تعقيب على مشروع قانون التنمر

بقلم : محمد شعبان

تداولت المواقع الإخبارية قرار مجلس الوزراء بتاريخ 15/07/2020 بالموافقة على مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات بإضافة نص جديد وهو نص المادة (309 مكرر “ب”) بتجريم سلوك التنمر، وقرر إحالته لمجلس النواب تمهيداً لمناقشته وإقراره. والنص المقترح جاء كالتالي : ( يعد تنمراً كل استعراض قوة أو سيطرة للجاني، أو استغلال ضعف للمجني عليه، أو لحالة يعتقد الجاني أنها تسيء للمجني عليه، كالجنس أو العرق أو الدين أو الأوصاف البدنية، أو الحالة الصحية أو العقلية أو المستوى الاجتماعي، بقصد تخويفه أو وضعه موضع السخرية، أو الحط من شأنه أو إقصاءه عن محيطه الاجتماعي. ويعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على ثلاثين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين ).

وإذ نتناول النص المقترح بالتعقيب، فلنا عليه ملاحظتان؛ إحداهما شكلية والأخرى موضوعية. أما الملاحظة الشكلية فهي متعلقة بموضع النص من القانون؛ فالمشروع إذ عمد إلى تجريم هذا الفعل فاختار أن يكون نص التجريم ضمن نصوص الباب السابع من الكتاب الثالث من قانون العقوبات والخاص بـ”جرائم القذف والسب وإفشاء الأسرار” وجاء النص مضافاً بمادة جديدة هي المادة (309 مكرر”ب”) أي تالياً للنصوص المضافة بموجب القانون رقم 37 لسنة 1972 في شأن حرمة الحياة الخاصة!!. وهذا الموضع من وجهة نظري لا يتفق مع الترتيب الموضوعي والمنطقي لنصوص القانون داخل هذا الباب، فمن الأوفق أن يُراعىَ عند اختيار موضع النص، أن يكون من بين النصوص التي التي تُجرم أفعال التعرض للغير والتحرش الجنسي لوحدة المصلحة الكلية المُعتدى عليها، لذلك نقترح على لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب عند مناقشة النص المطروح، أن تحدد موضوعة باقتراح إضافته بمادة جديد لتكون (المادة 306مكرر”ج”). فذلك- من وجهة نظري – هو الأصح والأقرب إلى المنطق حتى تأتي النصوص متسلسلة ومرتبة ترتيباً منطقية يتفق وأصول الصياغة التشريعية التي تعتمد على ترتيب الموضوعات التي ينظمها القانون.

أما الملاحظة الموضوعية فتبدوا من مطالعة النص المُقترح أول وهلة. إذ يتضح أن المشروع عَمد إلى تحديد تعريف تشريعي لما يعد “تنمر” معتمداً منهجاً شكلياً، من خلال إيراد صور سلوك ارتأى أن من شأنها تحقيق الإساءة إلى شخص ما، القصد من وراءها تخويفه أو الحط من كرامته أو إقصاءه عن محيطه الإجتماعي.

وبالبحث في حقيقة كلمة “تنمر” تبين أن هذا المصطلح ذاع انتشاره في الفترة الأخيرة على وسائل التواصل الإجتماعي وفي أروقة الأمم المتحدة سيما بعد تبني هيئة اليونيسف (UNICEF) حملتها الشهيرة لحماية الأطفال من التنمر، ولم تعن أغلب التشريعات التي واجهت التنمر بوضع تعريف تشريعي له، لأنه في حقيقته مجرد سلوك يستهدف الإيذاء النفسي والبدني، وهذا الإيذاء له صور متعددة، كالسب والقذف والابتزاز والتحرش الجنسي والفعل الفاضح وغير ذلك من صور السلوك التي تنال بالضرر مصالح الإنسان في حماية نفسه وشرفه واعتباره.

