بين القانون وعلم النفس.. ظاهرة التخدر الشعوري
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
المستشار القانوني بدائرة القضاء – أبو ظبي
مقدمة
«ضد الحكومة» هو اسم فيلم مصري يعود تاريخ العرض الأول له إلى الحادي عشر من شهر يونيو 1992م، ولعب دور البطولة فيه الفنان الكبير الراحل أحمد زكي والفنانة الكبيرة لبلبة والفنانة عفاف شعيب، ومن تأليف آمالي بهنسي، وإخراج المخرج الكبير عاطف الطيب. وتدور قصة هذا الفيلم حول مصطفى خلف المحامي الذي اعتاد على استغلال ضحايا الطرق، ليأخذ من عائلاتهم توكيلات تمكنه من الحصول على التعويض بنفسه، كما يقوم بتدريب بعض المحامين ليحصل على كثير من الأموال، ومن الحوادث التي يعرضها الفيلم حادث تصادم بين قطار وسيارة طلاب يؤدي لوقوع ضحايا وإصابات. فبعد فصله من النيابة العامة لسوء سلوكه، اتجه مصطفى خلف إلى المحاماة، وتخصص في الدفاع عن المشبوهين والخارجين عن القانون، مستغلاً براعته في الإلمام بثغرات القانون، حيث برز نشاطه في قضايا التعويضات مستغلاً أوجاع البشر في الكسب المادي، إلى أن يجد ابنه الوحيد ضحية حادث سير، فتنقلب الأمور وتتصاعد الأحداث.
وفي أحد مشاهد هذا الفيلم، يترافع المحامي مصطفى خلف عن أحد المتهمين في جريمة اغتصاب فتاة كانت تلعب مع قريناتها في مكان عام، فاستدرجها إلى مكان وسط الأحراش، قاصداً اغتصابها عنوة، وعندما حاولت مقاومته، كتم صوتها بكل وحشية حتى تم له ما أراد. وقد أثبت تقرير الطب الشرعي أنه قضى على براءتها وفض بكارتها. ولإثبات أن الأمر قد تم برضاء المجني عليها، أمسك مصطفى خلف بقلم حبر وأعطاه لرئيس الدائرة القضائية الناظرة للدعوى، طالباً منه إدخال القلم في الدواة وهي مغلقة وغير مفتوحة. وعندما استنكر القاضي أن يطلب منه المحامي إدخال القلم في الدواة المغلقة. وهنا، يقول المحامي: إذن لا يمكن إدخال القلم في الدواة إلا بعد فتح الغطاء. وبعد فتح الغطاء، يطلب المحامي مرة أخرى من القاضي إدخال القلم في الدواة، مع محاولة المحامي تحريكها وعدم تثبيتها. وهنا، يستنكر القاضي مرة أخرى قيام المحامي بتحريك الدواة، بما حال بين القاضي وبين نجاح محاولته إدخال القلم في الدواة. وقد كان قصد المحامي من كل ذلك هو التأكيد على استحالة حدوث الإيلاج الجنسي بدون رضاء من المجني عليها، وسماحها به من خلال ارتخاء عضلات فرجها. ويبدو من أحداث الفيلم أن المحامي قد نجح في تحقيق مأربه والحصول على البراءة لموكله، مدللاً على رضاء المجني عليها بتحقق الإيلاج.
والواقع أن التدليل الذي لجأ إليه المحامي في المشهد سالف الذكر من الفيلم يتناقض مع معطيات علم النفس، وتحديداً ظاهرة التخدر الشعوري أو ظاهرة الخدر النفسي على حد قول البعض. كذلك، فإن القضاء ببراءة المتهم في هذه الحالة يتنافى مع المنطق القانوني وما هو مقرر قانوناً وقضاءً وفقهاً بشأن جريمة الاغتصاب وغيرها من الجرائم المشابهة لها في الطبيعة، كما هو الشأن في جريمة الاتجار بالبشر.
وعلى هذا النحو، تتضح خطة الدراسة في هذا البحث، والذي نرى من الملائم تقسيمه إلى ثلاثة مطالب، كما يلي:
المطلب الأول: نظرية التخدر الشعوري.
المطلب الثاني: شواهد التخدر الشعوري في الوقائع المشاهدة.
المطلب الثالث: التخدر الشعوري لا ينفي تحقق الإكراه قانوناً.
المطلب الأول
نظرية التخدر الشعوري
ارتبط مصطلح «التخدر الشعوري» أو «الخدر النفسي» بأم الفظائع في القرن العشرين، حيث صكه الكاتب والطبيب النفسي الأمريكي «روبرت جاى ليفتون» في كتابه «الموت في الحياة»، ليصف تراجع القدرة على الإحساس بين الناجين وعمال الإغاثة بعد تفجير هيروشيما، والتي نتجت عن هول الكارثة، كآلية دفاعية للعقل في مواجهة الصور والأحداث التي تفوق القدرة على التصور والاحتمال.
Robert Jay LIFTON, Death in Life, Survivors of Hiroshima, 1967.
والظاهرة ذاتها تناولها بالشرح والتحليل كتاب «الأرقام والأعصاب: المعلومات، المشاعر والمعنى في عالم البيانات»، حيث تبرز الدراسات التي يضمها الكتاب، عددا من القوانين النفسية التي تحكم التعامل مع الكوارث النفسية، والطبيعية، وآثار الحروب، التي يصعب على العقل استيعابها وعلى المشاعر تحملها، ويأتي الخدر النفسي أو العاطفي في القلب منها. فمن المفارقات الحادة التي تشير إليها الدراسات، هي أنه كلما ازدادت المأساة اتساعاً، وتواترت الأرقام والإحصاءات حول عدد القتلى، بهت التعاطف! هذا القانون القاسي للاعتياد، وتراجع الحساسية للألم كلما اشتد. راجع بالتفصيل في هذا الشأن:
Scott SLOVIC & Paul SLOVIC, Numbers and Nerves: Information, Emotion, and Meaning in a World of Data, Oregon State University Press, October 15, 2015.
المطلب الثاني
شواهد التخدر الشعوري في الوقائع المشاهدة
الواقع أن ظاهرة «التخدر الشعوري»، أو ما يطلق عليه البعض «الخدر النفسي»، يمكن أن تفسر لنا بعض الأحداث المشاهدة التي نعيشها، ومنها ما يحدث حالياً في قطاع غزة من عدوان إسرائيلي همجي مستمر منذ الثامن من شهر أكتوبر 2023م وحتى الآن. ففيما يتعلق برصد رد فعل الشعوب العربية إزاء ما يتعرض له المدنيون العزل في قطاع غزة، وعلى حد قول بعض الكتاب، «تطالعنا على صفحات التواصل الاجتماعي عبارتان يشاركهما الكثيرون بخصوص الفظائع التي نستيقظ عليها يومياً في غزة، إحداهما براءة للذمة، بدأ ترديدها منذ بداية الأحداث وهي (أبدا لم نعتد المشهد ولكننا نشعر بالعجز). أما العبارة الثانية، فقد ظهرت مؤخراً مع الخوف من تراجع الاهتمام وإلف المعاناة، والميل لتجنب الأخبار، ومضمونها أن (ما لا نستطيع تحمل مشاهدته، هو واقعهم الذي يعيشونه). وتلعب تلك الأخيرة على وتر الشعور بالذنب لإبقاء التعاطف حيا، حيث تذكر الجميع بأن صور المآسي التي لا يهربون من مشاهدتها لتمضي حياتهم طبيعية، لا يعكر صفوها ألم، هي واقع يومي يتجرعه الفلسطينيون. فالعبارة الأولى هي تذكرة للنفس، ومقاومة شخصية لقانون الاعتياد، بينما الثانية هي محاولة لاستنهاض الضمير الجماعي، وإحياء التآزر والتضامن، خشية الانزلاق إلى اعتياد الألم وفقدان الحساسية تجاه الفظائع كلما تكررت، واستمرت، واتسع نطاقها، وهي الظاهرة التي تعرف بالخدر النفسي».
ولعل العامل الأول الذي يدفع إلى الخدر النفسي، هو الشعور بالعجز وعدم القدرة على رفع المظلمة، وتسرب اليأس، وانعدام الحافز للفعل كآلية دفاع نفسية. ويعبر الشق الثاني من العبارة المتداولة بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي (أبداً لم نعتد ولكننا نشعر بالعجز) خير تعبير عن هذا الموقف النفسي. فكلما زاد شعور الناس بعدم قدرتهم على التأثير وإحراز النتائج، تراجع ميلهم إلى المحاولة. بل إن شعور الفرد بقدرته على التأثير مرتبط بازدياد معدلات التوتر والاكتئاب الناجم عن عدم مشاركته في الفعل، ما يدفعه إلى تبنى أي فعل تضامني، وذلك على عكس الارتياح وربما البلادة التي تتسلل إلى النفس كلما ظن الإنسان في نفسه تمام العجز وقلة الحيلة، وهو ما تشير إليه الدراسات بظاهرة الشعور الكاذب بانعدام الفاعلية كأحد العوامل الأساسية المؤدية للخدر واللامبالاة. وربما يفسر ذلك ميل الكثير من الشعوب العربية، وبعض الدول الإسلامية، إلى تبنى آلية المقاطعة الشعبية كبديل عن التظاهر، وذلك على خلفية الشعور بأن المقاطعة كفعل مقاوم، تسترد زمام المبادرة وتفتح نافذة للفعالية الحقيقية أو الرمزية. وقد يفسر هذا القانون النفسي أيضاً سلوك (بائع البرتقال) الذي ظل يحاول إيصال جهده وعطائه لآخر لحظة، حين عنت له لحظة الفعل، وفرصة التأثير.
