تحول تاريخي في قانون الإيجارات.. تحليل المادة الثانية من القانون رقم 164 لسنة 2025
بقلم الأستاذ/ مايكل بساده أديب ـ باحث الدكتوراه بقسم القانون المدني ـ المحامي بالنقض و الإدارية العليا
شهدت المنظومة القانونية للإيجارات في مصر تحولًا جوهريًا عبر عقود، متأرجحة بين حماية المستأجرين بقوانين استثنائية وبين السعي نحو تحرير السوق العقاري.
اليوم، يقف المجتمع القانوني والمواطنون أمام مرحلة حاسمة مع صدور القانون رقم 164 لسنة 2025، الذي يمثل نقطة تحول حقيقية. وتأتي المادة الثانية من هذا القانون لتُشكل حجر الزاوية في هذا التحول، حيث تُنهي بوضوح وصرامة حقبة “العقود المؤبدة” وتُحدد فترات زمنية قاطعة لانتهاء عقود الإيجار القديمة، سواء السكنية أو التجارية. إن فهم هذا النص ليس مجرد قراءة لكلمات، بل هو استيعاب لمنطق تشريعي، وفلسفة قانونية، وواقع اجتماعي معقد. في هذا التحليل، سنغوص في أعماق هذه المادة، مستعرضين أبعادها القانونية والاجتماعية والمنطقية، بهدف توضيح أثرها على الأطراف كافة وتقديم خارطة طريق للفترة الانتقالية.
تنص المادة (٢) من المادة الثانية من القانون رقم 164 لسنه 2025 : تنتهي عقود إيجار الأماكن الخاضعة لأحكام هذا القانون لغرض السكني بانتهاء مدة سبع سنوات من تاريخ العمل به، وتنتهي عقود إيجار الأماكن للأشخاص الطبيعية لغير غرض السكنى بانتهاء مدة خمس سنوات من تاريخ العمل به، وذلك كله مـا لـم يتم التراضي على الإنهاء قبل ذلك
• النص في المادة واضح بشكل كبير. إنه يحدد فترات زمنية محددة لانتهاء عقود الإيجار السارية، وهي “سبع سنوات” للعقود السكنية و**”خمس سنوات”** للعقود لغير غرض السكنى. هذا هو التفسير الحرفي: المشرع يحدد مدة الإيجار في هذه الحالات، ويجعلها تلقائية ومحددة.
• النص يذكر بوضوح أن هذه القواعد تنطبق “ما لم يتم التراضي على الإنهاء قبل ذلك”. هذه العبارة هي تطبيق صريح لمبدأ الأسبقية، حيث إن اتفاق الطرفين (الإرادة المشتركة) له الأسبقية على الحكم العام للنص، وهو ما يشكل استثناءً. فالتراضي على إنهاء العقد قبل المدة المحددة يستثني العقد من القاعدة العامة لإنهاء العقد بقوة القانون.
• التفسير المنطقي يقودنا إلى أن الهدف الأساسي من النص هو إنهاء حالة “العقود الأبدية” أو غير محددة المدة، والتي كانت تسبب خللاً في السوق العقاري.
• الغرض هو تحرير السوق تدريجياً، وإعادة التوازن بين المؤجرين والمستأجرين، مما يُعزز من الاستثمار في قطاع الإيجارات. المنطق يقتضي أن تختلف المدة الزمنية بين العقود السكنية وغير السكنية، وهو ما قام به المشرع (7 سنوات مقابل 5 سنوات)، لأن العقود التجارية تحتاج إلى وقت أقل لتحقيق الاستقرار والأرباح من عقود السكن التي ترتبط بظروف اجتماعية أكثر حساسية.
• يُفسر هذا النص في سياق قانوني أوسع يهدف إلى تنظيم العلاقة الإيجارية بشكل كامل. أما السياق الاجتماعي، فهو معالجة لمشكلة اجتماعية كانت سائدة، وهي وجود عقود إيجار قديمة وغير منصفة للملاك، مع الأخذ في الاعتبار أهمية الاستقرار السكني للمواطنين، مما يبرر المدة الأطول للعقود السكنية (7 سنوات).
• التفسير التاريخي للنص يربطه بمسيرة تشريعات الإيجارات في البلاد، والتي مرت بمراحل مختلفة من الحماية الصارمة للمستأجرين إلى تحرير تدريجي للعقود. هذا النص يمثل مرحلة مهمة من مراحل هذا التحرير. التفسير المقارن يظهر أن العديد من التشريعات المقارنة (في دول أخرى) قد اتجهت نحو تحديد مدة العقود الإيجارية لإنهاء حالة “التأبيد” التي قد تُقيد السوق العقاري.
• القصد التشريعي وراء النص واضح: هو إنهاء العقود القديمة وإعادة تنظيم سوق الإيجارات. العلة التشريعية تكمن في تحقيق التوازن بين حق المالك في ملكه وحق المستأجر في الاستقرار. المعنى الظاهري للنص هو إنهاء العقود في مدد زمنية محددة، بينما المعنى الضمني هو إعادة تعريف العلاقة التعاقدية على أنها علاقة ذات طبيعة مؤقتة وليست دائمة.
• هل هذا النص عادل؟
من منظور العدالة الإجرائية، نعم، لأنه يطبق قاعدة واحدة على جميع العقود المماثلة، ويمنح الأطراف مدة كافية للتكيف مع الوضع الجديد.
