بين هرم الموسيقى محمد عبد الوهاب وهرم المحاماة والسياسة مكرم عبيد (1)

من تراب الطريق (1243)

نشر بجريدة المال الأربعاء 19/1/2022

ــ

بقلم: الأستاذ/  رجائى عطية نقيب المحامين

عشت فى الأيام الصعبة التى مرت بى أخيرًا ، أو بالأحرى هربت من مواجعى إلى موسيقار الأجيال ، الفنان العظيم محمد عبد الوهاب ـ تسألنى لماذا عبد الوهاب بالذات ، أقول لك ما من أحد من جيلنا إلاَّ وفى قلبه ركن يعيش فيه محمد عبد الوهاب ، فقد عشنا عمرنا معه ، واعاش بأغانيه فينا .. فى قلوبنا ، ووجداناتنا ، ولا أبالغ إذ قلت وفى عقولنا ..

كان أول ما وقعت عليه يدى للموسيقار الرائع ، سيرته الذاتية التى أملاها على الأستاذ لطفى رضوان ، ونشرتها دار الهلال فى كتاب الهلال رقم486 الصادر فى يونيو 1991 . اختارت دار الهلال هذا الموعد ، لأن قبله بشهر رحـل الأستـاذ محمـد عبد الوهاب عن دنيانا فى الثالث من مايو 1991 ؛ كان رحيله رغم طول العمر مفاجئًا ، لأنه كان بصحة جيدة ، رعاها بنظام صارم ، ولكن شاءت الأقدار أن يصطدم رأسه صدفة فى باب بسكنه ، فكانت بداية رحلة الوداع التى أضنت كل محبيه ، وهم كُثُر .

حين تقرأ عبد الوهاب ، سوف يشدك رشاقة أسلوبه وعباراته ، ورُقِى فكره وسلوكياته ، وعمق نظرته للحياة ، وفهمه العميق لطبائع الناس .. حلوها ومرها .. وسوف تلمس مما عليه عبد الوهاب ، أثر أمير الشعراء أحمد بك شوقى عليه ، وتدرك عمق هذا التأثير على شخص نشأ نشأة مستورة فى إحدى حوارى باب الشعرية ، وهرب أكثر من مرة من المنزل ، والدراسة النظامية ، ليشبع هوايته فى الموسيقى والغناء ، يتردد على الأفراح ، بل يتسلل إليها ليسمع كبار المطربين ، ويسعد بتقليدهم .. فى إحدى المرات شاهده أحمد بك شوقى ، فأفزعه صغر سنه ، وخاف عليه فى هذا السن الغض من الدخول المبكر فى هذا الخضم . فسعى بصلاته لإيقاف تردده على الأفراح والاحتفالات للانصراف لدراسته ، ونجح فى هذا حتى كرهه عبد الوهاب ، ولكن تشاء الأقدار أن يراه أحمد شوقى يغنى فى بيروت بعد سنوات قليلة ، فيناديه ويحييه ويتعهده بالرعاية منذ ذلك اليوم , حتى صار واحدًا من بنيه , وظلت هذه العلاقة الوطيدة التى فتحت له جميع الأبواب , وتحلى فى احتكاكه به بالعديد من المناقب , ولذلك لن يدهشك وفاء موسيقار الأجيال له ـــ فلا تكاد تمضى صفحة من السيرة الذاتية , إلاَّ ويذكر فضلًا من أفضال شوقى بك عليه . وحين ترى ذلك فى عبد الوهاب , تدرك لماذا تسلل إلى قلوبنا , وصار ركنًا هامًا فى قلب كل واحد منا مدى أعمارنا فى هذه الحياة .

لا أنوى طبعًا أن أسرد عليك سيرته الذاتية هنا , ولكن لفت نظرى الصداقات التى انعقدت بينه وبين كبار العصر من الساسة والزعماء والمسئولين والأدباء والعلماء والشعراء . والقائمة طويلة , مصطفى النحاس باشا , والأخوان عبد المجيد وعبد الحميد عبد الحق , وكلاهما باشا , ومحمود فهمى النقراشى باشا الذى قامت بينهم صداقة وطيدة , ومحجوب ثابت , والشيخ عبد العزيز البشرى , والدكتور حسين هيكل باشا , وتوفيق الحكيم , وفكرى أباظة , وسعيد لطفى , وأحمد باشا عبد الغفار وأحمد خشبة باشا وغيرهم .

ولكن أعجب الصداقات , الصداقة المتينة التى نمت بين عبد الوهاب هرم الموسيقى والغناء , وهرم المحاماة والسياسة مكرم عبيد باشا ..

لم يكن لعبد الوهاب علاقة بالسياسة والساسة , ولا كان وفديًّا أو فى أى حزب آخر , ولا يجد الوقف والجهد لخوض هذا المعترك , ولو من باب الفرجة , إلاَّ أن القدر يشاء أن يتعرف بمكرم عبيد عن طريق صديقه عبد الحميد باشا عبد الحق .

يقول عبد الوهاب فى سيرته الذاتية , إنه كسب فى مكرم عبيد صديقًا متميزًا يعتز الإنسان بصداقته , وانفتحت بينهما أبواب الصداقة من أول لحظة إلتقيا فيها . وتعددت لقاءاتهما , وإذ بعبد الوهاب يفاجأ بأن مكرم فنان بالفطرة , ودارس أيضًا للموسيقى , وأن طبيعة الفنان فيه مختفية وراء غلاف شفاف من خشونة السياسة .

روى لنا عبد الوهاب , أنه تعددت بينهما اللقاءات , وعرف فيه موسيقيًا موهوبًا , يتذوق الموسيقى ويفهمها بطبعه الأصيل , ويملك إلى ذلك صوتًا جميلًا , وكثيرًا ما أسمعه بعض الأغنيات من تأليفه وتلحينه , وأنه أسمعه منه أغنية من هذه الأغانى التى لحنها , مطلعها « زهرة البنفسج » , وعزف هرم المحاماة الزعيم السياسى , عزف اللحن على البيانو القيم الموجود بمنزله , وغنى بصوته العذب فأطرب عبد الوهاب هرم الموسيقى والغناء !

أدركت هنا سرَّا من أسرار نبوغ مكرم عبيد فى المحاماة وفى الخطابة , فقاعدتهما تكمن فى الموسيقى والطبقات الصوتية التى يتوسدها فن الإلقاء .

زر الذهاب إلى الأعلى