بُنْيانُ وأرْكانُ الخِطابِ القانونيِّ الفَعَّال
د.محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
للوقوف على بنيان وأركان الخطاب القانوني الفعَّال (اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا) ينبغي أن نُعرِّجَ على ما سبق من كتابات فيه وعنه ، وهي في المجمل العام كتاباتٌ قليلة لا ترقى لأن توفِّـيَ بأهمية هذا الخطاب القانوني الجامع ذي الأثر الكبير والناتج الخطير على النظام المجتمعي، بل وعلى النظامين الاقتصادي والسياسي جميعا …. سواء كان أثره صُلاحا وإصْلاحا…. أمنا وأمانا ….سكينة واستقرارا … وهذا هو المأمول وهو أحد أهم أهداف الخطاب القانوني المجمع عليها والمأمول تحقيقها…!!!!
ولتحقيق هذا المبتغى ولاستحقاق هذا المأمول …فإنه كما رصدنا واستقرأنا واستبحرنا لا يتأتى هذا المأمول ولا يُنالُ ألبتة …. إلا حال كان الخطابُ القانوني خطابا وافيا بنيانه…. مستوفيا أركانه ….شاملا لعناصره ….جامعا لشرائطه ، فحينئذ ( ثم حينئذ فقط …!!!! ) يكون خطابا قانونيا مأمولا …نافذا لأثره …منتجا لثمره … مُحقِّقا لمبتغاه …ساميا إلى ما نتوخاه من الغايات والأهداف ….!!!!
وإن كان غير ذلك بأن كان مفرقا أكثر منه مجمعا … دافعا المخاطبين به والملزمين برسائله إلى أن يحوروا ويدوروا …وإلى أن يتلمظوا ويثوروا …وإلى أن يتجارءوا على المجاهرة برفضه والانتقاص من قدره … وبأن يتدافعوا للخروج عليه ….مروقا وانسلاخا عن النظام القانوني، بل وعن النظام المجتمعي فضلا عن النظام السياسي … !!!!!!!!!!
نسأل الله سلامة الأوطان وحفظ البلدان ونمو العمران والأمن والسكينة لمصر وأشقائها ولسائر البلدان والأوطان……….اللهم آمين يا رب العالمين …
فهنا يجب البحث والتنقيب عن ذلك الخطاب القانوني الذي تقاصر أو قصَّر …. وتغافل أو استغفل ….وتباطأ أو اسبطأ عن استيفاء أركانه …واستكمال بنيانه ….واستمام عناصره …. واستجماع شرائطه ….!!!!!!
فهو حينئذ يدعى بالخَطبِ لا بالخِطاب … وهو عندئذ يلقب بالخطاب المنقوص…!!! أو الشائه…!!! أو المنبت…!!! أو المنكوب …!!!أو المعاند …!!!أو خطاب اللا معنى بلا معنى . …!!! أو بالخطاب الساقط …!!!
أو غير ذلك من الألقاب المعيبة والصفات المشينة ، وما هي إلا ناتج لنقصان بنيان وعناصر وأركان وشرائط ذلك الخطاب ….!!!!!
وهذا من دواعي كتابتنا لهذا المقال ولما يليه من مقالات عن بنيان وأركان الخطاب القانوني الحقيق الصحيح وذلك الخطاب المنقوص الشائه …!!!!!!!
وبدأً على سبقٍ نعرِّج على ما سلف من مفادات مهمة … واستفادات مُلهِمة …يتوجَّبُ علينا استصحابها للبناء عليها لمساعدتنا في تعرف بنيان الخطاب القانوني وتصور أركانه وتعرف عناصره وسائر متعلقاته من كافة زواياه الممكنة، ذلك على النحو التالي :
المنظور الأول : بنيان الخطاب القانوني وأركانه بالنظر إلى لغات القانون الأربعة أو الخمسة
(مضافا إليها ذلك الخطاب القانوني بلغته وسماته وخصائصه…) وهو ما يلزم منه التعرض إلى لغات القانون ….تصويرا وتصورا … تمهيدا لاستجلاء بنيان الخطاب القانوني بالنظر إليها وبالمقارنة معها…
لغات القانون الخمسة
يخطئ من يظنُّ أن لغة القانون هي لون واحد ، فهذا غير صحيح بالمرة ، بينما يصيب من يذهب إلى أن لغة القانون هي نسيج واحد ، وشتان ما بين النسيج وهو ما نشير به هنا إلى المضمون والجوهر والمكون الرئيس للغة القانون في بنيانيها وفي حبكتها وفي تعبيرها عن اللغة الرفيعة الجليلة ذات السمات البنائية والخصائص التركيبية .
