تحديات التحولات الإجرامية

بقلم د. أشرف نجيب الدريني

في ضوء واقعة التحويل الإلكتروني الخاطئ التي تلقى فيها أحد الأشخاص مبلغًا ماليًا في حسابه دون وجه حق، ثم امتنع عن رده رغم علمه بخطأ التحويل، تتجلى أمامنا صورة جديدة من صور الجريمة التي تكشف عن ملامح التحول العميق في السلوك الإجرامي داخل العالم الرقمي. فهذه الواقعة، في حقيقتها، ليست مجرد خطأ مصرفي أو تقصير فردي، بل مؤشر مبكر على تغير في طبيعة الجريمة ذاتها، حيث أصبح الامتناع عن الفعل، في بيئة إلكترونية، يحمل ذات دلالة الفعل المادي في العالم الواقعي.

وفي ضوء ما تقدم، أرى أن هذه الواقعة لن تكون الأخيرة من نوعها، بل هي مجرد بداية لسلسلة من الوقائع التي ستكشف عن ثغرات قانونية متزايدة في عالم الجريمة الإلكترونية. فكلما اتسعت رقعة التعاملات الرقمية وتداخلت الأنظمة المصرفية والاقتصادية في فضاءات افتراضية، ظهرت صور جديدة من الجرائم التي لا تجد لنفسها موضعًا صريحًا في النصوص التقليدية. نحن أمام مرحلة انتقالية دقيقة، لم تعد فيها الجريمة حكرًا على الفعل المادي في العالم الواقعي، بل أصبحت تتجسد في العالم الافتراضي بخطوات غير مرئية، ومع ذلك لا تقل أثرًا أو خطرًا.

إن ما حدث في هذه الواقعة ليس إلا إشارة مبكرة على أن القانون بصورته الحالية قد يواجه مستقبلاً تحديات أعقد، سواء في نطاق الجريمة الإلكترونية أو عند التطرق إلى ما يمكن تسميته بالجريمة الخوارزمية؛ أي تلك الأفعال التي ترتكب داخل بيئات ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي والأنظمة الآلية في اتخاذ القرار. ففي الوقت الذي تتطور فيه التكنولوجيا بسرعة مذهلة، ما زال القانون يسير بخطوات محسوبة، متأنية، تخشى أن تسبقها النصوص فتقيد التطور، أو تتأخر عنها فتترك فراغًا يتسلل منه الخطر.

فالفقه الجنائي اليوم مدعوٌّ إلى أن يتعامل بمرونة فكرية وشجاعة علمية مع هذا التحول، وأن يتقبل انتقال الجريمة من العالم التقليدي إلى العالم الافتراضي دون أن يفقد جوهر العدالة. فالتحول الرقمي لم يلغِ القيم، بل أعاد تشكيلها في بيئة جديدة تستوجب أدوات فهم مختلفة. وما “السرقة الإلكترونية السلبية” إلا مثالٌ على ذلك التحول العميق، الذي يفرض على الفكر القانوني أن يُعيد صياغة مفاهيمه الكلاسيكية بما يتناسب مع واقعٍ باتت فيه النية تُترجم بضغط زر، والامتناع يُعبَّر عنه بصمتٍ إلكترونيٍّ عميق.

بهذا المعنى، لا تمثل هذه الواقعة نهاية لجدلٍ فقهي، بل بداية لعصرٍ جديد من التفكير القانوني، يُمتحن فيه مدى قدرة النصوص على استيعاب العالم الرقمي المتغير، ومدى قدرة الفقه على أن يظل حيًا، نابضًا، ومواكبًا للزمن الذي يصنع الجريمة قبل أن يكتب عنها القانون.

إن القانون- في نهاية المطاف- ليس جدارًا من المواد، بل كائنٌ حيٌّ يستمد وجوده من ضمير القاضي، ومن وعي الفقيه، ومن نبض المجتمع الذي يحتمي بعدالته. فإذا كان العالم الرقمي قد أبدع في ابتكار وسائل الجريمة، فإن على الفقه أن يُبدع في ابتكار سُبل العدالة. تلك هي الرسالة الحقيقية التي تفرضها هذه الواقعة: أن القانون لا يموت ما دام فينا من يقرأه بعين العقل، ويشعره بقلب الإنسان. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى