تاريخ البذاءة أم تاريخ من البذاءة
التنمر بين ضعف المصطلح وقسوة الواقع النفسي
تاريخ البذاءة أم تاريخ من البذاءة
المقال الثاني: التنمر بين ضعف المصطلح وقسوة الواقع النفسي
بقلم: الأستاذ/ محمود سلامة
المصطلح، وآه من المصطلح. هو البوابة للدخول المباشر في المضمون أو الخروج منه لتمويع حقيقته والعبث في أسس القضية التي يقف على حافتها.
هناك من يصنع المصطلح، قاصدًا تأثيرًا معينًا في فئات محددة بعموم أو بخصوص. تستطيع أن تعرف الآن أن المصطلح هو في حقيقته دلالة ورسالة.
فمن حيث هو دلالة، فقد يدل على قصدٍ واضحٍ لا مداراة فيه مشكلًا حالة من الوعي الاستباقي للمتعاطي معه، فالكيمياء كمصطلح دلالة على علم العناصر والمواد والتراكيب والتفاعلات. وقد يحمل دلالات أخرى مشتقة من طبيعته، فيكون تعبيرًا عن شيء آخر غير ما يدل عليه كعلم. فنقول إن كيمياء فلان لا تتفق مع كيمياء علان، مصورين ببلاغة الروابط بين الناس كالروابط بين العناصر والمواد، فمنها ما ينسجم ومنها ما يؤدي لكوارث. وربما كان استخدام مصطلح الكيمياء وليد المادية، والتي هي عكس الروحانية، فتجد رسول الله محمد بن عبد الله في حديث له يقول “الأرواح كالجنود المجندة، ما تقابل منها ائتلف وما تنافر منها اختلف”
فقد تناول ذات الموضوع من زاويته الصحيحة أو من حقيقته، بما يدلل على انفصال المصطلح المادي عن الحقيقة.
ومن حيث أنه رسالة، فيعنى به إيضاح الهدف من وراءه، أي ما قصده مبتدعه، تماما كمصطلح التنمر، وهو من التصرفات البذيئة التي لم تكن وليدة اليوم، ولكن هل مصطلح التنمر كافيًا؟ بل هو المصطلح الصحيح؟ ومن أين جاء؟
فقد تعددت التعريفات الخاصة بالتنمر، فتجد تعريفا له على موقع منظمة (يونيسيف) نصه “التنمر هو أحد أشكال العنف الذي يمارسه طفل أو مجموعة من الأطفال ضد طفل أخر أو إزعاجه بطريقة متعمدة ومتكررة. وقد يأخذ التنمر أشكالًا متعددة كنشر الإشاعات، أو التهديد، أو مهاجمة الطفل المُتنمَّر عليه بدنيًا أو لفظيًا، أو عزل طفلٍ ما بقصد الإيذاء أو حركات وأفعال أخرى تحدث بشكل غير ملحوظ”.
بينما عرّف الباحث النرويجي دان أولويس التنمر بأنه “تعرض شخص بشكل متكرر وعلى مدار الوقت إلى الأفعال السلبية من جانب واحد أو أكثر من الأشخاص الآخرين.” وعرف العمل السلبي على النحو التالي ‘”عندما يتعمد شخص إصابة أو إزعاج راحة شخص آخر، من خلال الاتصال الجسدي، أو من خلال الكلمات أو بطرق أخرى”.
وهكذا ينصب التنمر على الإيذاء الجسدي والنفسي بكل صوره رغبة في مضايقة الغير والتأثير على نفسه بالسلب لتحقيق رغبة في الإيذاء لها مبررات نفسية لدى المتعدي.
والسؤال الذي يطرح نفسه في محاولة فهم الارتباط بين المصطلح والمضمون، المعنى اللغوي للتنمر؟ ولماذا لفظ التنمر تحديدًا؟
إن مصطلح التنمر في حقيقته ليس إلا صورةً مما أطلقه الغرب على هذا النوع من الإيذاء، ولكن من عجبٍ أن نجد أن ما أطلقه الغرب على هذا الإيذاء المتنوع هو لفظ BULLY وهو ما يعني (البلطجي) ولا علاقة له بالجذر اللغوي للمصطلح العربي (التنمر).
أما عن اللفظ العربي (التنمر) فهو بالطبع له معنى مرتبطٌ بالإيذاء راجعٌ للجذر اللغوي (نَمِرَ)، فستجده في معجم اللغة العربية المعاصر هكذا، نمِر؛ غضِب وساء خلقُه، وصار كالنَّمِر الغاضب. وستجده في المعجم الغني هكذا، تَشَبَّهَ بِالنَّمِرِ وَحَاوَلَ أنْ يُقَلِّدَ شَرَاسَتَهُ.
ولن يختلف ما تقدم عما قدمته باقي المعاجم المعاصرة وأمهاتها.