وقد خلصنا في هذا إلى أن لغات القانون إنما هي خمس لغات، وهي وإن كان أصل نسيجها البنائي وأساسها التركيبي وجوهرها الموضوعي واحد ، خذا أولا ، كما أنها ذات علاقة وثيقة وارتباط مباشر بتحقيق واقع الأمنين المجتمعي والقومي وبالازدهار الاقتصادي وبالاستقرار المجتمعي والسياسي ثانيا …..
ثم إن لغات القانون أجمع تجابه الخطاب الإرهابي وتضاده وتنابذه على نحو ما سبق ثالثا…..وهذا هو معنى أن عنوان سلسلة المقالات كان ابتداء عن لغة القانون العامة والأمن المجتمعي والازدهار الاقتصادي ” .
فعلى رغم ما سبق من ترابط وارتباط في الجوهر الهدف والغاية والأثر إلا أن ثم حقيقة لا تقبل النقض ، ومفاد لا يرد عليه رفض …وهو أن ألوان هذه اللغات متعددة متنوعة ، وأن لون كل لغة فيها يتفاعل مع نسيجه ليخرج لنا لغة متميزة إلى حد كبير في موضوعها وفي أهدافها ، ومن ثم فمجموع لغات القانون تتمايز في استخدامها ، وتتنوع في أساليبها …وقد تتباين في سياقاتها… وتتباعد في مستهدفها وجمهورها ….!!!!
وهذا من الأهمية بمكان أن نعرفه وأن نقف عليه ، إذ بناء على تلك الأطروحة سوف يتسنى لنا الوقوف على تلك الخماسية القانونية والتعرف على مضامينها والكشف عن عناصرها ، ونحن نراها مستويات خمسة متتاليات وألوان لغوية متتابعات … منطقيا وموضوعيا فلكل مستوى لغته ، وكل مستوى يرد إلى لاحقه ويرتد إلى سابقه على الآتي :
اللغة الأولى: لغة النص القانوني” لغة نص القانون”
وقوامها ” النص القانوني ذاته ” سواء دستورا أو قانونا أساسيا أو تشريعا عاديا أو لائحة أو قرارا عاما أو مفردا …. وهو نص صارم في لغته ، متميز في أسلوبه ، متكامل في بنيانه ، ذو خصائص وسمات في مفرداته وفي تراكيبه وفي روابطه بداية من وحداته الصغرى إلى وحداته الكبرى انتهاء بروابط تلك الوحدات ….
وهو ما يعبر عن الرَّفاعة أو الرِّفْعَة اللغوية ، أو إن شئت فقل الاستعلاء الخطابي ، حيث إنها لغة تقرير على سبيل الجزم ، ولغة طلب على سبيل اللزوم ، ولغة أمر على سبيل السمع والطاعة ، ولغة حسم تعتمد الدلالات المباشرة ، ولغة الاقتضاء العام فغالب ما يخرج عنها لازم واجب بدلالتيه التضمنية واللزومية ، ثم إنها لغة الوصل إذ إنها تتكامل مبانيها وإن اختلف تعداد نصوص قوانينها .
كما أنها تتميز بالتفصيل والاستدراك والتعيين والتحديد مع محافظتها على عمومها وتجردها …. إلى عير ذلك من سمات وخصائص .
اللغة الثانية: لغة فقه القانون
وهي لغة تتعلق بالنص القانوني السابق أيا كان ذلك النص من حيث مدلولاته ودلالاته ومقاصده ومراماته المباشرة والضمنية واللزومية … وهي مَعنيّة بشرح ذلك النص وتفسيره وتأويله وتوجيهه والتعليق عليه واستخراج مؤداه والوقوف على مغزاه وسائر متعلقات ذلك ….
ومن ثم فهي لغة مرنة تعتمد على التقريب والتمثيل والتوضيح والجمع ما بين الإنشاء والتقرير وما بين دقة الربط وقوة الإقناع وشمول التأصيل والإحاطة ….
وبما أنها لغة شارحة فهي تمتاز بالافتراضات والتشبيهات والإسقاطات على الواقع تكيِيفا وتكَيُّفا تفريزا تجنيبا زمانا ومكانا ظرفا وسياقا… ثم إنها لغة متلونة ضمن لونها الأساسي ، فهي لغة ماتنة ( من المتن أي صلب النص المشروح ) أحيانا ولغة مفسرة شارحة في أحيان أخرى .
وقد تكون فضفاضة منبسطة في تفصيلاتها ، وقد تأتي مكثفة مركزة حال إجمالها … وهي وإن كانت مقيدة خاضعة في جملتها للنص تدور في فلكه وتسبح في مداره ولا تخرج عن جاذبيته إلا أن لها من التحرر في ذلك الإطار الشيء الكثير والكثير ….!!!
