تاريخ الميلاد أرض الجليل

 

نشر بجريدة الشروق الخميس 23 / 7 / 2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

 

ولد السيد المسيح عليه السلام بأرض الجليل -أو جليل الأمم- كما يسميها الإسرائيليون.

ومعنى الجليل «الدائرة» بالعبرية.

وكانت الجليل جزءًا من أقاليم الشاطئ الشمالية التي عرفت باسم «كنعان» في التاريخ القديم، ثم أطلق عليها اسم «فينيقية» من اللون الأحمر على ما يظهر، وهو لون الصخور والجبال.

وقد امتازت كنعان قديمًا بالموانئ الصالحة، وبوقوعها على طريق التجارة من البحر الأبيض إلى خليج فارس، وقد دخل بعض بلاد الجليل -أو كنعان- في مملكة داود بعد إنشائها، ولكن العلاقة بين الجليل ويهودا ظلت على الدوام علاقة حذر وجفاء إن لم تكن حربًا وجفاءً.. وقد أخذ اليهود عن الكنعانيين معالم حضارتهم، وتكرر في العهد القديم أكثر من مرة ذكر الاستعانة بالصناع والخبراء من أهل كنعان كالإصحاح السابع في سفر الملوك الأول، والإصحاح السابع والعشرين من سفر حزقيال.

* * *

ولما تكاثر عدد اليهود المقيمين بالأجزاء الشمالية من فلسطين كالجليل والسامرة، تغيرت عاداتهم ومأثوراتهم، ونظر إليهم أبناء «يهودا» نظرتهم إلى الخوارج، والواقع أن أهل الجليل خاصة اعتادوا الكلام بالآرامية، وهي لغة سوريا الداخلية، أو اليونانية، وهي لغة القادمين من البحر أو من آسيا الصغرى.

وبلغ من بغض أهل «يهودا» لأبناء ملتهم في الشمال، أن «حناهير كانوس» المكابى أغار على الأقاليم الشمالية في كل من السامرة وبلاد الجليل.

ومما اتفقت عليه أقوال المؤرخين وتردد كثيرًا -فيما يورد العقاد- أن جمهرة كبيرة من أهل الجليل كانوا عربًا يتكلمون الآرامية ويتميز نطقهم للعبرية بلهجة أجنبية يلحظها أهل الجنوب ويميزون المتكلم بها من كلمات قليلة، وكان من الأمثال السائرة على ألسنة اليهود المتعصبين: «أنه لا خير يأتي من الجليل» (الإصحاح الأول والإصحاح السابع إنجيل يوحنا).

وقد اتفق بعد مولد المسيح ببضع سنوات، أن الجليل خرجت -فيما يقول العقاد- من سلطان ملك «يهودا»، ودخلت هي والبادية المجاورة في نصيب «انتيباس» ابن هيرود، وربما كان المسيح عليه السلام في العاشرة من عمره حينما هدم الرومان عاصمة الأمير الجديد، وبنيت العاصمة الجديدة طبرية على مقربة من «الناصرة» حيث نشأ عليه السلام.

متى ولد المسيح

يفهم من رقم التقويم الميلادي أن السيد المسيح ولد في السنة الأولى للميلاد، وعلى هذا الحساب يجرى العمل بين الأمم الأوروبية منذ سنة 532 للميلاد، وهي السنة التي دعا فيها الراهب «دينوسيس الصغير Exigus» إلى تاريخ الأيام من السنة الأولى للميلاد وصحح الحساب على تقديره.

إلاَّ أنه لم يسلم من الخطأ في حساب بضع سنوات، ثم تعذر إصلاح هذا الخطأ عند ثبوته، فتقرر استدراكه بإضافة أربع سنوات إلى التقويم القديم الذي يحسبه أصحابه منذ بدء الخليقة، واعتبروا أن السيد المسيح ولد في سنة أربعة آلاف وأربع (4004) بحساب ذلك التقويم.

أما القول الراجح في تقدير المؤرخين، فهو أن ميلاد السيد المسيح متقدم على السنة الأولى ببضع سنوات، وأنه على أصح التقديرات لم يولد في السنة الأولى للتقويم الميلادي.

ففي إنجيل متى أنه عليه السلام قد ولد قبل موت «هيرود» الكبير قبل السنة الأولى للتقويم الميلادي بأربع سنوات.

وفي إنجيل لوقا أنه عليه السلام قام بالدعوة في السنة الخامسة عشرة من حكم القيصر طيبريوس وهو يومئذ يناهز الثلاثين، وقياسًا على تاريخ حكم طيبريوس فإن السيد المسيح يكون قد بلغ الثلاثين نحو سنة 779 رومانية، وأنه ولد سنة 749 رومانية، أي قبل السنة الأولى للتقويم الميلادي بأربع سنوات.

ووفقًا لتقويم الفلكي الكبير «كبلر Kepler» أن السيد المسيح ولد نحو السنة الخامسة أو السادسة قبل التقويم الميلادي.

على أن الدراسات الأخيرة في علم مقابلة الأديان التي اتسمت بالشك حتى في وجود بوذا وإبراهيم وموسى وعيسى ـ جعلت مهمة المؤرخ أعوص وأدق في تحديد سنة ميلاد السيد المسيح، ثم جاء القرن التاسع عشر وقد طغت على ميدان الدراسات الدينية موجات من كتب الألمان والدنماركيين والفرنسيين والإنجليز التي فندت أقوال المؤرخين وزعمت أن شخصية السيد المسيح من شخصيات الخيال.