أما من منظور العدالة التوزيعية، فقد يراه البعض غير عادل لأنه ينهي عقوداً قديمة كانت تحمي فئات اجتماعية معينة. التناسق الداخلي يظهر في التفريق بين عقود السكن وعقود غير السكن، وهو ما يُظهر أن المشرع قد أخذ في الاعتبار أهمية الاستقرار الاجتماعي.
• من منظور الفلسفة الطبيعية للقانون، قد يُقال إن حق المالك في التصرف في ملكه هو حق طبيعي أصيل.
النص يميل إلى إعادة هذا الحق إلى المالك تدريجياً.
أما من منظور النفعية، فإن النص يسعى إلى تحقيق أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من الناس، وذلك من خلال تحرير السوق العقاري وزيادة المعروض من الوحدات الإيجارية، مما يعود بالنفع على المجتمع ككل، حتى لو تضرر بعض الأفراد.
• المدرسة الكانطية (العدالة والحقوق الإنسانية): من منظور هذه المدرسة، قد يُنظر إلى النص على أنه يحترم حق الملكية كحق أصيل، ولكن يجب أن يتم تطبيقه بطريقة لا تضر بكرامة المستأجر أو حقوقه الإنسانية الأساسية.
• التفسير الغائي يخبرنا أن الغرض من النص هو إنهاء العقود القديمة بشكل منظم. أما التفسير المنطقي بالمعنى الخاص، فيُمكننا أن نستخدم القياس فنقول: إذا كان القانون قد حدد مدة 5 سنوات للعقود التجارية لغير الأشخاص الطبيعية، فمن باب أولى يجب أن ينطبق هذا على العقود لغير غرض السكنى للأشخاص الطبيعية، وهو ما أكده النص. كما يُمكن استخدام مفهوم المخالفة، فنقول: إذا كان القانون يسمح بالإنهاء بالتراضي قبل المدة، فإنه يمنع الإنهاء بالإجبار قبلها، وهو ما يؤكد على وجوب انتظار المدة القانونية.
التماسك المنطقي وعدم التناقض:
• النص متماسك منطقياً ولا يتناقض مع نفسه. فهو يحدد قاعدة عامة، ثم يسمح باستثناء. وهذا التسلسل المنطقي يضمن أن يكون النص قابلاً للتطبيق دون إثارة تناقضات.
• العدالة والإنصاف وتجنب النتائج غير الأخلاقية: إن النص يسعى لتحقيق نوع من العدالة والإنصاف بتحديد مدة كافية للمستأجرين للانتقال، فلا يكون الإخلاء مفاجئاً أو تعسفياً. ولكن يجب أن يتم تفسيره بطريقة تضمن عدم إلحاق ضرر غير أخلاقي بالمستأجر، كأن يكون مستأجراً من فئة كبار السن أو ذوي الاحتياجات الخاصة. الغاية الأخلاقية للقانون هنا هي تحقيق التوازن بين حق الملكية والاستقرار السكني، ويجب أن يصب التفسير في صالح هذه الغاية.
• حماية الحقوق الأساسية والكرامة الإنسانية والتوازن بين القيم المتعارضة: يجب أن يضمن التفسير أن حق المؤجر في ملكه لا يتعارض مع حق المستأجر في السكن، والذي يُعد من الحقوق الأساسية. هذا يتطلب التوازن بين القيم المتعارضة. فالتفسير الذي يؤدي إلى إخلاء فوري أو تعسفي يُعد غير أخلاقي، بينما التفسير الذي يمنح المستأجرين مدة كافية للتكيف، يتفق مع القيم الأخلاقية.
• النص يحمل رمزية قانونية قوية، فهو يرمز إلى نهاية حقبة قانونية كانت تُميز بين المستأجر والمالك، وبداية حقبة جديدة تقوم على عقد متوازن. سياقه المجتمعي هو معالجة لظاهرة اجتماعية معقدة، وهي ندرة الوحدات السكنية وزيادة أسعار الإيجارات، وتضرر فئة الملاك من عقود الإيجار القديمة.
• العقلانية القانونية كأداة ضبط اجتماعي والآثار الاجتماعية للتفسير: إن هذا النص يُعد أداة لضبط اجتماعي تستخدم “العقلانية القانونية” (المدد الزمنية المحددة) لتغيير سلوك الأفراد، فيعلم المستأجر والمالك مسبقاً أن العقد سينتهي في موعد محدد، مما يُشجعهما على التخطيط المستقبلي. الآثار الاجتماعية لتفسير النص ستكون كبيرة، حيث سيؤدي إلى إنهاء عقود إيجار ملايين الأسر والمنشآت، مما سيؤثر على الاستقرار السكني والاقتصادي.
مستقبل العلاقة الإيجارية: نحو سوق عقاري أكثر توازناً
في الختام، تُعد المادة الثانية من القانون رقم 164 لسنة 2025 إيذانًا بنهاية عصر وبداية عصر جديد في سوق الإيجارات المصري. لقد أدرك المشرع أن “العقود المؤبدة” قد خلقت خللًا اقتصاديًا واجتماعيًا لم يعد من الممكن تجاهله. هذا النص، بما يحمله من دقة في تحديد المدد الزمنية والتمييز بين الأغراض السكنية وغير السكنية، يمثل خطوة جريئة نحو تحقيق التوازن بين حق المالك في ملكه وحق المستأجر في الاستقرار. ورغم أن هذا التحول قد يثير بعض القلق لدى البعض، فإنه ضروري لإعادة الحياة إلى سوق الإيجارات، وتحفيز الاستثمار، وضمان أن العلاقة التعاقدية تقوم على أسس عادلة وواضحة.