بين محفوظ والسباعي
نشر بجريدة الوطن الجمعة 7 / 8 / 2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
لا يخطىء المتأمل فى حياتنا الثقافية والفكرية والأدبية والفنية ، وفى حياتنا بعامـة ، أنـه قـد تآكلت واختفت الدوائر « الحاضنة » التى كانت تتلقى وتشمل بالرعاية البراعم الجديدة ، أو تتبادل الاهتمام والدعم فيما بين المستويات المتوازية أو المتقاربة حتى وإن كانت متنافسة ، فلماذا أجدبت الساحة بعامة من هذه الدوائر الحاضنة ، ومنها النقد الأدبى الذى كان دوره هو الداعم الفاعل للمواهب الجديدة ، والجالب لالتفات واهتمام الناس ، وتخصيب وتلقيح أفكار ورؤية الجدد ، وتمكين أقدامهم من الرسوخ فى الأرض .. أين ذهب الدور الذى كانت تؤديه الجمعيات والجماعات الأدبية والفنية بل والأحزاب السياسية والتى وإن بقيت اسماً ، إلاّ أن بوصلتها ومعها دورها قد تاها فى الصراعات على الإقطاعيات والمراكز والألقاب والتفاهات .. أين ولت الحميمية التى كانت تحفظ جسـورا بين الكتاب والأدباء والفنانين ، ومهما بدا على الساحة من تعارك أو نزال ومقارعات .. هذا الجو الدافئ هو الذى كفل بقاء واستمرار الدور الفاعل لقمم الزمان الفائت ، وهو الذى استقبل تباعاً الأجيال المتتابعة ورعاها وخصبها ومكن لها حتى ضربت بجذورها فى الأرض، وارتفعت أفنانها إلى السماء .
شدنى إلى هذه المعانى « ذكريات » أديبنا الفذ نجيب محفوظ التى سجلهـا الأستاذ جمـال الغيطانى تحت عنوان : « نجيب محفوظ يتذكر » .. فيها روى « الصدمة » التى أصابته حين استهول المرحوم سعيد السحار حجم الثلاثية وانفلتت منه عبارة : « إيه الداهية دى ؟! » .. كانت الثلاثية رواية واحدة بعنوان « بين القصرين » .. جعل السحار يقلب صفحاتها الألف قبل أن يقول : « كيف أطبع هذه ؟! إن ذلك مستحيل » .
يسترجع نجيب محفوظ هذه الصدمة ويحكى كيف عاد يومهـا إلى البيت وهو فـى منتهى الحـزن . يقول لنفسه وقد شارف على الانهيار : « أبعد هذه السنوات من العمل ، أبعد هذا الجهد الشاق لا أستطيع نشر أكبر وأعز عمل ؟! مررت بأيام يأس ـ والحكى لنجيب محفوظ ـ وفى إحدى المرات كنت فى نادى القصة ، وتحدثت عن روايتى الضخمة التى فشلت فى نشرهـا ، وإذا بالمرحوم يوسف السباعى يطلبها منى . أخذها يوسف السباعى كلها ، وكانت مخطوطة وحيدة . لم أكن قد نسختها على الآلة الكاتبة . كان من الممكن أن تضيع ، لو أن هذه النسخة الوحيدة فقدت من المرحوم يوسف السباعى لأى سبب ـ لضاعت الثلاثية إلى الأبد ! »
يستكمل نجيب محفوظ ذكرياته ، فيروى كيف صدرت بعد الثورة مجلة « الرسالة الجديدة » ، وكيف أنجز يوسف السباعى وعده ، وبدأ نشر فصول « بين القصرين » ، فلاقت نجاحاً لفت نظـر المرحوم سعيد السحار ، فاقترح تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء ، ومن هنا جاء عنوان : « قصر الشوق » ، و « السكرية » .. وأصبحت بين القصرين ثلاثية .
أغنانا نجيب محفوظ عن استقصاء حالته فى تلك الأيام ، فلم يخف أنه أصيب بصدمة فظيعة هائلة وأوشك على الانهيار، ولكـن لسـت أدرى ماذا كان تصوره حين أعطى نسخة أو مخطوطة الرواية الوحيدة إلى المرحوم يوسف السباعى .. إنه روائى ومن جيله، واحتمال المنافسة قائم ، بل هو حقيقة مؤكدة ، فكيف استطاع نجيب محفوظ أن يغامر ، وكيف استطاع يوسف السباعى أن يعاون ؟! .. لـم يخف نجيب محفوظ على نسخته التى لـو ضاعت لضاع العمل كله إلى الأبد ، ولا داهن يوسف السباعى أو ناور فى وعد أعطاه كان يستطيع السكوت عنه .. لم يمنع تنافس الجيل الواحد من أن يطمئن نجيب محفوظ على روايته ، ومن أن يصدق يوسف السباعى فى وعده الذى رأت به الرواية سبيلها إلى جمهور المتلقين ، وإلى الحياة التى عاشتها ولا تزال تعيشها للآن . كذلك موقف المرحوم سعيد السحار الذى لم يجد غضاضة فى أن يرجع عن تحفظه ، وفى أن يبادر بالاتصال لدعوة نجيب محفوظ لنشر العمل ، وإخلاص النصيحة إليه بتجزئته إلى أجـزاء ثلاثـة بعناوين مختلفة .. ربما عزونا موقف السحار إلى حسابات الناشر ، سواء فى رفضه أو فى دعوته الثانية، ولكن موقف يوسف السباعى موقف مقطر مصفى .. لو لم يكن ليوسف السباعى فى باب الإيثار المخلص إلاّ هذا الموقف ـ لكفاه !
هذا الموقف لا يتوازى معه ولا يدانيه نجدة الصديق للصديق بعامة .. قد يكون عادياً أو غير غريب أن يقرض الصديق صديقـه أو زميله ، أو أن يعينه فى شـدة ، أو أن يعزيه فى وفـاة ، أو يجاملـه فى أفراح ، أو يعوده فى مرض .. أما موقف يوسف السباعى فموقف يورى بإيثار لافت ، لأنه ونجيب محفوظ فى حقل الرواية متنافسان ، وقد يحسب الصغير أن تقدم وعلـو غيره يؤخـره ، فيضن عليه بالعـون والمدد ، ولا يستطيع إلاّ أن يكـون شحيحـاً ضنيناً لا يرى إلاّ ذاته ، ويرى فى إتاحة الفرصة لمنافسه انتقاصاً من فرصته بل ومن مكانته .. هذا الإيثار مـن المحال أن ينمو هذا النمو ويمضى بهذه العراضة وهذه الروح المصفاة ، إلاّ فـى أرض خصبة وارفة ، ساد فيها « التكافل » وتبادل فيها أهـل الفكر والفن والأدب سجية
« الاحتضان » وتبادل الرعاية والوفاء !
لـو كان موقـف يوسف السباعى يتيمـاً فريدا ، لقلنا إنه « نشاز » لا يعبر عن إيقاع ولا عن التيار الجارى فى ذلك الأوان ، ولكن نجيب محفوظ يروى لنا ، فى مواضع أخرى من ذكرياته ، كيف كان يبث مشاعره ويعرض بعض إنتاجه على الكاتب الروائى المرحوم عبد الرحمن الشرقاوى ، وكيف عرض عليه سبعة موضوعات كانت لديه يشاوره بشأنها بعد ما توقف فترة بعد الثلاثية .. وكيف أرسل المرحوم مصطفى أمين ـ وبلا تعارف سابق ! ـ من يعرض عليه أن يكتب قصتين فى الشهر لأخبار اليوم لقاء أربعين جنيها كانت شيئا فى أوائل الأربعينيات .. حين قرأ مصطفى أمين إحدى روايات محفوظ ـ وكان فـى بداياته ـ واستشعر موهبته ، لم يتردد فى القيام بهذه المبادرة .. كنا نرى فى أسرة الكتاب بالأهرام وأخبار اليوم قامات عالية .. تباهى بهم كل دار صحفية ، وتقدم بكتاباتهم للقراء ما يثرى ويشبع ، مؤديةً دورها كحاضنة للحياة الثقافية والأدبية والفنية إلى جوار مهامها الإخبارية والسياسية .. رأينا هذا الزخم فى الجمعيات والجماعات الأدبية والفنية التى توارى دورها الآن أو يكاد ، وفى المجلات الأدبية والفنية والشهريات المتخصصة التى كانت تصدر بانتظام حافلةً بوجبات متنوعة من القدامى والقامات العالية ، ومن المواهب الجديدة .. هذه المجلات توارى معظمها أو تآكل دوره أو قل توزيعه بحكم التضخم وارتفـاع أسعـار الـورق مـن ناحية ، وبحكـم المنافسة غير المتكافئة مع مهرجان القراءة الذى وإن يسر الكتاب ، إلاّ أنه لا تقف وراءه دائـرة « حاضنة » تؤدى ولـو بعض ما كانت تؤديه الحاضنات فى الزمن الفائت .. ومع هذا التوارى أو التآكل أو تراجع الدور ، تراجع النقد الأدبى وتقلص عدد النقـاد الجادين ، وكانا كلاهمـا : النقد والناقد ـ « حضانة » هامة ومؤثرة فى الحياة الثقافية والأدبية والفنية !
هذا التراجع شمل للأسف حياتنا بعامة فى كل مضمار ، وأضاع فيما أضاع التواصل بين الأجيال ، ويكاد يغلق الأبواب أمام المواهب الجديدة . بل وأمام القامات الراسخة ، مما غدا معه التعبير والإسهام بعامة ـ مكابدة حقيقية فى أرض تبدو خاوية موحشة كالبلقع ـ أو تكاد !