القتل المرتبطة بالزنا في قضايا المحاكم. وعلى الرغم من أن هذا الدفاع لم يكن منصوصاً عليه صراحة في القانون الجنائي للقرن العشرين، فقد تم الدفع به بنجاح من قبل المحامين طوال القرن العشرين، لاسيما في المناطق الداخلية من البلاد، بينما كان ذلك ملحوظاً بدرجة أقل في المدن الساحلية الكبيرة. وقد استمر هذا التقليد قائماً حتى العام 1991م، حيث رفضت المحكمة العليا البرازيلية صراحة «الدفع على أساس الشرف»، مؤكدة أن هذا الدفع لا أساس له في القانون البرازيلي.

 

Brazil

Throughout the 20th century, husbands have used the “legitimate defense of their honor” (legítima defesa da honra) as justification for adultery-related killings in court cases. Although this defense was not explicitly stipulated in the 20th-century Criminal Code, it has been successfully pleaded by lawyers throughout the 20th century, in particular in the interior of the country, though less so in the coastal big cities. In 1991 Brazil’s Supreme Court explicitly rejected the “honor defense” as having no basis in Brazilian law.

 

وفي دول أمريكا اللاتينية الأخرى، ومن خلال استقراء الوقائع والحوادث، فإن المجتمعات في أمريكا اللاتينية شهدت العديد من جرائم الشرف أو العاطفة، والتي تأخذ غالباً صورة قتل المرأة على يد زوجها أو أحد أفراد الأسرة أو صديقها. وإزاء هذه الحوادث، غالباً ما كان يتم التغاضي عن الجريمة أو العقاب عليها. ففي بيرو، على سبيل المثال، تم ارتكاب 70 بالمائة من جرائم قتل النساء في عام واحد من قبل الزوج أو الصديق أو الحبيب، وغالباً ما تم الاستشهاد بالغيرة أو الشك في الخيانة الزوجية على أنها أسباب القتل. وتصنف السلفادور في المرتبة الأسوأ في العالم في تصنيفات الأمم المتحدة لقتل الإناث. وعلى هذا النحو، فإن الرأي القائل بأن العنف يمكن تبريره باسم الشرف والعار موجود تقليدياً في مجتمعات أمريكا اللاتينية، وغالباً ما توصف الرجولة بأنها ميثاق شرف. وإذا كانت بعض هذه الأفكار قد نشأت في الثقافة الاستعمارية الإسبانية، فإن بعضها الآخر يسبق في نشأته ووجوده الحقبة الاستعمارية. ففي تاريخ بيرو المبكر، سمحت قوانين الإنكا للأزواج بتجويع زوجاتهم حتى الموت إذا ارتكبوا الزنا، بينما نصت قوانين الأزتك في أوائل المكسيك على الرجم أو الخنق كعقوبة لجريمة زنا الإناث.

 

وحتى عقد التسعينيات من القرن العشرين، كان زواج الفتاة أو المرأة من الرجل الذي اغتصبها يعتبر «حلاً» للحادث من أجل استعادة «شرف» عائلتها. وفي الواقع، وعلى الرغم من أن القوانين التي تبرئ مرتكب الاغتصاب إذا تزوج ضحيته بعد الاغتصاب غالباً ما ترتبط بالشرق الأوسط، إلا أن هذه القوانين كانت شائعة جداً في جميع أنحاء العالم حتى النصف الثاني من القرن العشرين. وفي أواخر عام 1997م، كان لدى 14 دولة من أمريكا اللاتينية مثل هذه القوانين، ولكن بدأت رياح الإلغاء تهب على مثل هذه النصوص في تشريعات دول أمريكا اللاتينية منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي. وكانت المكسيك أولى دول أمريكا اللاتينية سيراً في هذا الاتجاه، حيث قامت بإلغاء هذه النصوص في العام 1991م، ثم تبعتها السلفادور في عام 1996م، وكولومبيا في 1997م، وبيرو في 1999م، وشيلي في 1999م، والبرازيل في 2005م، وأوروغواي في 2005م، وغواتيمالا في 2006م، وكوستاريكا في 2007م، وبنما في 2008م، ونيكاراغوا في 2008م، والأرجنتين في سنة 2012م، وأخيراً الإكوادور في العام 2014م.

 

Latin America

Crimes of passion within Latin America have also been compared to honor killings. As with honor killings, crimes of passion often feature the murder of a woman by a husband, family member, or boyfriend, and the crime is often condoned or sanctioned. In Peru, for example, 70 percent of the murders of women in one year were committed by a husband, boyfriend, or lover, and most often jealousy or suspicions of infidelity are cited as the reasons for the murders. El Salvador ranks the worst in the world on the UN rankings of femicide.