وبالإضافة إلى العامل السابق، ثمة عامل آخر يدفع باتجاه تخدير المشاعر، وهو تسيد اعتبارات أكثر إلحاحاً في لحظة بعينها، وعلى رأسها الأمان الفردي والجماعي، وتأمين لقمة العيش. بل إن قوة العادة، ورمزية مواسم بعينها، وما يرتبط بها من طقوس اجتماعية مثل شهر رمضان، قد تطغى على الأحداث، وتصاحبها حالة من الخدر المؤقت، رغم ما ينطوي عليه ذلك من تناقض جوهري، كون الشهر الفضيل أولى بالبذل، والسعي لرفع المظالم. فمع اقتراب شهر رمضان، بدأت أحاديث الاستعداد، وبرامج الطبخ، وإعلانات الملابس الرمضانية، مع تذييل بعض الفقرات والبرامج والمنشورات بدعاء للجوعى والمكلومين. وما هي إلا أيام قليلة حتى نتبين هل تغطى موائد رمضان، وعاداته على صور الجياع، وأخبار الموت جوعا، أو قتلا في صفوف المعونة الغذائية؟ وهل تغنى روحانيات الخلاص الفردي عن التضامن الجماعي في لحظات المحن الكبرى؟!
وفي المقابل، وفي مواجهة ظاهرة الخدر النفسي، ورغم فداحة الأرقام والحقائق المجردة، فإنها ليست ما يحركنا لمواجهة العنف المنهجي، بقدر ما تحركنا الصور والحكايات التي تقرب القصة من الوجدان وتعد الدافع الأول للحركة. ولا تعدم معاناة الفلسطينيين الوجوه، والصور، والحكايات، والنماذج الفردية الملحمية، التي تظل شاهداً على أن الارتباط العاطفي بالحالة أو النموذج يلعب دوراً أساسياً في إبقاء المشاعر حية، وعدم تحول المأساة إلى أرقام يومية في نشرات الأخبار. فالناس أكثر قابلية للتضامن مع شخص يعرفون وجهه واسمه وحكايته، من قدرتهم على التضامن مع الآلاف الذين لا يعرفونهم، ولذلك حظيت قصص بعينها بقدر هائل من مشاعر التعاطف، وعبرت بأيقونتها عن القضية وضحاياها غير المرئيين (راجع: د. هناء عبيد، الخدر النفسي واعتياد المأساة، جريدة الأهرام، قضايا وآراء، الأربعاء 25 من شعبان 1445هــ الموافق 6 مارس 2024م، السنة 148، العدد 50129).
المطلب الثالث
التخدر الشعوري لا ينفي تحقق الإكراه قانوناً
تمهيد وتقسيم:
بإمعان النظر في العديد من الأحكام القانونية والقواعد الفقهية، والبحث عن الأساس المنطقي والفلسفي لها، يمكن أن نجد لها سنداً من معطيات علم النفس، وعلى وجه التحديد في الظاهرة النفسية المعروفة تحت اسم «الخدر النفسي» أو «التخدر الشعوري». وفي اعتقادنا أن هذه النظرية تشكل الأساس الفلسفي والمنطقي القوي للمبدأ القانوني المقرر «عدم اشتراط استمرار الإكراه طيلة الاتصال الجنسي» لتوافر جريمة الاغتصاب. كذلك، يمكن أن تشكل هذه النظرية الأساس المنطقي والفلسفي، ولو بشكل جزئي، لمبدأ «عدم الاعتداد برضا الضحية في جريمة الاتجار بالبشر». ويمكن كذلك أن تقف هذه النظرية وراء القاعدة الأصولية التفسيرية القائلة «يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء». ولعل ذلك يبدو جلياً من خلال العرض التالي:
لا يشترط في جريمة الاغتصاب استمرار الإكراه طيلة الاتصال الجنسي
تقرر أحكام القضاء المصري منذ عهد بعيد أن القانون لا يتطلب استمرار الإكراه طيلة الاتصال الجنسي، وإنما يكفي أن يكون الوسيلة إلى ابتدائه؛ فإذا قاومت المرأة أفعال العنف، ثم انهارت مقاومتها، فاستسلمت عجزاً عن المقاومة أو يأساً من جدواها، فلم ير الجاني حاجة إلى الاستمرار في العنف، فإن الإكراه يتحقق مع ذلك (نقض 2 فبراير سنة 1925م، مجلة المحاماة، س 5، رقم 608، ص 736، مشار إليه في مؤلف أستاذنا الدكتور محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، وفقاً لأحدث التعديلات التشريعية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2012م، رقم 726، ص 611).
ويبدو أن إجماع الفقه الجنائي يكاد ينعقد على ذلك. وهذا القول منا بإجماع الفقه، مبني على أساس عدم صدور أي اعتراض من قبل أي فقيه من الفقهاء (راجع على سبيل المثال: د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، وفقاً لأحدث التعديلات التشريعية، المرجع السابق، رقم 726، ص 611). بل إن بعض الفقهاء لم يتعرضوا لهذه المسألة على الإطلاق (راجع على سبيل المثال: د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص، الكتاب الثاني، جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة السادسة، مزيدة ومنقحة، 2016م، رقم 163، ص 238 و239). ومن ثم، يبدو سائغاً من وجهة نظرنا القول بانعقاد الإجماع الفقهي على مبدأ عدم اشتراط استمرار الإكراه طيلة الاتصال الجنسي» لتوافر جريمة الاغتصاب. فعلى حد تعبير الفقهاء الشرعيين، فإن ما يطلق عليه «الإجماع السكوتي» يعد متوافراً في هذا الشأن (راجع فيما يتعلق بالإجماع السكوتي عند الشرعيين: د. يوسف قاسم، أصول الأحكام الشرعية، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1414ه- 1994م، ص 161).
عدم الاعتداد برضا الضحية في جريمة الاتجار بالبشر
فيما يتعلق بجريمة الاتجار بالبشر، يكاد ينعقد إجماع التشريعات العربية على عدم الاعتداد برضاء الضحية، متى ثبت استخدام الجاني القوة أو التهديد وغير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو إساءة استعمال السلطة أو استغلال النفوذ أو استغلال حالة الضعف، وذلك بغرض الاستغلال. فعلى سبيل المثال، وطبقاً للمادة الثالثة الفقرة الأولى من القانون المصري رقم 64 لسنة 2010 بشأن مكافحة الاتجار بالبشر، «لا يعتد برضاء المجني عليه على الاستغلال في أي من صور الاتجار بالبشر، متى استخدمت فيها أية وسيلة من الوسائل المنصوص عليها في المادة (2) من هذا القانون».
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، وطبقاً للمادة الثالثة البند الأول من المرسوم بقانون اتحادي رقم (24) لسنة 2023 في شأن مكافحة الاتجار بالبشر، وتحت عنوان «عدم الاعتداد برضا الضحية»، «لا يعتد برضا الضحية في أي صورة من صور الاتجار بالبشر، متى استخدمت فيها أية وسيلة من الوسائل المنصوص عليها بالبند رقم (1) من المادة (2) من هذا المرسوم بقانون».
وفي المملكة العربية السعودية، وطبقاً للمادة الخامسة من نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص، الموافق عليه بالمرسوم الملكي رقم م/ 40 بتاريخ 21/7/1430هـ، «لا يعتد برضا المجني عليه في أي جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا النظام».
وفي دولة الكويت، وطبقاً للمادة الثانية الفقرة الأخيرة من القانون رقم 91 لسنة 2013 في شأن مكافحة الاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين، «في جميع الأحوال لا يعتد بموافقة المجني عليه أو برضائه عن الأفعال المستهدفة بالاستغلال في هذه الجرائم».
وفي سلطنة عمان، وطبقاً للمادة الثالثة من قانون مكافحة الإتجار بالبشر، الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 126/2008م، «لا يعتد برضاء المجني عليه في أي حالة من الحالات الآتية:
أ- إذا استخدمت أي من الوسائل المبينة في المادة (2/أ) من هذا القانون.
ب- إذا كان المجني عليه حدثاً.