والمُلاحظ على التعريف الذي تبناه المشروع المقترح، أنه جَعَلَ التنمر من عِداد أفعال استعراض القوة وفرض السيطرة على الغير واستغلال الضعف لديهم أو حالتهم الصحية أو العقلية أو المستوى الإجتماعي!!. وفي الحقيقة فإنني أختلف مع هذا المفهوم الذي تبناه المشرع على هذا النحو، لما يلاحظ فيه من (قصور على نحو كبير) عن الإحاطة بمختلف صور السلوك الأخرى التي يتعرض لها الإنسان بمختلف الطرق، وفي مختلف الأماكن، سواء في الواقع الحقيقي أو الافتراضي، هذا فضلاً عن الخلط الكبير الذي قد يحدث في التطبيق بين “التنمر” بهذا المفهوم، والبلطجة المؤثمة بنص المادة 375 مكرر و 375 مكررا (أ) من قانون العقوبات والمستبدلتين بالمرسوم بقانون رقم 10 لسنة 2011. فهاتان المادتان قد أوردتا صوراً لبعض أنماط السلوك التي يُتوجه بها إلى نفس الإنسان وحريته وشرفه واعتباره، وعدد المشرع هذه الصور ما بين استعراض للقوة والتلويح بالعنف أو التهديد بأي منهما أو استخدامهما ضد المجني عليه أو مع زوجه أو أحد أصوله أو فروعه بقصد ترويعه أو تخويفه بإلحاق أذى مادي أو معنوي به أو الإضرار بممتلكاته أو سلب ماله أو الحصول على منفعة منه أو التأثير في إراداته، إلى غير ذلك من الصور. وهذا التنازع بين النصوص قد يولد أخطأ وغموضاً عند التطبيق تذهب بالحكمة من استحداث النص بخلاف ما قد يحدثه ذلك من ضرر بمبدأ الأمن القانوني وهو أحد المبادئ التي يقوم عليها مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.

لذلك فإنني أرى أنه ينبغي عند وضع تعريف تشريعي جنائي لفعل “التنمر” أن ننطلق من الصورة الإجتماعية لهذا الفعل. فوفقاً للدراسات الإجتماعية التي تبنت هذا السلوك بالبحث، يتضح أن التنمر هو في حقيقته أحد أشكال الإساءة والإيذاء الموجه من فرد واحد أو مجموعة من الأفراد، إلى شخص أو مجموعة من الأشخاص، وهو غير مقصور في صورة واحدة، فهو ينطوي على عدد هائل من الأفعال التي يتجسد فيها، فمتصور أن يكون لفظياً كما يتصور أن يكون جسدياً، بل من المتصور كذلك أن يكون عبر الإشارات والتلميحات والإيماءات. فكل هذه الصور تستوى من حيث القوة والوزن في نظر المشرع الجنائي متى كان من شأنها أن تعرض للخطر أو تصيب بالضرر المصلحة المشمولة بالحماية الجنائية، وهي نفس الإنسان وكرامته واعتباره وشرفه.

بالتالي فلا يكفي أن تقتصر ماديات جريمة التنمر في صورتي ( استعراض القوة ) أو ( الإستغلال ) فقد لا يحتاج المتنمر استعمال أي قوة، بل يكفيه فقط لإحداث النتيجة المؤثمة أن يومئ أو يعطي إشارات أو تلميحات متى كان المستفاد من السياق الواقعي الذي خرجت فيها أنها تستهدف إيذاء لشخص معين أو إساءة، وهو ما نرى أنه من الأوافق أن يعتمد المشروع صور السلوك التي جرى النص عليها في المادة 306 مكررا (أ) من قانون العقوبات، وهو ذات النهج الذي اتبعه المشرع لدى تبنيه لتعريف جريمة (التحرش الجنسي).

كما يتعين أن يراعي المشروع إبراز القصد الخاص في بنيان الركن المعنوي للجريمة على نحو لا يعتمد على أي معيار شخصي مآله إلى شخص الجاني، وإنما يتعين أن يعمد إلى تبني معيار أكثر موضوعية في وضع إطار هذا القصد الخاص. فالقصد الخاص للجريمة هو الغاية النهائية التي يبغي الجاني الوصول إليها ويتخذ من السلوك وسيلة للعبور على غايات أخرى من أجل تحقيق غايته الخاصة. فإذا كان المتنمر أقصى ما ينتويه هو الإغتيال المعنوي لشخص المجني عليه، فإنه يتخذ لذلك من الوسائل ما يمكنه من مقصده ذاك، وهو بإزاء ذلك يَعبُر على شرف الضحية واعتباره ويمس وضعه الإجتماعي.!! ولئن كانت هذه النتائج المتحققة جميعها مؤثمة، إلا أنها ليست في ذاتها الغايات المقصودة، وإنما ما هو مقصود إنما هو هدف أسمى من مجرد الإساءة والقذف، فالمقصود هو تأكيد الأذى النفسي. وهذه النية الخاصة قد لا تصلح للتدليل عليها العبارات التي استخدمها المشروع وهي ( قصد تخويفه أو وضعه موضع السخرية، أو الحط من شأنه أو إقصاءه عن محيطه الاجتماعي)، فكل هذه الغايات إنما هي في حقيقتها غايات أولية، تتحقق بمجرد استخدام أو توجيه عبارات السب والقذف التي تحقر من شأن الإنسان بين بني وطنه، لذلك فمن الأوفق أن يستعاض عن هذه العبارات بعبارة واحدة كافية شافية جامعة مانعة، مستفادة من حقيقة التعريف الإجتماعي للتنمر وهي (بقصد إيذاءه نفسياً أو بدنياً).

أما على صعيد العقاب، فتلاحظ أن المشروع وضع عقوبة على فعل التنمر في ذاته، وهي الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر والغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه. كما تبنى تشديداً للعقاب إذا توافر أحد ظرفين، أحدهما وقوع الجريمة من شخصين أو أكثر، والآخر إذا كان الفاعل من أصول المجني عليه أو من المتولين تربيته أو ملاحظته أو ممن لهم سلطة عليه، أو كان مسلماً إليه بمقتضى القانون أو بموجب حكم قضائي أو كان خادماً لدى المجني عليه، فجعل العقوبة في هذه الحالة الحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تزيد على مائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، مع مضاعفة الحد الأدنى للعقوبة حال اجتماع الظرفين، وفي حالة العود تضاعف العقوبة في حديها الأدنى والأقصى .

وإذا كانت هذه السياسة مستحسنة في العقاب، إلا أنها تحتاج إلى مزيد من التدعيم، لذلك أرى أنه من الأوفق أن يضيف المشروع إلى الظرف الأول (الحالة التي يكون فيها أحد المتهمين أو حاملاً سلاحاً) فحتماً سيكون الضرر أشد مما يتعين تشديد العقوبة تبعاً لذلك مراعاة لمعيار التناسب بين العقوبة والخطورة الإجرامية. كما أنه من الأوفق كذلك تشديد العقاب على التنمر متى ارتكب ضد الأنثى، سيما وأنه سبق وأن عمد المشرع إلى تمييزها تمييزاً إيجابياً وشدد من عقوبة الإعتداء عليها وهو ما تلاحظ في المادة (375 مكرر (أ) من قانون العقوبات ). وفضلاً عن ذلك فبالنظر إلى ما قد يراه القاضي من ظروف الجاني ومقدار ما ينبعث من من خطورة إجرامية، من أهمية لتوقيع تدبير احترازي عليه إلى جانب العقوبة لمواجهة الخطورة الكامنة به، أو متى رأى أن العقوبة عند حد معين يراه مناسب قد لا تؤتي بثمارها وحدها مالم تقترن بتدبير، فإن ذلك يُستحسن معه إضافة عقوبة تكميلية للمتنمر وهي ( مراقبة الشرطة ) تكون جوازية للقاضي للحكم بها  لمدة معينة إذا ما ارتأى ذلك، كما تكون وجوبية في الحالة التي يُكتفى فيها بتطبيق عقوبة الغرامة وحدها.

كانت هذه ابرز الملاحظات التي تبدت لي عند الإطلاع على النص المقترح في مشروع الحكومة لمواجهة التنمر والتي أنتهى منها إلى اقتراح أن يكون النص التشريعي المستحدث كالتالي :

( مادة 306 مكررا “ج” :

يُعد مُتنمراً ويُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على ثلاثين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كلُ من استغل ضعفاً أو حاجة لدى شخص ما، وارتكب الجريمة المنصوص عليها في المادة (306 مكررا “أ” ) من هذا القانون، وكان ذلك بقصد إيذاءه نفسياً أو بدنياً.

فإذا وقعت الجريمة على أنثى، أو ارتكبت من شخصين فأكثر أو كان أحدهم على الأقل يحمل سلاحاً، أو متى كان الفاعل من أصول المجني عليه أو من المتولين تربيته أو ملاحظته أو ممن لهم سلطة عليه، أو كان مسلماً إليه بمقتضى القانون أو بموجب حكم قضائي أو كان خادماً لدى المجني عليه، مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تزيد على مائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، مع مضاعفة الحد الأدنى للعقوبة حال اجتماع الظرفين.

وفي حالة العود تضاعف عقوبتا الحبس والغرامة في حديهما الأدنى والأقصى.

ويجوز للقاضي في جميع الأحوال أن يقضي بوضع المحكوم عليه تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لمدة العقوبة المحكوم بها. ومع ذلك يجب وضعه تحت المراقبة لمدة لا تقل عن ستة أشهر إذا اكتفى القاضي بالحكم عليه بالغرامة” .

والله من وراء القصد.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى