ترتيب المصادر الشرعية والاجتهاد في الدين
ترتيب المصادر الشرعية والاجتهاد في الدين
نشر بجريدة الشروق الخميس 17/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
قيمة مصادر التشريع، أنها أساس في الاجتهاد المروم به التعرُّف على الأحكام الشرعية في الإسلام، وسنرى أنها جميعًا تحتكم في فهمها وتطبيقها إلى العقل والتفكير.
ولا مراء في أن القرآن الكريم هو أول مصادر التشريع، تليه السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية، وأن استنباط الأحكام من القرآن والسنة، باب واسع للمجتهد فيه أدوات من اللغة ومعانى الألفاظ، وطرق للاستدلال والتأويل، وإذا كان الإجماع على رأس قائمة المصادر الشرعية بعد القرآن والسنة، في قوة الاحتجاج به، ويسبق فتوى الصحابي، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف، والذرائع، والاستصحاب، وشرع ما قبل الإسلام فيما لا يخالفه، وأن هذا الإجماع هو محصلة اجتهاد باستعمال طرق ووسائل الاستدلال لاستنباط الأحكام من قياس وغيره، فإن باقي ما يلى الإجماع معدود ولا شك من وسائل الاجتهاد والاستنباط والتأويل، ولكن قد يتوفر له في جزئية ما من توالى الاستخلاص واتفاق التأويل، ما تتكون به قاعدة شرعية تحسب ضمن مصادر التشريع الإسلامي.
ففتوى الصحابي، قد تكون ثمرة اجتهاد استخدم فيه القياس، ولكن هذه الفتوى بما تضمنته تصير من مصادر التشريع، تالية للإجماع، وأولوية فتوى الصحابي كمصدر للتشريع مستمدة من مصاحبة النبي عليه الصلاة والسلام وتلقى الرسالة والسماع عنه والإلمام بأسباب ومناسبات التنزيل، ومن ثم صارت لفتاوى الصحابة حجة مستمدة من هذه العناصر.
ولا شك أن القياس في الأصل وسيلة تفسير واستنباط، وهو لدى الأصوليين بيان حكم غير منصوص على حكمه بإلحاقه بأمر معلوم حكمه بالنص عليه في الكتاب أو السنة، ويعرّفونه أيضًا بأنه إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر آخر منصوص على حكمه للاشتراك بينهما في علة الحكم، وبهذا القياس تكونت في بعض الحالات قواعد صارت معدودة من مصادر التشريع، كإعطاء الجد حكم الأب في الميراث، وقياس حد الشرب على حد القذف باعتبار أن الشرب يؤدى إليه. فهنا كان القياس وسيلة تأويل واستنباط، ولكن محصلته صارت في بعض الحالات من مصادر التشريع.
والاستحسان من عناصر قدرة الإسلام على مواكبة الحياة ومن ثم ثراء مصادر الفقه فيه، وهو يعنى في اصطلاح الأصوليين عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلىّ إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كلى إلى حكم استثنائي لدليل انقدح في عقله رجح لديه هذا العدول، وعنه قال الإمام مالك إنه تسعة أعشار العلم، وقد أنتج الاستحسان كوسيلة استنباط ـ قواعد صارت حجة بذاتها كمصدر للفقه، كاستحسان صحة عقد الاستصناع لانعقاد الإجماع على غير ما يؤدى إليه القياس من إيجاب إبطاله باعتبار أن محل العقد كان معدومًا وقت إنشاء العقد، وهنا تساند الاستحسان كوسيلة استنباط وتأويل، مع الإجماع، فشكلا معًا قاعدة صارت من قواعد أو مصادر التشريع. على إنه من الحق أيضًا، أن الاستحسان ليس مصدرًا تشريعيًا مستقًلا، لأنه في الواقع طريقة للاستخلاص والاستدلال من المصادر التشريعية الموجودة.
وتقترب المصالح المرسلة من تكييف الاستحسان، في أنها من مصادر الاجتهاد للتعرف على الأحكام الشرعية في الإسلام، وليس مصدرًا قائمًا بذاته من مصادر التشريع.
على أن الأمر يختلف بالنسبة للعرف، والمقصود به ما تعارف عليه الناس وأقروه، وفي الحديث النبوي: « ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن ». والعرف معدود بذاته من الأدلة الشرعية عند الفقهاء، وإليه الاحتكام في كثير من أحكام الفقه الفرعية، من ذلك اعتياد الناس بالعرف على بيع المعاطاة من غير صيغة لفظية، أو قسمة الصداق إلى مقدم ومؤخر، وهو على أية حال يجب أن يكون عرفًا صحيحًا لا فاسدًا، وألاَّ يخالف دليلاً شرعيًا، فلا يحل حرامًا، ولا يبطل حلالاً.
أما الذرائع فلا مراء أنها من وسائل استنباط الأحكام الشرعية، ومعناها في لغة الشرعيين أن ما يكون طريقًا لمحرم أو محلل، فإنه يأخذ حكمة، فالطريق إلى المباح مباح، وما لا يؤدَى الواجب إلاَّ به فهو واجب.