ج- إذا كان المجني عليه في حالة ظرفية أو شخصية لا يمكن معها الاعتداد برضائه أو حرية اختياره».
وفي دولة قطر، وطبقاً للمادة الثالثة من القانون رقم (15) لسنة 2011 بشأن مكافحة الاتجار بالبشر، «لا يعتد برضاء المجني عليه في أي من جرائم الاتجار بالبشر متى استخدمت أي من الوسائل المنصوص عليها في المادة السابقة. ولا يشترط لتحقق جريمة الاتجار بالأطفال أو عديمي الأهلية، استعمال أي وسيلة من الوسائل المشار إليها».
ورغم خلو القانون البحريني رقم (1) لسنة 2008 بشأن مكافحة الاتجار بالأشخاص من نص نظير، يبدو سائغاً القول إن الاجتهاد القضائي يمكنه أن يخلص إلى النتيجة ذاتها استناداً إلى ظاهرة التخدر الشعوري التي قيل بها في إطار دراسات علم النفس، واستناداً إلى القاعدة الأصولية التفسيرية القائلة بأنه «يُغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء»، والتي نتناولها بالشرح والتحليل فيما يلي:
القاعدة الأصولية التفسيرية “يُغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء»
يمكن أن نجد للأحكام القانونية سالفة الذكر سنداً لها في القاعدة الأصولية التفسيرية «يُغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء». وبعبارة أخرى، «يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء». وتوضيحاً لهذه القاعدة، يقول الفقهاء إنه: «يغتفر»، أي قد يتسامح ويتساهل في «البقاء» أي في خلال الأمر وفي أثنائه، ما لا يغتفر في الابتداء عند إنشائه، وذلك لأن «البقاء أسهل من الابتداء». وبتعبير آخر: ما لا يجوز في الابتداء يجوز بقاءً، أو ما لا يثبت قصداً وبالذات يجوز ثبوته ضمناً وتبعاً، لأن وجود الشيء ابتداء لا يخلو من شروط، وربما لا تبقى إلى الانتهاء لانعدامها، أو عرض ما ينافيها. ولذلك كان الاستصحاب يكفي حجة للدفع، لا للاستحقاق، لأن الدفع عبارة عن استبقاء وتقرير ما كان على ما كان عليه، والاستحقاق: نزع وابتداء، ورفع الأول أسهل، فاكتفي فيه بالاستصحاب حجَّة، بخلاف الثاني فإنه أهملا فلا بد فيه من البينة، فقد قال أبو يوسف رحمه الله في كتاب «الخراج»: «لا ينزع الشيء من يد أحد إلا بحق ثابت معروف». وهذه القاعدة فرع لقاعدة «البقاء أسهل من الابتداء» (راجع: د. محمد مصطفى الزحيلي، كتاب القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، الجزء الأول، ص 424، القاعدة رقم 68).
خاتمة
تناولنا في هذه الدراسة «ظاهرة التخدر الشعوري»، منظوراً إليها باعتبارها إحدى نظريات علم النفس. وقد تبين لنا عبر هذه الدراسة مدى الأهمية التي تحظى بها هذه النظرية في تفسير العديد من سلوكيات وتصرفات بني البشر، وكذا في تفسير العديد من الأحكام القانونية والقواعد الأصولية التفسيرية.
والنتيجة التي يمكن أن نخلص إليها في ختام هذه الدراسة هي أنه «لا يمكن تفسير التخدر الشعوري بأنه رضاء». فثمة فارق بين الرضا وبين استسلام المجني عليها. ففي عالم الحيوانات المفترسة، و «مع اطلالة كل صباح في أفريقيا، يستيقظ الغزال مدركاً ان عليه ان يسابق أسرع الاسود عدواً وإلا كان مصيره الهلاك. ومع اطلالة كل صباح في أفريقيا يستيقظ الأسد مدركاً ان عليه أن يعدو أسرع من أبطئ غزال وإلا أهلكه الجوع» (صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رؤيتي «التحديات في سباق التميز»). وهكذا، يحاول الغزال الإفلات من هجوم الأسد عليه، والحفاظ على حياته، من خلال محاولة الهروب من أنياب الأسد. ولكن، وبمجرد نجاح الأسد في الإمساك به والانقضاض عليه، يستسلم الغزال لمصيره المحتوم، فلا تصدر عنه أي مقاومة، إدراكاً منه للفوارق الرهيبة في القوة البدنية بينه وبين الأسد. ولكن، لا يجوز أن يفهم من استسلام الغزال رضاه بإزهاق روحه.