تزوير الفكر الناعم

مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني

هل يمكن للإنسان أن يفقد نفسه دون أن يشعر؟! وهل يمكن لمجتمع بأكمله أن ينحرف لا لأن وقائعه تغيّرت، بل لأن طريقة التفكير فيه أُعيد توجيهها؟ وهل أخطر ما يهدد البشر هو ما يُفرض عليهم بالقوة، أم ما يُقدَّم إليهم في صورة رواية مقنعة؟! ثم، متى يصبح تزوير الفكر أخطر من أي تزوير آخر؟ تزوير الفكر ليس فعلًا فجًّا، ولا ممارسة صدامية، ولا حادثة عارضة في مسار التاريخ، بل هو عملية هادئة، طويلة النفس، ترافق الإنسان منذ أدرك أن السيطرة الحقيقية لا تبدأ من الجسد، بل من العقل الذي يفسّر العالم. فمن ينجح في توجيه الفكر، لا يحتاج إلى فرض الواقع، لأن الواقع سيُعاد تشكيله تلقائيًا وفق ما استقر في العقول.

ولذلك لم يكن التاريخ يومًا مجرد وقائع صماء، بل سرديات. لم تُمحَ أحداث كثيرة، لكنها قُدِّمت بزاوية واحدة، وأُعيد ترتيبها داخل روايات منتقاة تخدم أغراضًا بعينها. أُبرز جانب، وأُخفي آخر، حتى تحوّلت القراءة الجزئية إلى حقيقة كاملة في الأذهان. ومع التكرار، لم تعد الرواية تُراجَع، بل أصبحت هي المرجع، لا لأنها الأصدق، بل لأنها الأكثر رسوخًا. وهكذا، زُوِّر الفكر قبل أن يُزوَّر التاريخ، وتحوّل الماضي إلى أداة لتوجيه الحاضر.

ولا يُمارَس تزوير الفكر الناعم بضجيج أو قهر، بل عبر مسالك تبدو في ظاهرها طبيعية. يبدأ الأمر بانتقاء المعلومة لا باختلاقها، وبعرض جزء من الصورة وإخفاء الإطار الكامل، حتى يبدو المعروض وكأنه الحقيقة كلها. ثم يأتي التكرار؛ فالفكرة التي تُقال مرة تُناقَش، والتي تُقال مرارًا تُستساغ، والتي تُعاد بلا انقطاع تستقر في العقل كأنها بديهية. ويُستبدل السؤال بتفسير جاهز، ويُقدَّم الرأي في ثوب التحليل، وتُمنح العاطفة سلطة على المنطق، فيتشكّل الفكر لا على أساس ما هو صحيح، بل على أساس ما هو مألوف. ويُستخدم الخوف لا بالتهديد، بل بالإيحاء، ويُستدعى الأمل لا بالحقيقة، بل بالوعد. وتدخل الصورة، والمشهد، والحكاية، لا لتكمل الفكرة، بل لتسبقها، فيصبح الإحساس سابقًا على الفهم، ويُدجَّن العقل دون أن يشعر صاحبه بأنه خضع لعملية توجيه.

ولا يعمل تزوير الفكر الناعم في الفراغ، بل يستند إلى أدوات تؤثر في العقل والوجدان دون أن يُدرَك تأثيرها مباشرة. فالإعلام، حين لا يكذب صراحة، بل يختار ما يسلّط الضوء عليه وما يتركه في الظل، يصبح أداة لتوجيه الانتباه قبل توجيه الرأي. والفن، حين يُعيد تشكيل الشخصيات والأحداث في صورة درامية جذابة، لا يقدّم الترفيه فقط، بل يزرع انطباعات عاطفية تسبق الحكم العقلي. والتعليم، حين يكتفي بالتلقين ويقصي السؤال، لا يصنع معرفة، بل يرسّخ نماذج تفكير جاهزة. والخطاب الديني أو الأخلاقي، حين يُنتزع من سياقه ويُستخدم انتقائيًا، يتحول من بوصلة قيم إلى أداة اصطفاف. وحتى اللغة نفسها تصبح أداة؛ فاستبدال لفظ بآخر، وتلطيف المصطلحات، وتغيير توصيف الفعل، كل ذلك يُعيد تشكيل الموقف دون أن يشعر المتلقي. ومع وسائل التواصل الحديثة، تتضاعف فاعلية هذه الأدوات، حيث تُعاد الرسائل في صور مختصرة، ومقاطع سريعة، وشعارات قابلة للمشاركة، فتنتقل الفكرة لا باعتبارها موضوعًا للتفكير، بل باعتبارها شعورًا جماعيًا. وهكذا تتكامل الأدوات، لا لتفرض قناعة، بل لتُعيد برمجة طريقة التلقي ذاتها، فيصبح العقل مستعدًا لتقبّل ما يُعرض عليه، لا لأنه اقتنع، بل لأنه اعتاد.