ومن مصادر الفقه، وأحكام الشرع، ما يعرف عند الأصوليين « بالاستصحاب ».. ومعناها لغة استمرار المصاحبة، أما في اصطلاح الأصوليين فمعناه الحكم على الشيء بالحال التي كان عليها من قبل، حتى يقوم دليل على تغيرها، أو جعل الحكم الذي كان ثابتًا في الماضي باقيًا في الحال التي عليها حتى يقوم دليل على تغيره.
ومعرفة النص، وترتيب المصادر، لا يغنى في الاجتهاد عن التفكير والفهم في كل مصدر من هذه المصادر، والمسلم مطالبٌ أساسًا بما تلقاه من أوامر إلهية أن يعمل التفكير، وأن يحتكم في تفكيره وفهمه إلى العقل والبصيرة، ولا يتبع النص بغير فهم أو بغير تفرقة بين مواضع الاتباع وأسبابه.
ومن يقول إن العمل بالنص يعنى العمل بغير فهم ـ ليس هو من الإسلام في شيء !
فالتفكير في أمور الدين أصل من الأصول المقررة، أما التقليد فهو حالة من حالات الضرورة التي تعفي من الاجتهاد بالفهم من يعجز عنه ولا يستطيعه.
فلا إيجاب للتقليد، ولا تحريم للاجتهاد بالفكر.
وشرُّ الناس من يحرم على خلق الله أن يفكروا ويتدبروا بعد أن أمرهم الله بالتفكير والتدبر، وأنبأهم بعاقبة من لا يفكرون ولا يتدبرون.
على أن التفكير في الإسلام ليس عوضًا أو بديلاً عن النص أو ما يشبه النص في الأحكام، بل هو فريضة منصوص عليها ومطلوبة لذاتها ولما يتوقف عليها من فهم الفرائض الأخرى.
وقد وقع الاجتهاد في الإسلام نصًّا وعرفًا وتقليدًا إن صح هذا التعبير، ويعنى الأستاذ العقاد بالتقليد هنا حسن القدوة بالأولين والتابعين من السلف الصالح، وأول الأولين بداهة هو نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام ثم الخلفاء الراشدون ومن تبعهم في العصور التي اشتدت فيها حاجة المسلمين إلى الاجتهاد، وقد آثر الأستاذ العقاد هذا التعبير عـلى « فتوى الصحابي » إيثارًا أظن أنه مقصود لفتح المجال للعقل للاجتهاد الأوسع الذي يجد غايته فيما أبداه النبي عليه الصلاة والسلام وفيما يقع عليه الباحث من اجتهادات الخلفاء الراشدين والتابعين، وقد أشفع الأستاذ العقاد هذا ببيان بعض هذه الاجتهادات التي تلقاها الصحابة عن النبي عليه الصلاة والسلام.
أما الخلفاء الراشدون، فيقفي الأستاذ العقاد بأنهم اجتهدوا منذ عهد الصديق الخليفة الأول في المصالح المرسلة التي لم يرد فيها نص ولم تسبق لها سابقة في حياة النبي عليه السلام. وضرب أمثلة لهذه الاجتهادات بالمصالح المرسلة:
- كتابة المصحف ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير.
- ولاية العهد من أبى بكر لعمر رضى الله عنهما، لم يتقدم فيها أمر ولا نظير.
- ترك الخلافة شورى.
- وتدوين الدواوين.
- وعمل السكة للمسلمين.
- واتخاذ السجن.
- هدم الأوقاف التي بإزاء المسجد النبوي وتوسعته، وقد اجتهد في ذلك عمر رضى الله عنه.
- تجديد الأذان في الجمعة بالسوق، وقد اجتهد في ذلك عثمان رضى الله عنه.
- واجتهد أبو بكر وعمر معًا فيما ورد فيه النص لزوال العلة الموجبة، بالنسبة لسهم الزكاة للمؤلفة قلوبهم.
ويعقب الأستاذ العقاد تعقيبًا في محله، أن من سوء الفهم اعتبار أن هذا مخالفة للنص، وإنما الصحيح أنه اجتهاد في فهم النص في إطار البحث في المؤلفة قلوبهم، حيث لم يعد لها محل ولا مصلحة في الإسلام، تقرر لهؤلاء استحقاقًا في أموال الزكاة.
ومن هذا الاجتهاد، فيما أورد، إسقاط حد السرقة في عـام المجاعـة، والواقـع أنه اجتهاد يستند إلى أن القرآن والسُّنة قد جعلا من حالـة الضـرورة سببًا عامـًا للإباحـة أو مانعًا للعقاب، فجاء في القرآن الحكيم: « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » ( البقرة 173 )، وجاء فيه أيضًا « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ » ( النحل 115 والأنعام 145 )، وجاء في الحديث الشريف: « الضرورات تبيح المحظورات ».