إلا أنه من الملاحظ ربط الإيذاء النفسي والبدني المتعلق برغبة الإيذاء ذاتها للمؤذي متعلقة بصفات النمر، وهو حيوان متوحشٌ كسائر الحيوانات، إلا أن النمر شانه شأن السنوريات لا يهاجم إلا المعتدي على نطاقه الجغرافي، أو عند جوعه صائدًا فريسته، لكنه لا يقوم بالهجوم للقتل المجرد أو الجرح المجرد رغبة منه في الإيذاء.
فهناك من المصطلحات اللغوية مصطلح كالاستئساد، فنقول استأسد فلانٌ على فلانٍ لضعفه، ونقول استذئب، ومن ذلك الكثير، لكن لفظة التنمر في حد ذاتها على المستوى اللغوي والسلوكي لا تعبر بارتباطها بالنمر عن الحقيقة، إذ أن شأن النمر في الإيذاء شان كل المفترسات، لا يختلف عنها.
فالمصطلح بناء على ذلك لا يلبي احتياجات المعنى، وبخاصة في وجود مصطلحات أخرى مترسخة في الوجدان الإنساني، كالظلم والافتراء، والاعتذاء، والانتهاك، والإيذاء والضرب والجرح والسب والقذف، فقد أتى مصطلح التنمر ليموع كل ذلك ويجعل كل أشكال الإيذاء تحت راية تذوبُ تحتها كل المعاني.
ونحن نرى أن الأمر لا يكاد يعدو كونه استئناسًا للمظلومين، وتشتيتًا للمعاني السيئة التي تقع عليهم جراء أفعال المعتدين خدمة لسياسة عقابية ما، وتلبية لاحتياجات سياسية تتكشف يومًا بعد يومٍ لضبط الإيقاع العقابي بالتشديد فيما لا يلزم والتمويع فيما يلزم فيه الوضوح لاتساعه وفضفاضيته على نحوٍ تهويمي لا يتناسب مع حجم الجرائم التي يرتكبها أفراد المجتمع، بحيث تشير إلى مرضٍ اجتماعي قد يضع المعتدي في بوتقة الشفقة الاجتماعية بحسب اتجاه سلطة الاتهام في الدولة. فما الفرق بين جريمتي السب والقذف وجريمة التنمر اللفظي في أنماطهم الفعلية من نمط المواجهة والنمط الإلكتروني، ومن النمط المباشر والنمط غير المباشر؟ وما الفرق بين جريمة الضرب والجرح وجريمة التنمر البدني في حين أنهما يمثلان اعتداءً على السلامة الجسدية والنفسية للمعتدى عليه ويحدثان نفس النتيجة والأثر؟
لا مانع حسب اعتقادنا من التفرقة بين أنماط الجريمة بحسب الدوافع الإجرامية وتباين شكل القصد الجنائي بينها، والذي يكفي لتحققه وقوع الفعل عن عمدٍ مع العلم بتجريمه. ولكن طالما اتخذنا سبيلًا للتفرقة الفقهية باستظهار مصطلحات جديدة تعالج الجانب النفسي العدواني للمعتدي، فلابد من أمرين، أولهما بيانًا قانونيًا تشريعيًا من الجهات المختصة بالتجريم والتشريع على إطلاقه يحمل توضيح الفرق بين الأنماط الإجرامية المتطابقة. وثانيهما هو اختيار مصطلح متناسبٍ لغويًا يخرج من رحمِ هذا التباين إن وجد.
وطالما كان هناك مصطلحات تلبي هذا الغرض موجودة بالفعل على المستوى اللغوي والتشريعي على نحو متساندٍ، فلا أظن بأننا بحاجة لهذا المصطلح طالما أن النتيجة الإجرامية واحدة على المستويين المادي والمعنوي، ولا حاجة لنا للتفرقة بالأساس بين الجرائم على أساس من تباين ظروفها النفسية للمعتدي. وان المصطلح الواضح الراسخ هو في حقيقته الأنسب من المصطلح الجديد وبخاصة إذا لم ينتج جديدًا يفيد التجريم على نحو من ظروفٍ خاصةٍ تتضمنها بالفعل المادة التجريمية والعقابية للفعل المجرم.
وفي النهاية نقول، إن المصطلح لهو أمر جد خطير، بما يفصح من معاني، وبما يحمله من رسائل، وأن المصطلحات هي بالأساس لعبة سياسية اجتماعية يجب أن نعي لها حتى نعلم الغرض منها في الحقيقة بما يرسخ الوعي القانوني بها وبما تنطوي عليه من معانٍ، وهذا من أبسط حقوق المجتمع وأفراده، دون أن تفرض علينا مصطلحات مائعة لا معنى ظاهر لها وإنما معانٍ ينشدها من لا نعلم من أهل السلطة والحكم من أصحاب الأدوات التشريعية، أو من جهاتٍ أخرى عالمية تفرض علينا مبادئها من خلال المعاهدات والاتفاقات الدولية بحجة توحيد مبادئ القانون العالمي.
وإلى لقاء في مقال آخر.