وحين يُزوَّر الفكر بهذه النعومة، لا يبقى الأثر محصورًا في الذهن، بل ينساب إلى المجتمع كله. تتبدل المعايير دون إعلان، وتُعاد صياغة القيم دون قرار، ويغدو ما كان يُستنكر مبرَّرًا، وما كان يُرفض مألوفًا. لا يحدث الانقلاب فجأة، بل عبر انزلاق بطيء يجعل التحول يبدو طبيعيًا، حتى يصبح الاعتراض نشازًا، والتساؤل عبئًا، والاختلاف خطرًا.

ومن هنا تتجلى الخطورة القانونية، وبخاصة في (المجال الجنائي). فالقانون يتعامل مع أفعال مادية محددة، لكنه يجد نفسه أمام نتائج خطيرة لأفعال ذهنية موجهة. تزوير الفكر لا يُجرَّم بذاته في الغالب، لكنه يمهّد لجرائم لا خلاف عليها: تحريض، تشويه سمعة، كراهية، تبرير عنف، قبول اجتماعي لانتهاكات جسيمة. وهنا لا يكون الخلل في النصوص وحدها، بل في (البيئة الفكرية) التي تُطبَّق فيها هذه النصوص. فإذا اختل الفكر الجمعي، انحرفت العدالة دون أن تقصد، وتبدلت نظرة المجتمع إلى الجريمة والفاعل والضحية.

ولا يقف الأثر عند حدود القانون، بل يمتد إلى العلاقات الإنسانية ذاتها. تتشكل الأحكام المسبقة قبل المعرفة، وتنهار الثقة قبل التجربة، لأن صورة الآخر تُقدَّم للفكر جاهزة. لا نرى الناس كما هم، بل كما قيل لنا عنهم. وهكذا تُفكَّك الروابط الإنسانية بصمت، لا بسبب وقائع مباشرة، بل بسبب تصورات زُرعت في العقول واستقرت فيها.

ويمتد تزوير الفكر ليطال كل شيء تقريبًا: السياسة حين تُدار القرارات على أساس تصورات مختلة، والاقتصاد حين تُحرَّك المخاوف والتوقعات بمعلومات مضللة، والثقافة حين تُختزل القيم في شعارات، والعلم حين يُساوى الرأي بالمعرفة، والدين حين تُنتزع المعاني من سياقها. لأن الفكر هو المدخل، ومن يسيطر على المدخل، يتحكم فيما بعده.

والأخطر من ذلك كله أن تزوير الفكر لا يحتاج إلى سلطة ظاهرة، ولا إلى أدوات قمع مباشرة، بل إلى صبر وتراكم، وإلى مزيج متقن من الأدوات والطرق معًا. لا يحتاج إلى إسكات الأصوات، بل إلى إضعاف السؤال. ولا يحتاج إلى فرض رأي واحد، بل إلى إغراق المجال العام بروايات متشابهة تُفرغ الحقيقة من معناها، حتى تصبح مجرد رأي من بين آراء. ومع الوقت، يفقد الإنسان بوصلته، لا لأنه أُجبر، بل لأنه اعتاد.

وفي النهاية، يعود السؤال الأول، وقد ازداد ووضوحًا: إذا كان من الممكن تزوير التاريخ دون محو الوقائع، وتفكيك المجتمع دون كسره، وتوجيه الإنسان دون أن يُمس، فأليس تزوير الفكر الناعم هو أخطر ما يمكن أن يصيب الإنسان؟ إنه الخطر الذي لا يترك جرحًا ظاهرًا، لكنه يغيّر كل شيء في العمق. ومن هنا، فإن الدفاع عن سلامة الفكر ليس ترفًا ثقافيًا ولا جدلًا نظريًا، بل ضرورة إنسانية. لأن من يفقد السيطرة على طريقة تفكيره، يفقد -دون أن يشعر -سيطرته على نفسه، وعلى علاقته بالعالم، وعلى مستقبله كله. والله من القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى