بين هرم الموسيقى محمد عبد الوهاب وهرم المحاماة والسياسة مكرم عبيد (2)

من تراب الطريق (1244)

نشر بجريدة المال الخميس 20/1/2022

ــ

بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين

يقول لنا عبد الوهاب فى سيرته الذاتية , إنه يعتقد أنه لولا طبيعة مكرم عبيد الموسيقية , لما نال شهرته المعروفة كخطيب سياسى مبرز , فهو من هذه الوجهة كالمطرب الشعبى , الذى يعرف كيف يختار الألحان التى تهز الجماهير , لأنه كخطيب , يعرف كيف يختار من الألفاظ والتعبيرات الثورية ما يهز أفئدة الجماهير قبل عقولهم .

وفهم مكرم عبيد للموسيقى كمن درسها , فهو يستطيع أن « يمسك الواحدة » كأى ضابط ايقاع مدرب .

ويذكر له عبد الوهاب بالفضل , أنه هو الذى لفت نظره إلى مرحلة من أهم مراحل التجديد فى الموسيقى والغناء الشرقى , ويعنى بها فرقة « الكورس » العصرية , وكان ذلك قبيل إخراج فيلم « لست ملاكًا » .. فأخذ بفكرته , وأدخل عنصر « الكورس » لأول مرة فى أغنية « القمح » .

ولقد كان « الكورس » فى الواقع معروفًا فى الأغانى المصرية , وإن كان معروفًا باسم أخر هو « البطانة » ومقصورًا على لون واحد هو ترديد المذهب .

ولكن الفكرة التى لفت مكرم نظره إليها , هى التى ألهمته أن يجعل من « الكورس » لونًا من ألوان « الهارمونى » .

وهكذا أصبح « الكورس » ــ بفضل صديقه مكرم ــ يعبر عن مرحلة جديدة فى حياة الغناء الشرقى !

لا تحسب أن عبد الوهاب توقف عند هذا الحد فى ذكر صديقه مكرم عبيد , فلا تكاد تمضى فى قراءة السيرة الذاتية لموسيقار الأجيال , إلاَّ وترى مكرم عبيد ماثلًا أمامك .

يروى عبد الوهاب أنه طالع يومًا قصيدة « الجندول » , منشورة فى إحدى الصحف لشاعر لم يكن يعرفه , هو بالطبع الشاعر الملاح على محمود طه . أعجبته القصيدة ووجد فيها عبد الوهاب ضالته لتحقيق فكرة راودته كثيرًا , بأن يغنى كلامًا طويلًا يُغنى عن تكرار الترديد للمقطع الواحد فى الأغانى القصيرة . قطع القصيدة من الجريدة , وذهب بها فى نفس الليلة إلى منزل صديقه مكرم , الذى صار يتردد عليه كثيرًا , ويمارس العزف فى حرية على البيانو النفيس الذى يمتلكه مكرم فى بيته الذى كانت زوجته : السيدة / عايدة مرقص حنا , تستقبله مع مكرم بالترحاب والإعزاز ــ قرأ مكرم القصيدة فأعجبته , فسأله عن مؤلفها , فذكر له عبد الوهاب أنه محمود حسن إسماعيل ناسيًا بالطبع اسم الشاعر الذى ألفها , ولم يتم اكتشاف الأمر إلاَّ بعد أن بادر مكرم عبيد بالإتصال بمحمود حسن إسماعيل ليطلب موافقته على تلحين وغناء صديقه عبد الوهاب للقصيدة , فرحب شاعر الكوخ , ولكن عندما بدأ مكرم يقرأها عليه , نبهه إلى أن هذه القصيدة ليست له , وإنما للشاعر على محمود طه .

يضيف عبد الوهاب .. « فى تلك الليلة , بينما كان الأستاذ مكرم عبيد يتحدث فى شئون السياسة مع صديقهما المشترك عبد الحميد عبد الحق , كان هو يدندن ــ أى عبد الوهاب ــ بالكوبليه الأول من أغنية الجندول » .

فى موضع أخر , يروى عبد الوهاب أنه لم يتعرف فى شبابه بصوت للثورة , أجمل وأعذب من صوت مكرم عبيد , أفصح خطباء الوفد , فهو يملك صوتًا رخيمًا , يمثل أجمل وأعذب صوت سياسى سمعه فى حياته !

أما السيدة / عايدة هانم بنت الأستاذ المحامى والسياسى الكبير مرقص باشا  حنا , وكلمة « هانم » هى التى يحرص عبد الوهاب بأسلوبه الرشيق على ذكرها , رغم الصداقة الوطيدة , ويذكر لها أنها وهى زوجة المجاهد الكبير مكرم عبيد , وابنة مرقص باشا حنا , فإنها كانت من أشد المعجبين بصوت عبد الوهاب وأغانيه , ولا تخفى اعتزازها بصداقته وزوجها المجاهد الكبير هرم المحاماة ,

ومن خلال مكرم وبيت مكرم الذى كان عبد الوهاب يتحرك فيه بحرية ، باعتباره قد صار من أفراد الأسرة , ولم يكن لمكرم وعايدة أولاد , وفى هذا البيت كان يحلو له أن يعزف على البيانو القيم , وأن يدندن بألحانه فى فترة مولدها , وفى هذا البيت تعرف على عدد من زعماء الوفد ، حتى ظنته الصحف وفديًا من رجال الوفد , ولم يكن ذلك صحيحًا .

هذا جانب لا نعرفه ، أو لا يعرفه كثيرون , من مناقب مكرم عبيد , هرم المحاماة , والوطنى الكبير , والزعيم السياسى ..

يتندر كثيرون بأنه كان على قبطيته , عارف بالقرآن , حافظ لغير قليل من آياته , اشتهر بأنه يستشهد بها فى مرافعاته , ولكن لا علم للسواد الأعظم بأن مكرم عبيد فنان حقيقى , سامع , وممارس , والفن منسوج ــ لا سيما الموسيقى ـ فى تكوينه .

لا أُخفى عليك أن هذه السطور شدتنى , وكان فى مقدمة أسباب إهتمامى بها , أنها قد فاتتنى فى المقالات الخمس التى كتبتها للأهرام عن الهرم الأكبر فى عالم المحاماة : مكرم عبيد .

زر الذهاب إلى الأعلى