اللغة الثالثة: لغة الحكم
وهي تلك اللغة الحاسمة ، لغة الفصل والقضاء ، وهي الموقِّعةُ عن العدالة ، وهي لسانُها الناطق ، وهي لغة في جملتها تُعنى بمطابقة النص لوقائعه وإسقاطه على مُتعلقه والوقوف على نماذجه حيث إثبات التأثيم والتجريم ( النموذج القانوني للجريمة) أو رفع ذلك التجريم ورد الفرع إلى أصله في الإباحة والبراءة ؛ لأنها قرينة أصلية لا تثبت بشك ولا تقوم بريبة ولا تَحِيقُ بمظنَّة ، إلا أنْ يقطع ذلك علمٌ قائمٌ ودليلٌ ثابتٌ يتبينُ للقاضي بيانا لا يقبل الرِّيبةَ ولا يظاهره شكٌ …. ولغة الحكم هي عنوان الحقيقة ما استوفت شروطها واستتمت أركانها .
وهي لغة رسمية ، ذات طرز واحد ونسق متماثل ، امتدادها من نص القوانين ابتداء ومن إسقاطاته وتكييفاته انتهاء وبين هذا وذاك هي لغة قوامها قراءة القضاة -بخاصة- لمداولات ومناضلات الخصوم والشهود من متداعين ومتخاصمين ووكلاء ونيابة وخبراء وشهداء ….
فهي لغة متعددة المصادر متكاثرة الموارد متنوعة الروافد ….ومن هنا يأتي سموُّها وعِظَمُ تأثيرها في المجتمع بجميع طوائفه وفي القطر أجمع ، واختلالها يعني اختلال العدالة ….وضعفها يعني سقوط النظام القانوني أجمع …. ومن ثم كانت لغة الحسم والقول الفصل .
اللغة الرابعة : لغة الدَّفع والدِّفاع
وهي لغة الدفاع الحقوق وحمايتها ولغة الدفع عن مبادئ العدالة والزود عن جناب الحق ومراكزه ومتعلقاته ….. وهي لغة يُعنى بها على نحو أكثر السادة المحامون شركاء السلطة القضائية بنص الدستور .
وهي لغة قانونية تتسم بالمرونة وتمتاز بالليونة والتوسع ، وكأنما الأصل فيها الاتساع والاستبحار باحثة عن كل بيان كاشف وبيان واقف وحجة ظاهرة قاهرة مباشرة وغير مباشرة …. لكشف الحقائق ورصد الظواهر واستجماع القرائن واستقراء الدلائل لبيان الحق وكشفه وتجلية جنابه ووجه ….!!!
ومن ثم سمي أصحابها بالمحامين أي المدافعون والحامون للحق والحرية والعدل …. فهم حامون مدافعون صائلون جائلون متبحرون في كل واد وناد ….وصقع وشسع ….ودرب عامر أو منبت ….. لاستجلاء الحق ورصده وبيان وجوهه وكشفه ، فينقذون به من احتمى بهم … ومن استحماهم …..ومن دفع بهم ومن استدفعهم….فهم غوث الملهوف ، وهم ملاذ كل ذي حق ضائع …. وكل ذي استحقاق مضاع …!!!!
ولغتهم المتسعة تلك تدور بين القانون نصا وشرحا وبين لغة الحكم منطوقا ومفهوما وبين لغات الخصوم والموكلين …..أولئك الذين استحموا بهم واستدفعوا بجهودهم ….
ومن ثم فإن لغتهم تجمع ما بين لغة الحسم في دقتها …. وما بين لغة النص في صرامتها …. وما بين لغة التمثيل والتشبيه والتفريع ….وما بين لغات العلوم والفنون والصناعات ….ولغات الفئات والطبقات….. ولغات المجتمعات والإثنيات ….ولغات شتات الأعراق والمذاهب والمجامع والمحافل….. من كل ذي حضر ومدر …..وراعي بقر وجامع ثمر …… !!!!
وما ذلك إلا لتحقيق غاياتهم في
أ- التقرير للحقائق والسرد للوقائع و والجلب للأحاديث والحوادث….
ب- ثم التأثير وهي ما يلي التقرير وضعا ومنطقا ، فمن أحسن التقرير …فقد ظفر بنيل التأثير ….وهو ذلك التأثير المبتغى به القضاة والمسئولين ، فغاية المدافعين هي أن يُحدِثوا تأثيرا في تصوُّرات وفي مُدرَكات القضاة وسائر المسئولين عن الفصل في الحق والدفع عن الاستحقاق … والمراكز والحريات …. ، وصولا إلى منتهى غاياتهم وهو:
ج- التغيير حيث تغيير القناعات وتوجيه المسارات في صالح الدفع والدفاع بما يستهدفه المدافع وما يتوخى تحقيقه في قضيته وحماية موكله وقاصده والمستحمي به .
وبعد ما سبق يحق لنا أن نقف على حقيقة بنيان واركان الخطاب القانوني ، ولغته وهي لغة القانون الخامسة وهو ما سنأتي عليه في المقال القادم بإذن الله …فانتظرونا .