 

The view that violence can be justified in the name of honor and shame exists traditionally in Latin American societies, and machismo is often described as a code of honor. While some ideas originated in the Spanish colonial culture, others predate it: in the early history of Peru, the laws of the Incas allowed husbands to starve their wives to death if they committed adultery, while Aztec laws in early Mexico stipulated stoning or strangulation as punishment for female adultery.

 

Until the 1990’s, the marriage of a girl or woman to the man who had raped her was considered a “solution” to the incident in order to restore her family’s ‘honor’. In fact, although laws that exonerate the perpetrator of rape if he marries his victim after the rape are often associated with the Middle East, such laws were very common around the world until the second half of the 20th century. As late as 1997, fourteen Latin American countries had such laws. although most of these countries have since abolished them. Such laws were ended in Mexico in 1991, El Salvador in 1996, Colombia in 1997, Peru in 1999, Chile in 1999, Brazil in 2005, Uruguay in 2005, Guatemala in 2006, Costa Rica in 2007, Panama in 2008, Nicaragua in 2008, Argentina in 2012, and Ecuador in 2014.

 

وفي الجمهورية الإيطالية، وعلى غرار المناطق الأوروبية الجنوبية / المتوسطية الأخرى، كان الشرف مهماً تقليدياً. ومن خلال مطالعة الإحصاءات الجنائية ذات الصلة، يمكن القول إن جرائم الشرف كانت أكثر انتشاراً في جنوب إيطاليا. وفي مواجهة هذه الجرائم، وحتى العام 1981م، كان القانون الجنائي الإيطالي ينص على الظروف المخففة لمثل هذا القتل. وحتى العام 1981م، كانت المادة 587 من القانون الجنائي الإيطالي تنص على أن «من يتسبب في وفاة زوجته أو ابنته أو أخته عند اكتشافها في علاقات جسدية غير شرعية، وفي حرارة العاطفة الناجمة عن الإساءة إلى شرفه أو شرف أسرته، يعاقب بالسجن من ثلاث إلى سبع سنوات. ويسري الحكم ذاته على من يتسبب في الظروف المذكورة آنفاً في وفاة الشخص المتورط في علاقات جنسية غير شرعية مع زوجته أو ابنته أو أخته».

 

وفي سنة 1546م، تعرضت «إيزابيلا دي مورا»، وهي شاعرة شابة من فالسيني، ماتيرا، للطعن حتى الموت على يد أشقائها، للاشتباه في علاقتها مع أحد النبلاء المتزوجين، والذي قتل أيضاً بواسطة هؤلاء الأشقاء. وفي العام 2006، قُتلت هينا سليم البالغة من العمر عشرين عاماً، وهي باكستانية كانت تعيش في بريشيا بإيطاليا، على يد والدها الذي ادعى أنه «ينقذ شرف العائلة». وكانت المجني عليها قد رفضت زواجاً مرتباً بواسطة الأسرة، وفضلت أن تعيش مع صديقها الإيطالي. وفي العام 2009م، وفي بوردينوني بإيطاليا، قُتلت سناء دفاني، وهي فتاة من أصل مغربي تبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، على يد والدها، لأنها كانت على علاقة برجل إيطالي. وفي سنة 2011م، وفي مدينة سيرينولا بإيطاليا، طعن رجل شقيقه 19 مرة، لأن مثليته الجنسية كانت «عاراً على الأسرة». وفي عام 2021م، قُتلت سامان عباس على يد عمها، لأنها رفضت الزواج من شخص تمت الموافقة عليه بواسطة الأسرة دون النظر لإرادة ورضا الفتاة من عدمه.

 

Italy

Similar to other Southern/Mediterranean European areas, the honor was traditionally important in Italy. Indeed, until 1981, the Criminal Code provided for mitigating circumstances for such murdering; until 1981 the law read: “Art. 587: He who causes the death of a spouse, daughter, or sister upon discovering her in illegitimate carnal relations and in the heat of passion caused by the offense to his honor or that of his family will be sentenced to three to seven years. The same sentence shall apply to whom, in the above circumstances, causes the death of the person involved in illegitimate carnal relations with his spouse, daughter, or sister.” Traditionally, honor crimes used to be more prevalent in Southern Italy.

 

In 1546, Isabella di Morra, a young poet from Valsinni, Matera, was stabbed to death by her brothers for a suspected affair with a married nobleman, whom they also murdered. In 2006, twenty-year-old Hina Saleem, a Pakistani woman who lived in Brescia, Italy, was murdered by her father who claimed he was “saving the family’s honor”. She had refused an arranged marriage, and was living with her Italian boyfriend. In 2009, in Pordenone, Italy, Sanaa Dafani, an 18-year-old girl of Moroccan origin, was murdered by her father because she had a relationship with an Italian man. In 2011, in Cerignola, Italy, a man stabbed his brother 19 times because his homosexuality was a “dishonor to the family”. In 2021 Saman Abbas was murdered by her uncle because she refused her arranged marriage.

زر الذهاب إلى الأعلى