ويكتفى الأستاذ العقاد باجتزاء أهم أساسين مما قامت عليه مدرسة الشك: أحدهما أنه عليه السلام لم يُذكر في التواريخ القديمة التي فصلت أخبار عصره، والآخر أن روايات التلاميذ عنه قد سبقت روايتها من شخصيات أخرى من شخصيات الزمن القديم وبعضها أقرب إلى الأساطير والفروض.

أما المؤرخون الذين خصوهم بالذكر فهم «يوسيفوس» و«تاسيتس» و«سوتينوس».. وكلهم ممن أرخوا عصر الميلاد ولم يثبتوا وجود السيد المسيح بما كتبوه عن أيامه.

ويدخل الأستاذ العقاد في مناقشة عميقة لهذه الآراء، ويستعرض حججًا أخرى لمؤرخين آخرين، ويناقش الحجج المتشابهة، ومقابلات ومقارنات علماء المقابلة بين الأديان، ليخلص إلى العلامات «الموضوعية» التي لها الشأن الأكبر في الإبانة عن شخصية السيد المسيح، وأصدق تلك العلامات هي التي جاءت في إبانها وفقًا لمطالب زمانها، ومؤكدة أن الغريب أن يخلو هذا الزمن من رسول يقوم بالدعوة ويصلح لأمانتها، وذلك هو السيد المسيح عليه السلام.

صورة وصفية

للسيد المسيح عليه السلام

«استهل الأستاذ العقاد هذا الفصل بإيراد الصورة الوصفية للسيد المسيح عليه السلام، التي تداولها المسيحيون في القرن الرابع الميلادي، وزعم رواتها أنها كتبت بقلم «بيليوس لنتيولس» صديق «بيلاطس» حاكم الجليل من قبل الدولة الرومانية، كان قد رفعها إلى مجلس الشيوخ الروماني في عصر الميلاد، وجاء فيها «إنه في هذا الزمن ظهر رجل له قوى خارقة يسمى يسوع ويدعوه تلاميذه بابن الله وكان للرجل سمت نبيل وقوام بين الاعتدال، يفيض وجهه بالحنان والهيبة معًا، فيحبه من يراه ويخشاه.. شعره كلون الخمر منسرح غير مصقول، ولكنه في جانب الأذن أجعد لماع، وجبينه صلت ناعم، وليس في وجهه شية، غير أنه مشرب بنضرة متوردة، وسيماه كلها صدق ورحمة، وليس في فمه ولا أنفه ما يعاب، وعيناه زرقاوان تلمعان.. مخيف إذا لام أو أنب، وديع محبب إذا دعا وعلم، لم يره أحد يضحك، ورآه الكثيرون يبكي، وهو طويل له يدان جميلتان مستقيمتان، وكلامه متزن رصين لا يميل إلى الإطناب، وملاحته في مرآه تفوق المعهود في أكثر الرجال».

ويرى الأستاذ العقاد أن هذه الرواية مشكوك فيها وفى إسنادها ومثلها جميع الروايات التي تداولها الناس في ذلك العصر أو بعده، ومنها ما لا يعقل بل ومظنون أنه مدسوس من أعداء المسيحية في تلك العصور الأولى، كقول بعضهم إنه كان قميئًا أحدب دميم الصورة، وهو ما يتناقض مع الشريعة الموسوية التي كانت تشترط سلامة الخَلْق وسلامة الجسم من العيوب، ولا ترسم لخدمة الدين من يعيبه نقض أو تشويه.

* * *

هذا ومن المعلوم أنه لا يوجد في الأناجيل إشارة إلى سمات السيد المسيح تصريحًا أو تلميحًا، ولكن يؤخذ من كلام «نثنائيل» حين رآه لأول مرة أنه «رائع المنظر ملكي الشارة»، إذْ قال له: «أنت ابن الله . أنت ملك إسرائيل»، وهي تحية لأفعال القميء الدميم الأحدب !

والذي لا شك فيه أنه عليه السلام كان فصيح اللسان سريع الخاطر، يجمع إلى جوار قوة العارضة سرعة البديهة وسرعة الاستشهاد بالحجج الكتابية التي يستند إليها فيما يعرض له من حديث الساعة، فضلاً عن قدرته الظاهرة على وزن العبارة المرتجلة، وصياغة وصاياه.

وينوه الأستاذ العقاد إلى أن ذوق الجمال كان باديًا في شعوره كما هو بادٍ في تعبيره وتفكيره، والتفاته الدائم إلى الأزهار والكروم والحدائق التي يكثر من التشبيه بها.

وقد وصف عليه السلام نفسه بأنه «وديع متواضع القلب»، وقال إن الوداعة مفتاح السماء، فلا يدخلها إلاَّ الودعاء.

وكان عليه السلام يأمر أتباعه أن يقدموا على المخاطر في سبيل الحق والهداية، ولكن كان يقيم لهم حدود المخاطرة حيث يجب الإقدام على الموت وجوبًا لا مثنوية فيه.. فالخطر على الروح أولى بالاتقاء من الخطر على الجسد، ويهون موت الجسد إذا كان موت الروح في الحسبان.. فإن لم يكن خطر على الجسد ولا على الروح فلا خير في المخاطرة… «كونوا بسطاء كالحمائم وحكماء كالحيات».

زر الذهاب إلى الأعلى